الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غرباء كركوك و أصلائها بين المزاعم و الأحصاءات الرسمية

جبار قادر

2004 / 12 / 3
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


يردد البعض منذ سقوط النظام البعثي في التاسع من نيسان 2003 مزاعم مفادها أن عددا كبيرا من الكرد الغرباء دخلوا كركوك بهدف تغيير تركيبتها السكانية أو ( تكريدها ) على حد تعبيرهم . و وصل الخيال بالبعض الى الأدعاء بأن عدد كبيرا من كرد البلدان المجاورة قد قدموا إليها أيضا لتنفيذ تلك السياسة الجهنمية . وقد تلقفت القنوات الفضائية و المواقع العربية و التركية على شبكة الأنترنيت هذه المزاعم دون التدقيق فيها و ظلت ترددها على مدى الأشهر الماضية بصورة مثيرة للشكوك .
ترى من يقف وراء هذه المزاعم وما هي دوافعهم الحقيقية من وراء ترديدها ؟ من هم الغرباء و من أين جاءوا و لماذا الى كركوك بالذات ؟ و أين الحقيقة في كل ما يشاع عن كركوك؟ .
من الملاحظ أن أكثر من يردد هذه المزاعم هم أناس مرتبطون ببعض التجمعات السياسية التركمانية المتطرفة و فلول النظام البعثي الذين تجمعوا تحت يافطات و مسميات جديدة . كما أن العرب الذين جئ بهم الى كركوك و تحولوا الى أداة بيد نظام البعث لتنفيذ سياسات التعريب و التطهير العرقي الأجرامية بحق الكرد هم من يرددون هذه المزاعم . و يبدو أن هؤلاء يتصرفون وفق القاعدة المعروفة ( الهجوم أحسن وسيلة للدفاع) . لقد قدم هؤلاء من مناطق العراق المختلفة الى كركوك ، خانقين ، مندلي ، طوزخورماتو ، كفري ، داقوق ، مخمور ، سنجار و الشيخان و غيرها من أجل الحصول على مكاسب و إمتيازات مثل قطعة أرض مجانية و مبالغ نقدية كبيرة فضلا عن وظائف مغرية في شركة النفط و في دوائر الدولة و مؤسساتها القمعية الحزبية منها أو الأمنية و العسكرية .
لقد بلغ عدد الكرد المرحلين قسرا على أيدي النظام البعثي مئات الآلاف ( وفق تخمينات منظمات الأمم المتحدة العاملة في كوردستان كان هناك في التسعينات من القرن الماضي نحو 800 ألف مرحل داخل المنطقة التي لم تكن خاضعة لسيطرة نظام صدام حسين . لآ شك أن أكثرية هؤلاء هم من أبناء المناطق التي اشرنا إليها ) ، و بالمقابل جئ بمئات الآلاف من العرب ليستوطنوا تلك المناطق و في مقدمتها كركوك .
من الضروري أن نشير هنا الى أن هذه السياسة لم تكن مجرد فورة عنصرية أصابت الحكام بل جرى التخطيط لها و تنفيذها وفق إجراءات روتينية دقيقة تهدف الى تغيير التركيبة القومية للسكان في هذه المحافظة لصالح العنصر العربي بصورة تتماشى مع التصورات العنصرية لهذا الحزب النازي الهوى و التفكير . لقد قام البعث ببناء المستوطنات المسلحة في كل منطقة إعتقد بأنها مهمة لحماية أمن نظامه . كما قام ببناء أحياء عربية تحيط بالأحياء الكردية من جميع الجهات و تخترقها .
كما أجبر الكرد على نبش القبور و أخذ رفاة الموتى معهم لكي لا يكون هناك شئ يربطهم بهذه المدينة حتى لو كانت قبور موتاهم . و يتذكر العديد من الكركوكيين قصة ذلك الشيخ الكردي الذي حاول إقناع المحافظ البعثي بعدم ترحيله لأن ولديه الأثنين قضيا نحبهما في القادسية المشؤومة . وكان جواب المحافظ البعثي الصلف لهذا الشيخ المنكوب هو أن يأخذ رفاة إبنيه معه الى ( منطقة الحكم الذاتي !!) .
وفي نفس الوقت شجع النظام العرب الوافدين الى جلب رفاة موتاهم معهم بعد أن نقلوا سجلات نفوسهم الى كركوك لكي يربطهم شئ بمناطقهم الأصلية التي جاءوا منها. كما أن الكرد الذين كانوا يرحلون قسرا من كركوك ، تنقل سجلات نفوسهم مباشرة الى المحافظات التي ينقلون إليها . ومن هنا كان الأكتشاف الخطير لأصحاب المزاعم التي تتحدث عن إفتقار هؤلاء الغرباء الكرد الى هويات الأحوال المدنية التي تشير الى كونهم من سكان في كركوك . لقد نسي هؤلاء بأن محل ولادة هؤلاء مؤشر في وثائقهم الرسمية و سجلاتهم . الأهم من هذا و ذاك أن سجلات النفوس الأصلية و التي جرى بها العبث على أيدي البعث محفوظة و يمكن معرفة الحقيقة و تمييزها عن التشويه و التزييف .
هناك بعض القوى السياسية العراقية كانت تدين هذه السياسات بشدة قبل سقوط النظام و تدعو الى إزالة آثارها ولكنها سرعان ما غيرت مواقفها لأعتبارات تتعلق بالأنتماءات المذهبية للوافدين الى كركوك . لقد أحدث هذا المواقف شرخا بين هذه القوى و الحركات السياسية الكردية و الكرد على العموم . و لم تدرك هذه القوى حساسية الكرد إزاء هذه القضية التي يعتبرها الكرد رمزا للظلم التأريخي الذي وقع عليهم . و ستدرك تلك القوى بأنها و بسبب حساباتها الخاطئة فقدت حليفا مهما على الساحة السياسية العراقية. وكان من شأن ذلك التحالف أن يساعد على بناء نظام سياسي مستقر قابل للحياة في العراق . أعتقد بأنه على القوى الكردية أن تعيد حساباتها و تلجأ الى البدائل الممكنة للحفاظ على المصالح الحيوية للكرد في العراق دون التعويل على القوى التي تآلفت معها قبل سقوط النظام. يجب أن يكون الموقف الواضح و الصريح من الفدرالية و إزالة آثار سياسات التعريب و التطهير العرقي في كركوك و المناطق الكوردستانية الأخرى بندا أساسيا في أي تحالف سياسي تصبح طرفا فيه و بغير ذلك ستفقد أية شرعية لها في المجتمع الكردي . قضية كركوك تمثل الخط الأحمر بالنسبة لأي حزب أو زعيم سياسي كردي . وكل من يفكر بالقبول بنتائج التعريب فإنه يوقع بذلك قرار موته سياسيا .
قصة كركوك مع الغرباء الذين قصدوها على مر القرون و سكنوها بأمان مليئة بالصور الأنسانية . كما أنها لا تخلو من حالات موغلة في الأساءة الى أهل البيت و نكران الجميل . الحالات الأخيرة لازمت الذين قدموا إليها مع حراب المحتلين و يحملون الحقد و الضغينة على أهلها المسالمين و يطمعون في ثرواتها . ورغم سماحة أهل كركوك و طول بالهم على المسيئين إلا أنهم في النهاية لا يقبلون بالأساءة الى مدينتهم و ثقافاتها الأنسانية الثرة . لقد عبث البعث بكل شئ جميل في حياة العراقيين . و كان لا يكتفي بتسليط أزلامه عليهم بل يلجأ أيضا الى المرتزقة و الأفاقين من البلدان الأخرى أيضا .
لا زلت أتذكر حادثة شجار بين كردي كركوكي و عامل مصري قدم كغيره من مواطني بلاده بحثا عن الرزق في هذه المدينة . لا أتذكر سبب المشاجرة و لكنني أتذكر جيدا بأن الكردي قال للمصري : لو لم تكن غريبا لجعلتك تلعن اليوم الذي ولدت فيه . و كان رد المصري عليه يجسد رسالة البعث في كركوك ، إذ قال: مين غريب يابه ؟ ده أنت اللي غريب . دي أرض العرب و أنت الغريب هنا .
و هكذا فإن هذا الغريب القادم الى كركوك لكسب لقمة العيش إعطى لنفسه الحق بالأدعاء بكونه صاحب الدار و أدخل البعث في ذهنه أنه على أرضه و في إحدى مدن وطنه العربي!، بل و أعطاه الحق أن يعتبر إبن المدينة و صاحبها غريبا على هذه الأرض . أي فكر هذا الذي يعمي البشر عن رؤية الحقيقة ؟ و هل يمكن أن يحدث هذا في اي بلاد أخرى غير عراق البعث ؟!! . ترى من المسؤول عن غرس هذه الأفكار العنصرية في عقل هذا المصري البسيط ؟. وهناك قصصا كثيرة عن المصريين و الفلسطينيين و غيرهم من مواطني الدول العربية الذين ضحكوا على عقول المسؤولين البعثيين في كركوك ليمنحوهم الأراضي و الأموال ليساهموا في ( المهمة القومية و تطبيق شعار نفط العرب للعرب !) . ولكن هؤلاء لم يأخذوا معهم من مكارم البعث الفكرية و المادية سوى الأموال التي حصلوا عليها دون وجه حق ليتمتعوا بها على ضفاف النيل بعيدا عن جمهورية الخوف البعثية .
سنحتاج الى أجيال من الكتاب و المؤرخين لندون و نوثق كل ما قام به البعث بحق العراقيين عموما و الكرد و كرد كركوك على وجه أخص . نشير هنا الى مثال معبر آخر وهي قصة المواطن الكردي رحمن كاكل . لم يكن بالأمكان أن تحدث مثل هذه الحكاية أيضا إلا في كركوك و في ظل البعث . نشرت جريدة (باسه ره ) التي تصدر في كركوك في عددها الأخير بتأريخ 23 نوفمبر 2004 قصة هذا المواطن الذي إمتلك بشق الأنفس بيتا متواضعا من الطين في حي رحيم آوا الشعبي (حاول البعثيون من خلال تعريبه فتح الأندلس من جديد و فرضوا عليه، ولكن دون ينجحوا في ذلك ، إسم حي الأندلس ) . يقول كاكل بأن إحدى لجان المحافظة قررت دون أية مقدمات مصادرة بيته و منحه الى مواطن عربي وافد من البصرة وأسمه أحمد صالح . ويبدو أن أحمد صالح كان يمني النفس بأنه لقاء مساهمته في (ملحمة التعريب القومية!) ، سيحصل حتما على بيت كبير و عصري ليعيش فيه مع عائلته بسعادة و هناء!. إلا أن حظه العاثر قذف به الى رحيم آوا و الى بيت رحمن كاكل الطيني المتواضع . لقد أصيب أحمد صالح بخيبة أمل كبيرة بسبب هذا العرض البائس وأخبر كاكل بأن بيته لم يعجبه و لن يسكن فيه . لذلك إقترح عليه أن يشتري البيت أو يستأجره منه . لم ينوي كاكل طبعا شراء بيته من جديد ، لأنه لم يتمكن من الأحتفاظ به بعد أن سكنه لأكثر من ربع قرن، فما الذي يضمن أنه لن يفقده بعد أن يشتريه من المالك الجديد في اليوم التالي .
يجب أن لا نستبعد أبدا أن رحمن كاكل لا يمتلك اليوم حق التصويت بل و يعتبر غريبا عن كركوك وفق توصيفة البعثيون الجدد في كركوك ، بينما يعتبر أحمد صالح من مواطني كركوك الذين يحق لهم المشاركة في الأنتخابات بل و يحق له الترشيح لعضوية مجلس المحافظة ، خاصة وأن أعضاء لجنة الأشراف على الأنتخابات في كركوك هم من البعثيين حصرا !.
كما لا أستبعد أن يكون مختار محلة الأسكان الجديدة الوافد الى كركوك المدعو ناصر عودة مجلي والذي كان يتجسس على السكان الكرد و يرفع عنهم التقارير اليومية الى الجهات الأمنية ، ومن بين من ركز عليهم في تقاريره المواطنة الكردية ناظيف علي كريم التي رحلت لثلاث مرات متتالية الى السليمانية و لكنها كانت تتحدى البعث كل مرة لتعود الى بيتها في كركوك ، أقول لا أستبعد أن هذا المختار يحتفظ بحقه في المشاركة في إنتخابات مجلس محافظة كركوك ، بينما تحرم المواطنة الكردية ناظيف من هذا الحق لأن سلطات البعث قامت بنقل سجلات نفوسها من كركوك و يعترض البعثيون الجدد في ( العراق الديموقراطي الفدرالي التعددي الجديد !) على مشاركتها .
من هنا ندرك بإن المقصودون بالغرباء هم المواطنون الكرد من محافظة كركوك الذين صودرت أو دمرت بيوتهم و مزارعهم و قراهم و رحلوا قسرا على يد النظام البعثي الى المحافظات الأخرى . لقد عادت نسبة صغيرة من هؤلاء الى قراهم المدمرة أو المملوكة للوافدين العرب لأن أكثرهم لا يمكتلون بعد السنوات العجاف التي قضوها تحت الخيم و المعسكرات المهجورة ما يمكنهم من إعادة بناء قراهم . ولم تقدم الحكومة العراقية و لا سلطات الأحتلال و لا الأدارتين الكرديتين يد العون الى هؤلاء المنكوبين . و إذا كانت هذه حال سكان القرى الذين يتحملون شظف العيش و قسوة الحياة في الريف ، فإن أوضاع المرحلين من المدينة أسوأ بكثير . لذلك لم يعد من الأخيرين حسب أكثر الأحصاءات مصداقية سوى 15-20 % . ويعيش معظم العائدين في مخيمات لا تتوفر فيها أبسط مستلزمات الحياة الأنسانية .
من المعلوم أن أكثر الذين رحلوا من كرد كركوك كانوا من الفقراء . لقد تحولت عملية الترحيل الى مصدر لأثراء المسؤولين الحزبيين و الأمنيين الذين كانوا يبتزون الأغنياء والمتمكنين الكرد بصورة مستمرة و يهددونهم بترحيلهم إذا لم يدفعوا الأتاوات المفروضة . كان على الثري الكردي أن يدفع لمسؤولي الحزب و الأمن و المخابرات و المختار و موظفي المحافظات و غيرهم لكي يؤخروا ترحيله أياما أو أشهرا.كما أن منع الكرد ومنذ السبعينات من شراء الأراضي و العقارات ، بل و حتى من ترميم بيوتهم الآيلة الى السقوط ، و فتح الشوارع العريضة في قلب الأحياء الكردية المكتظة بالسكان و مصادرة ممتلكات الكرد و بيعها في المزاد الخاص بالدوائر الحزبية و العسكرية و الأمنية أو تسجيلها بإسماء ( المستفيدين العرب ) مع غياب أي شعور بالأطمئنان الى الغد،جعلت معظم الكرد لا يمتلكون العقارات و الأراضي في كركوك. و من هنا كانت بعض المحاولات الشريرة لحصر قضية المرحلين الكرد في كركوك بقضايا التدقيق في الملكيات . ترى هل يوجد قانون في أي بلاد من بلدان العالم يمنع الأنسان من العودة الى مسقط رأسه إذا لم يمتلك عقارا أو أرضا فيه ؟ .
هناك حقيقة بسيطة يعرفها الجميع و هي أن النظام و بسبب سياساته و حروبه و تدميره للريف الكوردستاني و لتخبط سياساته الأقتصادية و الأجتماعية و إفتقاره للتخطيط العقلاني في أي جانب من جوانب الحياة ، ترك من بعده بلادا مدمرة و منهوكة . و من بين أهم الأختناقات التي يعاني منها العراق تأتي أزمة السكن. وقد قدرت وزارة الأعمار العراقية حاجة البلاد الى مليوني وحدة سكنية جديدة لتجاوز هذه الأزمة . و تأتي المدن الكردية الكبيرة في مقدمة المناطق التي تعاني من أزمة سكن خانقة . وتشير الأحصائيات الى أن نصف سكان مدينة أربيل يسكنون بيوتا مؤجرة . كما أن سعر المتر المربع من الأرض في مدينة السليمانية وصل نتيجة للمضاربة العقارية الى مستوى سعره في مدينة كولن الألمانية على حد تعبير العديد من الكتاب و المثقفين الكرد الذين زاروا المدينة مؤخرا.
من الطبيعي أن ترحيل الكرد الى المحافظات الأخرى لم يمنعهم من التزاوج و التكاثر . و النتيجة الطبيعية لهذه الحالة ولادة عدد كبير من أبناء كركوك خارج محافظتهم. ولم يسجل هؤلاء بطبيعة الحال في سجلات النفوس بكركوك و إنما في المحافظات التي رحلوا إليها قسرا . و لا يمكن أن يحرمهم ذلك من حق العودة الى مدنهم و قراهم و مزارعهم .
يبدو أن البعثيين الجدد يتبنون نفس المفاهيم الصدامية التي كانت تفصل بين الزوج و زوجته و الأبن و أبيه عندما قام النظام بترحيل مئات الآلاف من الكرد الفيليين و العرب الشيعة الى إيران. من المحزن أن يطالب بعض ضحايا الأمس بالسكوت عن هذه المظالم و القبول بنتائجها لأعتبارات إنتهازية تتعلق بالأنتخابات و الحصول على عدة آلاف من أصوات الذين تحولوا الى أداة بيد البعث لتنفيذ تلك السياسات الظالمة . و من المؤسف حقا أن يتحول الضحايا الى جلادين بين عشية و ضحاها .
و تشكل هذه المزاعم جزءا من المحاولات الموجهة ضد الكرد في كركوك . ويدخل في هذا الباب أيضا صراع الأرقام و النسب الذي تفاقم بعد زوال نظام البعث . فقد تزايد الحديث عن أعداد و نسب هذه الفئة أو تلك من سكان البلاد . و بسبب غياب الإحصائيات الحكومية النزيهة و الموثوق فيها لجأ الجميع الى التخمينات و الخيال للحديث عن أعداد المنتمين إلى هذه الجماعة أو تلك الفئة و رفع نسبها الى مجموع السكان في البلاد أو على صعيد إحدى المحافظات . و يعتقد البعض مخطئا بأنه من خلال محاولاته هذه يستطيع الحصول على بعض المكاسب السياسية الأضافية . رغم فهم دوافع هذه المحاولات بخاصة من لدن المجموعات الصغيرة التي تتخوف من هيمنة الفئات الكبيرة ، إلا أن ذلك لا يبرر بطبيعة الحال القيام بتشويه الحقائق بصورة بعيدة عن منطق الأشياء .
و تأتي كركوك في مقدمة المناطق التي يجرى التركيز عليها في صراع الأرقام و النسب . و لا يكل البعض من ترديد الأرقام و النسب عن مكوناتها الأثنية المختلفة . يجري ذلك كله دون أي إستناد الى المعطيات الإحصائية رسمية كانت أو غير رسمية .
لقد كتبت و كتب غيري عن هذا الموضوع . و كان الأعتقاد السائد بأن ندرة المصادر و قلة الخبرة و فورة التعبير عن الهويات المقموعة بعد زوال النظام تكمن وراء صراع الأرقام و النسب . وكان المرتجى أن تنتهي هذه الحالة بإجراء إحصاء سكاني نزيه يظهر الحقائق و يحرر الجميع من هوس الأرقام و النسب . إلا أن الأحصاء السكاني تأخر بسبب الأوضاع الأمنية و أصبحنا نواجه سيلا من المعلومات التي تفتقر الى الدقة و الموضوعية . لا بد أن يجري الأحصاء السكاني خلال العام أو العامين القادمين و ستطوى هذه الصفحة أيضا من خطابنا اللاعقلاني .
أثارت الطروحات المستندة الى المصادر التأريخية المتنوعة و المعتبرة البعض وإعتبروها طعنا في الفئة التي ينتمون إليها . أعتقد بأن الحديث عن حقائق التاريخ المستند الى المصادر الموثوق فيها يجب أن لا يثير الغضب ، بل بجب أن يكون دافعا للحوار الهادئ بعيدا عن الأحكام المسبقة و سوء النية للأستفادة من دروس التاريخ . هناك صفة تميز العراقيين و هي التحسس من مواجهة الحقائق و التفكير بصوت عال مع بعضهم البعض . كثيرا ما يحاولون تجاوز الحقيقة من خلال سلسلة من التبريرات الواهية التي لا تقنع أحدا .
لقد قلت في أكثر من مجال و إستنادا الى مصادر تأريخية معتبرة أن كركوك بسبب موقعها الجغرافي المهم و ثرواتها الطبيعية قبل و بعد إكتشاف النفط تحولت على مدى القرن الماضي الى نقطة جذب مهمة للكثير من الناس الذين قدموا إليها و إستقروا فيها.ولم يكن الأمر مقتصرا على سكان الألوية العراقية الأخرى من العراق بل تجاوزه الى البلدان المجاورة أيضا. وبسبب روح التسامح و الأنفتاح التي تمتعت بها المدينة لم يعترض أحد من سكانها الأصليين على ذلك. من المؤسف و من سوء حظ سكان كركوك تحولت روح التسامح هذه الى نقمة عليهم فيما بعد، إذ تحول هؤلاء مع الزمن الى أداة بيد السلطات الحكومية لتنفيذ سياسات ظالمة . لقد ساهم هؤلاء في نهب ثروات المدينة و العمل على طرد سكانها الأصليين للأستحواذ على أراضيهم و ممتلكاتهم .
أعتقد أن إلقاء الأضواء على الحقائق التاريخية و التطورات التي جرت على الصعيد الديموغرافي في كركوك بعد أن عملت جهات كثيرة على تزويرها أمر ضروري لبناء حياة جديدة في هذه المدينة.
لم يعترض أحد على سكن الآلآف من الذين إنتقلوا الى كركوك بحثا عن العمل أو لمتطلبات و ظيفية. فمنذ نهاية الثلاثينات تحولت كركوك الى مركز لجذب العمال و الموظفين و الكسبة و قد بلغت نسبة الزيادة السكانية في كركوك خلال 1947 - 1957 حدا كبيرا (36 % )، أي بمقدار مرة و نصف الى مرتين قياسا الى المحافظات العراقية الأخرى .
لكن الأمر إختلف مع الذين قدموا الى كركوك وفق خطة تهدف الى تغيير ملامح المدينة و المحافظة من حيث تركيبتها السكانية . لم يكن بإمكان الناس أن يرحبوا بمن تحول الى أداة لتطبيق سياسة التعريب التي كانت تهدف الى قلع الناس من جذورهم و إحلال آخرين محلهم دون وجه حق .
للدلالة على هذا الكلام نورد الحقائق التالية من الأحصائيات الرسمية. فبموجب إحصاء عام 1947 بلغت نسبة الذين سكنوا مدينة كركوك من غير المولودين فيها و من الذين قدموا اليها من الألوية العراقية الأخرى أكثر من الربع ، و هذه نسبة كبيرة جدا . فمن مجموع سكان مركز قضاء كركوك من العراقيين البالغ عددهم 67756 شخصا ، بلغ عدد المولودين منهم في لواء كركوك نفسه 49441 شخصا ، أما الباقون ( 18315 شخصا ) فإنهم كانوا من مواليد الألوية الأخرى . و كان معظهم لا يمتون بصلة مباشرة الى سكان المدينة الأصليين، منهم على سبيل المثال 3137 من مواليد لواء بغداد و 3165 من مواليد لواء الموصل و 1639 من مواليد لواء ديالى . وكان بينهم من كانوا من مواليد المناطق العربية الجنوبية و الوسطى الذين جاء معظمهم مع أسرهم للعمل لدى شركة النفط منهم 1598 من مواليد العمارة و 863 من مواليد لواء المنتفك و 410 من مواليد لواء الحلة و 360 من مواليد لواء البصرة و 271 من مواليد لواء الكوت و 213 من مواليد لواء الديوانية و 205 من مواليد لواء الدليم و 98 من مواليد لواء كربلاء. و إقتصرت هذه الظاهرة على مدينة كركوك دون ريفها (1).
كما أشرت في مقالات سابقة أن نسبة من سكان كركوك الأصليين تعثمنوا ( جرى تتريكهم) خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، أي بعد زوال آخر الأمارات الكردية و خضوع كوردستان الى الحكم المباشر للباشوات العثمانيين . وكان العامل المؤثر في عملية التتتريك هذه هو إرتباط مصالح هذه الفئة من السكان المحليين بمؤسسات الدولة السياسية و الأقتصادية و الأدارية . وهناك أدلة و شواهد تأريخية كثيرة على الأصول الكردية للعديد من العوائل المستتركة المعروفة في كركوك . هذا لا يعني بطبيعة الحال دعوة لتكريد هذه العوائل ، فأبناؤها أحرار في إعتبار أنفسهم تركمانا أو حتى أتراكا قادمين من مجاهل الأناضول! .
و أشرنا كذلك و بالأستناد الى المصادر التأريخية بأن عددا كبيرا من الموظفين المدنيين و العسكريين العثمانيين في دوائر الدولة في كركوك قرروا الإستقرار فيها بعد إنهيار الدولة العثمانية نتيجة للحرب العالمية الأولى . لقد إنقطعت السبل بهؤلاء بسبب الأحتلال البريطاني لولاية الموصل من ناحية و إندلاع الصراع في آسيا الصغرى بين الكماليين و القوات الأجنبية من ناحية أخرى . لقد آثر هؤلاء البقاء في كركوك خاصة و أنهم إستغلوا مواقعهم الوظيفية للأستحواذ على أخصب الأراضي الزراعية في اللواء فضلا عن سيطرتهم على الحياة الأقتصادية في المدينة والقصبات التابعة لها . لقد تحول هؤلاء مع مرور الزمن الى عنصر أساسي من سكان مدينة كركوك خاصة و أنهم كانوا يمتلكون الخبرات الأدارية و الثروة و جرت الأستعانة بهم لأدارة شؤون اللواء في العقود التالية من عمر الدولة العراقية . وفرت هذه الأوضاع المتميزة التي عاشت في ظلها هذه الفئة من السكان فرصا ذهبية لأبنائها في حقول الأدارة و الأقتصاد و التعليم . و بقي هؤلاء رغم التغييرات الدراماتيكية التي شهدتها المحافظة و العراق يستحوذون على شؤون الأدارة ، بإستثناء المناصب القيادية ، و التعليم و الأقتصاد في محافظة كركوك . و يبدو أنهم يجدون صعوبة كبيرة للتأقلم مع الأوضاع الجديدة التي ظهرت بعد سقوط النظام البعثي و التي تفرض مشاركة الجميع . أعتقد أن عليهم أن يتحرروا بسرعة من هذه الأفكار قبل أن يتجاوزهم الزمن و يجدوا أنفسهم مهمشين في الحياة السياسية الجديدة .
تشير نتائج إحصاء عام 1957 بأنه كان لا يزال في كركوك في ذلك العام 1353 شخصا من الذين ولدوا في تركيا (2) . أي أنه و بعد زوال السلطة العثمانية عن المدينة بأربعة عقود من الزمان كان لا يزال هذا العدد منهم على قيد الحياة . ولا أعتقد بأن هناك من يشك في كون هؤلاء من بقايا العثمانيين الذين قرروا الأستقرار في كركوك بعد إنهيار الدولة العثمانية . و لا يمكن لأحد أن يشكك في كونهم جميعا من كبار السن لأنهم عاشوا في كركوك على مدى أربعة عقود على أقل تقدير . ولا بد أن آلافا أخرى منهم قد توفوا خلال تلك العقود (1918 -1957 ) . و مما لا شك فيه أن هؤلاء خلفوا الآلاف من الأبناء و الأحفاد. ومن خلال عملية حسابية بسيطة نستطيع أن ندرك بأن نسبة مهمة من الذين إعتبروا لغتهم الأم التركية أو التركمانية بموجب إحصاء عام 1957 و البالغ عددهم الكلي 83371 شخصا في لواء كركوك ، هم من أبناء و أحفاد أولئك العثمانيين الذين إستقروا في كركوك بعد الحرب العالمية الأولى . يمكن الرجوع الى هذه الأرقام في نتائج الأحصاء الرسمي لعام 1957 ، والتي نشرت تفصيلاته ( بثلاثة عشر جزءا كاملا ) في العام 1965 .
لم يسمي الجيل الأول من العثمانيين الذين إستوطنوا كركوك أنفسهم بالتركمان بل تمسكوا بتسمية الأتراك . ولكن مع الزمن و مع إنقراض الجيل الأول منهم رضي أبناؤهم بتسمية التركمان الرسمية في العراق ، و هي تسمية لا علاقة لها بتركيا من قريب أو بعيد . فعلاقة تركمان العراق بالأتراك لا تختلف عن علاقة التشيك أو الأوكرانيين بالروس و علاقتهم هم بالكازاخ و القرغيز . لقد لعب الجيل الأول من هؤلاء المستوطنين العثمانيين في كركوك دورا كبيرا في تزويق فكرة الإرتباط الثقافي و العرقي بأتراك الأناضول. و كانت ذكرياتهم الغنية عن الأناضول و أسطنبول و الثقافة التركية و السفر الى شواطئ البسفور، معينا لا ينضب لمن جاء بعدهم من الجيل الشاب من الكتاب التركمان الذين إعتنقوا الفكرة دون التدقيق و التمحيص فيها كجزء من عملية البحث عن هوية خاصة تميزهم عن الآخر . كان الأنتماء الى العثمانيين و أمجادهم بطبيعة الحال فكرة مغرية لا يمكن مقاومتها في هذا الباب . لابد أن ما يجمع التركمان بأذربايجانيي إيران أكثر بكثير مما يربطهم بأتراك الأناضول . يستحق هذا الموضوع التدقيق و الدراسة من لدن الباحثين التركمان بعيدا عن الأحكام المسبقة و تشويهات مجمع التأريخ التركي التي لم تعد ترضي الأتراك أنفسهم .
لا تهدف الأشارة الى هذه الحقائق التأريخية الى التقليل من أهمية العنصر التركماني في كركوك أو الأنتقاص من حقوقه في هذه المحافظة أو في غيرها من محافظات العراق . و لكنها يجب أن توضح من ناحية أخرى و للجميع حقيقة جد بسيطة و هي أن الذين وفدوا الى هذه المدينة قبل ذلك التأريخ و بعده لا يمكنهم الزعم بأنهم يشكلون سكانها الأصليين ، بينما الكرد الذين بنوها و عاشوا فيها و في ريفها و دافعوا عنها على مدى القرون الطويلة أصبحوا على حد زعمهم ضيوفا طارئين عليها يريدون (تكريدها!) .
الهوامش :
1. أنظر : المملكة العراقية ، وزارة الشؤون الأجتماعية، مديرية النفوس العامة ، إحصاء السكان لسنة 1947 ، الجزء الثاني ، بغداد 1954 . ص 115 ، أنظر كذلك : الدكتور كمال مظهر أحمد ، كركوك و توابعها - حكم التأريخ و الضمير ، دراسة وثائقية عن القضية الكردية في العراق ، الجزء الأول ، ص 82 .
2. أنظر : الجمهورية العراقية، وزارة الداخلية ، مديرية النفوس العامة ، المجموعة الأحصائية لتسجيل عام 1957 . لوائي السليمانية و كركوك ، بغداد ، مطبعة العاني ، ص 240 - 241 : أنظر كذلك الى الدكتور كمال مظهر أحمد ، المصدر نفسه ، ص 83 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة تقتحم جامعة كولومبيا لتفريق المحتجين| الأخبار


.. مؤشرات على اقتراب قيام الجيش الإسرائيلي بعملية برية في رفح




.. واشنطن تتهم الجيش الروسي باستخدام -سلاح كيميائي- ضد القوات ا


.. واشنطن.. روسيا استخدمت -سلاحا كيميائيا- ضد القوات الأوكرانية




.. بعد نحو 7 أشهر من الحرب.. ماذا يحدث في غزة؟| #الظهيرة