الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صديق من زمن الحرب

بن جبار محمد

2011 / 9 / 13
سيرة ذاتية



ما أقدمه لكم الآن في هذه الكلمات هي قصة صديق من زمن الحرب , صديق من نوع فريد , صديق يختلف عمن سواه ممن مروا في حياتنا , مسيرتي مع هذا الصديق له أكثر من معنى و أكثر من بعد لا تزال ظلال روحه تخيم على شخصي في تجربة ذاتية أكثر إشراقا . مرافقتي له لأغلب فترات شبابي أفادتني كثيرا و وجهتني إلى الوجهة الصحيحة حيث تعددت الوجهات الزائفة التي تؤدي إلى متاهات و إلى ضلال .
أنني اليوم مطمئن القلب و سعيد الروح ...و الفضل يعود لصديقي الذي بين و فسر لي المسائل الأكثر إشكالا و غموضا في زمن لن تجد فيه من يبتسم في وجهك بل و يسدي لك النصح ..صديقي أفهمني أشياء كثيرة وعسيرة , لم يستطع عقلي أن يفقهها في حينها لحداثة سني أو لمخزون الحماسة في الزائد و لنفسي الثائرة و لإندفاعي و عدم التروي أو لرعونتي التي كانت تسيطر علي . صعب على شاب مثلي أن يقرأ تلك الفترة الحالكة من تاريخنا الحديث قراءة صحيحة و أن يضع الأمور في نصابها و يتحلى بالحكمة و الصبر بعيدا عن العاطفة و التهور و اللامنطق .
أعترف أن صديقي كان لي أبا و أخا و صديقا و معلما في أسوء فترة زمنية و أكثرهــا دموية حيث نأى بي عن المؤثرات السالبة التي تعصف بالأرواح وتذهب بالعقول , حيث الإغراءات بدون حدود , تغزوك حيثما كنت و حيثما وجدت.. كان من السهل أن تتحول الى إرهابي تضرب بعرض الحائط بكل القيم التي تؤمن بها أو تتبناها أو تجرعتها من حليب أمك ..كان من السهل أن تجرى لك عملية غسيل مخ فظيعة و تتحول الى دمية في أيديهم ..كل الظروف مهيأة لذلك..إغراءات للثراء السريع , أموال طائلة دون جهد , إغراءات بالبطولية المجانية و الوعود بالجنة و حور العين ..أكثر النفوس إستعصاءا تسقط أمام هذه الإغراءات و خاصة أفراد الطبقة الفقيرة الذين يعيشون شظف العيش ..كانت آلة الموت الإرهابية و من ورائها المؤسسة الأصولية الدينية بفتواها المقيتة تحصد الرؤوس حصدا فطالت كل شبر من الوطن.
كان صديقي ينزوي بي في إحدى مقاهي المدينة ليحدثني عن حقيقة الأمور , يحلل لي الأحداث و يقرأ الواقع بحكمة و تبصــر , أخبرني عن حرب المصالح و البطولة الزائفة و كواليس الشخصيات و الأحقاد الدفينة و أدلجة الدين وجذور الشر ...أغلب الشباب من أقراني أغرتهم الموجة فحملوا السلاح ضد الوطن و ضد أبناء جلدتهم , ضد أهلهم , يقتلون و يروعون و يعيثون فسادا و يستحلون الأموال و الأعراض ..
كان صديقي يذهب بي بعيدا , حتى لا أكون تحت رحمة الأحداث وتحت تأثير خطاب الإغراء . يحدثني عن الفن و الثقافة و السينما و الرواية السحرية الهيسبانو –أمريكية و هو أكثر تخصصا فيها و أكثر الناس إطلاعا فيها لا يتوانى في طرح أسئلة وجودية و يشاركني في تأمل قضاياها و يأخذني معه إلى شوارع بيوس- ايرس و غابات الأمازون و أعالي جبال الإنديز و إلى أكثر المناطق توغلا في القارة .. كان صديقي يتلو على مسامعي مقاطع من قصة حب فرنسية فيرحل بي بعيدا في آفاق رومانسية رحبة بينما أنا أسبح في عوالم جميلة افتقدناها لإصرار الأمكنة و عناد الزمن المظلم الذي يعيد فينا هول المأساة و دراما الموقف و وقع الظرف الدامي .
يقرأ علي قصاصات من رواية لم تكتمل ملامحها بينما العالم من حولنا يتسعر و يتهافت و يتسابق على حمل السلاح ولأجل الحصول على البطولة مجانا و مثلهم الأعلى المزيد من القتلى و المزيد من الذبح و المزيد من الأموال والمزيد في التعدي على كرامة بني آدم .. في غياب القيم الإنسانية و الأخلاقية و تحول شعار الرنان للوطن الذي حفظناه في صفوف المدرسة الى سراب و حل محله شعار "تمكين لدين الله في الأرض" و " الوعد بالجنة" في خضم التمييع الشامل للمفاهيم لم يعد ممكنا الوقوف على معنى أكثر أصالة , في تلك الفترة يصعب الإحتفاظ بالنقاوة و البراءة و بأكثر المعاني سموا , لأن الحرب تجرف كل شيء أمامها , الأشخاص , الأفكار , القيم , المتاريس ..فقط , النفوس أكثر رسوخا و أكثر إيمانا بالإنسانية ..

صديقي , كان يأخذ بيدي برفق خشية أن يأخذني الإعصار فتشبتت به وأحتميت به.. عرف كيف يسمو بي بأفكاره و بحكمته و رزانته و بنظرته و استشرافه إلى أن يتجاوز الوطن محنته ..طوبى لصديق عاش عيشة الكفاف و لم تسحره الإغراءات و الأموال و لم يلوث يديه الكريمتين بالجريمة, عاش كما يعيش كل شرفاء الوطن .
اليوم كل الذين أذنبوا و أجرموا في حق الوطن و الشعب يسيرون منكسي رؤوس بوجوه خاسئة و نفوس مخزية و اللعنة تطاردهم من مكان الى آخــر و تاريخ سوء السمعة يتبعهم .

اليوم و بفضل صديقي من زمن الحرب أنعم بالحياة مع الذين يؤمنون بالوطن من بسطاء الناس , نتبادل التحايا و الزيارات والتهاني في سلم و أمان .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا وراء سجن المحامية التونسية سنية الدهماني؟ | هاشتاغات مع


.. ا?كثر شيء تحبه بيسان إسماعيل في خطيبها محمود ماهر ????




.. غزة : هل توترت العلاقة بين مصر وإسرائيل ؟ • فرانس 24 / FRANC


.. الأسلحةُ الأميركية إلى إسرائيل.. تَخبّطٌ في العلن ودعمٌ مؤكد




.. غزة.. ماذا بعد؟ | معارك ومواجهات ضارية تخوضها المقاومة ضد قو