الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عقدة السلطة عند كافكا

خليل الشيخة
كاتب وقاص وناقد

(Kalil Chikha)

2011 / 9 / 10
الادب والفن


مقدمة :
فرانز كافكا هو روائي تشيكي كتب في الألمانية. أثارت أعماله وما زالت موجة هائلة من النقد. فقد كتب عنه آلاف المقالات والكتب ، ففي ألمانيا وحدها بلغت لا يقل عن الستة عشر ألفاً ومئات الأطروحات للدكتوراه ، فلم يلق كاتب من قبله هذا الحضور المؤثر، رغم أنه لم يحظ في حياته بأية شهرة تذكر، وظل ذكره خاملاً دون اهتمام حتى أفول الحرب العالمية الثانية، فقد أخذ النقاد يعدون كتاباته سمة من سمات القرن العشرين وتعبيراً جوهريا ًله، ومن خلال هذا التطور المكتسب، أصبح مصطلح "كافكاوي" يعني حالة عالم مليء بالغربة والتشرد والضياع والتعذيب واللامعقولية وانمساخ القيم الإنسانية إلى غرائز حيوانية .وبذلك خضعت آثاره إلى تفسيرات منها الديني والفلسفي والنفسي والاجتماعي والسياسي .
ولشدة الإعجاب والتبجيل لأدبه تم الاحتفاظ بنصوصه لأهميتها، رغم كثرة الأخطاء اللغوية والإملائية فيها، دون إيراد أي تصحيحات عليها. نشأت ميوله الأدبية منذ نعومة أظافره، فقد كتب مقطوعة شعرية في سن الرابعة عشر تقول : ثمة مآب ، وثمة ذهاب ،ثمة فراق ...وغالباً لا تلاق.
إضافة لذلك فقد حقق نجاحاً في دراسته الأكاديمية، حيث حصل على دكتوراه في الحقوق في وقت مبكر عام 1906 ، لكن قبل أن يرى شهرته؛ داهمه مرض سل الرئة فقضى عليه بعد أن ترك وراءه كماً هائلاً من الأعمال التي حيرت كل من قرأها وكل من اشتغل في النقد والأدب.
أدان المعسكر الشرقي أعماله كلياً معتبراً إياها ذات ميول برجوازية وتنتمي إلى العدمية والتشاؤمية بشكل مرضي، حتى أتى جان بول سارتر وطلب في مؤتمر عام 1962 تقييماً جديداً لأعمال كافكا، حيث بدأت تظهر تحليلات جديدة لآثاره لتوظف في أيدلوجيات العصر. ثم سرت موجة من التروّيج ضمن قوالب المفسرين، بشكل أن سارتر وألبير كامو أدرجاها تحت مسمى الوجودية كمدرسة أدبية فلسفية حديثة.
ولسبب اكتناف أعماله الغموض، وانعدام الوضوح، فقد أوّلت بحسب فهم وثقافة الناقد أو القارئ، إلى حد إساءة الفهم. فعلى المستوى الديني، اعتبر ماكس برود صديق فرانز المقرّب أن أدبه عبارة عن وثائق يهودية، وقد فَسَر آثاره على أنها مواقف لاهوتية تحاكي الذنب والمغفرة أو الخطيئة والتوبة . وقال محلل يهودي آخر أن كافكا صور عالماً انسحب منه الخير ولم يبق منه للإنسان سوى العنف والإرهاب.
وأما من الناحية الإيديولوجية فقد فسرت أعماله على أنها نصوص تدين المجتمع الرأسمالي وتصور بؤراً معتمة من البشاعة والنزوع إلى هدر كرامة الإنسان في سبيل المكاسب المادية .
أما التوجهات الليبرالية فقد صنفت أعماله على أنها بمثابة نزع الغطاء عن وقائع استلاب الإنسان في عالم لا قيمة فيه للمبادئ الإنسانية ، فهي تتطلع – أي النصوص- إلى تحرر الإنسان الفرد كونها ترسم مأساته ونقاط ضعفه (أ.ص.193) .
- العقدة الأبوية وانعكاساتها في الأدب:

نشأ "هرمان كافكا" والد فرانز في أسرة يهودية فقيرة ضمن حدود الريف، وقد عاش حياة من الاضطهاد الديني والعرقي مما ضيّق من عزلته العائلية؛ وهرباً من العوز، انتقل إلى المدينة وفتح متجراً فتحسنت حياة الأسرة اقتصادياً. في هذا الجو الصعب ولد كافكا (1883) واغرم منذ صباه بالمطالعة، فقد هضم في فترة قصيرة كل من سبينوزا ونيتشه ثم ديستوفسكي وتولستوي وهرمان هسه . حتى أنه واظب على محاضرات ألبرت اينشتاين في النظرية النسبية (أ.152) وكتب مرة: أنا لا أقيس الكتب بسخافتها أو حكمتها، بل بقدرتها على الأسر. أما علاقته بوالده، فكانت مليئة بالنفور وانعدام الثقة والشعور بالذنب مما ولد قلقاً وعقد نقص أثرت فيما ما بعد في كتاباته وأنتجت أدباً رفيعاً عالمياً. كتب كافكا مرة : " كتاباتي تدور دائماً حولك (أي والده).
يعرف المحلل النفسي روجر موشيلي العقدة على أنها كل ما يعاني المرء من الكف والحصر والضيق النفسي وهي آلية سلوكية في الاستجابة(ب.39) وهناك ما يسمى بعقدة كرونوس ( أله يوناني وهو أب زيوس ) ، وترمي إلى اضطهاد الأب لأولاده وسحقهم بشخصيته وهي الأب الذي يأكل أولاده أو يخصيهم (رمزياً). (ب.37 ).
ففي عام 1913 كتب كافكا إلى خطيبته فيليس يصارحها بمشاعره :" شعوري دائم بالذنب تجاه والدي " . وتجلى هذا في "رسالة إلى الوالد" التي لم يرسلها أبداً حيث تقول :" كنت قد فقدت ثقتي بنفسي واستبدلت بهذه الثقة شعوراً لا نهائياً بالذنب " .(أ.71 ،74 ).
هذا الذنب الذي رافقه طوال حياته لم يكن إلا نتيجة التربية القاسية التي نشأ فيها. لذلك تبلور كل هذا في القصة التي أصبحت الركيزة لأعماله قاطبة ألا وهي " الحكم" فقد صور بطل القصة جورج على أنه يتحمل ذنباً حيال الأب . إن الأب العجوز بندمان يسلب الابن الخطيبة والصديق والأم. هذا الشعور بالذنب جرّ وراءه الفشل في إقامة علاقة صحية مع خطيبته ، فقد عانى من ازدواج في العاطفة. شعوره كإنسان مذنب حيال والديه إذا تزوج، وقد عد ذلك بمثابة خيانة لطفولته كما ورد في مذكراته، أو شعوره بالنقص إذا لم يتزوج مثل بقية البشر. تكتسب قصة الحكم أهمية كبيرة، إذ حاول الكثير من المحللين النفسيين أن يفسروا القصة على ضوء علم النفس عام 1947 . في علاقة ( حب/ كره) الأب.
الأب هنا مصدر في خلق حالة ازدواجية. هو السلطة من جهة، وموضع الحب من جهة أخرى، مما أوقع كافكا في مشاعر لاواعية من المثليّة تجاه والده وهي أحاسيس محتجبة أنتجت تخيلات متعلقة بالعقاب ويكون هنا جورج (أنا) الخارجية لكافكا ويكون الصديق في القصة (أنا) الباطنة. الأول محكوم عليه بالموت من قبل الأب والآخر مقبول بصفته ابناً حقيقياً ؛ أي الصديق في القصة . هنا يأتي انتحار بطل القصة لرغبة دفينة عند البطل وتخلصاً من الذنب الذي في داخله .(أ.117) ،
وتمثل قصة الحكم مع " رسالة إلى الوالد 1919" أزمة هوية عند كافكا . فقد قال الأب في القصة لابنه :
كن ابناً نادماً ومتمرداً على والديك أي بريئاً وشيطانياً. هذا الازدواج ربط المدلول (بعقد أوديب ) حيث تتحول هنا اللغة إلى فعل ونزوع إلى التحرر وإثبات للهوية بالنسبة إلى كافكا القَلِقْ الفاقد للهوية (أ.65).
أزمة الهوية هذه قادت الكاتب إلى محاولته الثانية للانتحار عام 1919 . هي ذات الطريقة التي رمى بها بطله جورج نفسه من النافذة منفذاً حكم والده. هذا الأب الذي بخّسَ ابنه من كل قيمة، حيث سمى كتاباته (خربشات) واحتقر أصدقاءه جميعاً كما كان يحتقره أيضاً، وأنصع دليل على هذا الإذلال والازدراء يتوضح في إسقاطات كافكا في روايته "الانمساخ" التي يتحول فيها البطل إلى حشرة، ثم يرميه الأب بتفاحة تنغرس في جسمه حتى يموت . الموت في القصة يأتي بعد إهانات متتالية وغربة مخيفة يحياها في غرفته منعزلاً مرعوباً بنفس إنسان وجسم حشرة؛ أي يعامله الآخرون ويروه كحشرة لكن المضمون مازال آدمياً. عقدة الدونية هذه هي التي جعلته يوصي بحرق كل آثاره باعتبارها تفاهات وسخافات.
تتجلى قسوة الوالد من خلال إحدى رسائل كافكا لخطيبته فيليس حيث يقول : إن أبي يستبد بي ويدعي زوراً أنني أستبد به . أو ترى عقدة الدونية في يومياته : هناك نتيجة في حياتي أعيشها، وهي أنني أكره نفسي وقدري وأرى أنني رديئاً مداناً . (أ.76).
- رموز السلطة الاجتماعية/السياسية في قصصه:
تتجسد ازدواجية السلطة في رواية "المحكمة" التي يبدأ بها: لابد أن أحدا قد افترى كذباً على يوزف ك(جوزيف) لأنه اعتقل دون أن يفعل إثما ذات صباح جميل. يحلل إريك فروم عالم النفس الأمريكي الرواية ويقول حتى نفهما يجب علينا أن نعدها جزءاً من حلم أو حالة متخيلة خارج المكان والزمان. يشرح فروم: كان شعور البطل ك مشوّشاً . فقد عرف نوعاً واحداً من القانون الأخلاقي – السلطة الصارمة التي وصيّتها الأساسية هي الطاعة. إنه لا يعرف سوى الضمير الاستبدادي الذي يعتبر الطاعة هي الفضيلة الكبرى والتمرد هو الجريمة الكبرى، ولهذا كان من الصعب عليه معرفة الضمير الإنساني الذي يعيدنا إلى ذواتنا (ج.298). تتمثل السلطة الاجتماعية والدينية في هيئة الكاهن والقانون. أما السلطة السياسية فتتمثل في هيئة القضاة والشرطة التي تعتقله حيث يظل حتى النهاية لا يعرف التهمة ولا القانون الذي استندت عليه الهيئة في إدانته رغم أنه يقبل حكم الموت الصادر من المحكمة.
أما قصة "مستعمرة العقاب" فتتجلى السلطة السياسية في شخصية الضابط (الرئيس) والسلطة الاجتماعية تركن في القانون العبثي الذي يتواشج مع آلة الإعدام التي تدون الحكم في جسد الضحية بالإبرة حتى الموت. حيث نرى استسلام طوعي للحكم وقدر لا مفر منه، فهو يبدأ: كان الرجل المحكوم مثل كلب مطيع، حيث يظن المرء بأن باستطاعته الجريان بالهضاب المحاطة ولا يحتاج سوى صفارة واحدة عندما يحين وقت إعدامه كي يرجع (د.50). وتختلط السلطة في شخصيات متفرقة في قصة الوقاد وتتوزع الأدوار فيها بحيث تحتفظ في علاقة متنافرة بين (ابن|أب) لتأخذ مسارات أبعد من الشكل المطروح، وتتكرر حالات الضياع في رواية القلعة حيث يكون ممثل السلطة فيها هو الكونت فست الذي يحكم محتجباً، وتبرز الغربة بقامتها المسيطرة في مشهد المرأة التي تسأل المساح ك : من أنت؟ ألست من القلعة؟ ألست من القرية؟ إذاً أنت لاشيء،أنت غريب!
حتى في قصة " الانمساخ" تتناوب السلطة السياسية في شخصية الأب والسلطة الاجتماعية في شخصية الرجال الغامضون ذوو اللحى الذين يتحدثون بصيغة الجمع يقومون على إذلال الابن مع بقية أفراد العائلة في البيت.
- موت البطل كنتيجة للشعور بالذنب:

يقول أدلر المحلل النفسي: إن انعدام العاطفة الاجتماعية يؤدي إلى الانطواء على الذات والتمركز على الأنا والعزلة وذلك كله ثمار تربية لم تقدم الإثارات الاجتماعية السوية إما بسبب "تدليل" الطفل في دائرة ضيقة وإما بإهماله ونبذه (ب.25). نشأ فرانز طفلاً ضعيفاً متردداً لا يقر له قرار، فقد قال في احد يومياته: ما أريده الآن لا أريده في اللحظة التالية، وكان كثير الشكوى، مع العلم أنه لا تخلو رسالة إلى خطيبته فيليس من تذمر أو شكوى. كتب المحلل روجر موشيلي تعليقاً على مقطع في "رسالة إلى الوالد" يثبت فيه "عقدة الأثمية "عند كافكا، إذ يقول في الرسالة: أبي العزيز، سألتني يوماً لماذا كنت أخاف منك، ولم أجيبك بسبب الخوف ذاته. الخوف الذي كنت توحي به إلي .. وكنت تحكم العالم وأنت جالس على مقعدك الوثير. كان رأيك وحده هو الصائب وكل رأي آخر كان رأياً أحمقاً،فظاً،مغالياً .. كنت افقد الثقة بنفسي وأتحمل عاطفة هائلة من الأثمية بالمقابل" (ب.75). في آخر حياته كتب في يومياته في المشفى عام 1923 تأكيداً على ما سبق:هاتان ليلتان متواليتان وأنا أبصق الدم. بوسعي القول أني مزقت نفسي بنفسي، فالتهديد العنيف العبثي الذي قد اعتاد والدي على النطق به "سأقطعك كما أقطع سمكة.. هذا التهديد يتحقق بصورة مستقلة عني".
عقدة الأثمية (الذنب) هي عقدة أولئك الذين يعيشون بصورة دائمة في الشعور بالخطيئة أو الذنب. وهم غالباً يحسون بالخجل والخزي من أنفسهم وبأنهم ليسوا سعداء ولا تنالهم المسرات لأن الأنا التي تتصف بأنها عرضة لمراقبة السلطة الأخلاقية (المزيفة) تعتقد في نفسها دائماً بأنها المتهمة في محاكم قاسية والتي تحكم آلياً بالحد الأقصى من العقوبة وهي الموت دون تفحص الوقائع (ب.76).
يقول كافكا : روايتي وقصصي هي أنا. إضافة إلى ذلك، هناك الكثير من النقاد من يساوون بين كافكا وأعماله. في نهاية رواية "المفقود" يقتل الابن عقاباً، ويتكرر المشهد في قصة "حلم" وقصة "أمام القانون". أما في قصة "الانمساخ" يموت غريغور موتاً فيه الكثير من المذلة والمهانة. في قصة الحكم يموت انتحاراً لينفذ حكم الأب. بشكل عام من الصعب أن ترى قصة لكافكا لا يموت فيها البطل مهاناً. هذا إن دل على شيء فإنما يدل على وجود عقدة الاثمية كما أشار موشيلي في كتابه وهي الدافع وراء روائع كافكا الأدبية.
وفي النهاية، نختتم بإيراد مقطع من الرسالة تثبت امتزاج السلطة الأبوية بالسلطة السياسية، على الأقل في ذهنية كافكا، إذ يقول: كلما ابتعدت عن متجرك وأسرتك، أصبحت أكثر لطفاً ومرونة وأدباً ومشاركة. مثلك في ذلك مثل حاكم مستبد لا داعي له أن يظل على طغيانه خارج حدوده، ويستطيع أن يظهر طيبة قلب ويجري مقابلات مع أدنى الناس مرتبة.
--------------------
أ.فرانز كافكا- الآثار الكاملة -ج1-دار الحصاد-ط2-ترجمة إبراهيم وطفي-2003
ب. العقد النفسية-روجر موشيلي- دار البشائر-ط3-ترجمة وجيه سعد-1997
ج. اللغة المنسية – اريك فروم – اتحاد الكتاب العرب-ط1-ت.محمود منقذ الهاشمي-1991
د.The world of short story-Clifton Fadman-Wings Books-1986








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القبض على الفنان عباس أبو الحسن بسبب دهس سيدتين


.. كرنفال الثقافات في برلين ينبض بالحياة والألوان والموسيقى وال




.. هنا صدم الفنان عباس ا?بو الحسن سيدتين بسيارته في الشيخ زايد


.. إيران تجري تحقيقا في تحطم المروحية.. وتركيا تتحدث عن رواية ج




.. ضبط الفنان عباس أبو الحسن بعد اصطدام سيارته بسيدتين في الشيخ