الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا تكون السياسة مصالح وليست مبادئ؟ (١)

نوال السعداوى

2011 / 9 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


فجر الثلاثاء ٦ سبتمبر ٢٠١١، داخل طائرة نفاثة خارقة للسحب والبرق والرعد، تعبر بى البحار والأنهار وقارة أوروبا حتى أقصى الشمال، سأفتتح مؤتمراً أدبياً عالمياً فى «أيسلاندة» أو «بلاد الثلوج»، الاسم يثير الخيال والشوق للتحليق واكتشاف المجهول، سافرت إلى جميع بلاد العالم إلا الإيسكيمو والقطب الشمالى وأيسلاندة، منذ ولدتنى أمى كنت أحلم بالسفر والرحيل بعيدا عن مسقط الرأس، حيث سقط رأسى وأحلام طفولتى وشبابى وكهولتى، منذ جئت إلى الدنيا أحلم بالحرية والعدل والكرامة، المفقودات الثلاثة، تنادى بها كل الثورات الشعبية المتفجرة.

لم توجد فى التاريخ البشرى حكومة واحدة تعمل لصالح شعبها، هناك تناقض رئيسى بين الأسياد والعبيد، وبين الرجال والنساء، منذ تقسيم الشعب الواحد إلى قسمين: «حكام ومحكومين»، يحاول الحكام فى كل البلاد تغطية القوانين الظالمة المزدوجة بشعارات وكلمات خادعة: الحماية، الحب، الصداقة، الشراكة، الاشتراكية، الشرعية، الليبرالية، العدالة الاجتماعية، السلام، الاستقرار، الطاعة، الفضيلة، التضحية، تمتد السلطة المطلقة من رع الإله إلى رمسيس الأول إلى الأب رب العائلة، لا يمكن المساس بأى سلطة منها دون المساس بالأخرى، الدولة أو الحكومة هى التى تضع القوانين لصالح من يملك العرش، لهذا يمكن للحاكم أن يقتل معارضيه فى الرأى أو يسجنهم أو ينفيهم تحت اسم الخيانة الوطنية، يخون الحاكم الوطن (ويخون زوجته أو زوجاته)، ويظل بطلا فى نظر القانون والشرع والعرف، فى عصرنا الحديث يمكن لجيش دولة قوية أن يبطش بأى شعب وينهب موارده تحت اسم القانون الدولى أو الشرعية الدولية.

تم تدمير الشعب العراقى (لنهب النفط) تحت اسم حماية الشعب من صدام حسين، مازال العراق ينوء تحت الاحتلال الاستعمارى ينزف الدم والنفط معا، اليوم يتم تدمير الشعب الليبى تحت اسم حماية الشعب من القذافى، هل كان صدام حسين أو القذافى أكثر بطشا من الملك السعودى أو نتنياهو الإسرائيلى أو جورج بوش الأمريكى؟ ألا يُقتل الشعب الفلسطينى يوميا بجيش الاحتلال دون أن يتحرك حلف «الناتو» لحماية الشعب الفلسطينى كما تحرك لحماية الشعب الليبى؟، السلطة المطلقة «الرأسمالية الأبوية» هى التى تحكم العالم وليس العدل أو الديمقراطية، يلوك القتلة من كل الدول الكبرى والصغرى هذه الكلمات الخادعة، فى الإعلام العالمى والمحلى، تتعاون الحكومات (رغم اختلاف القوميات والعقائد السياسية والدينية) فى البطش بالشعوب ونهب مواردها.

السؤال المهم: لماذا يتكرر هذا الإجرام فى حق الشعوب منذ آلاف السنين حتى اليوم؟ لماذا لم تنجح الثورات الشعبية فى إقامة دولة عادلة ديمقراطية حقيقية، لا تفرق فى القانون بين الطبقة العليا والسفلى، أو بين الرجال والنساء؟ لقد زرت معظم بلاد الشمال والجنوب، كنت أستاذة زائرة فى عدد من جامعات العالم، عشت بضع سنين فى أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية والشرقية وآسيا وأفريقيا، لم أجد مجتمعاً واحداً ينعم فى أى دولة بالعدالة أو الحرية أو الكرامة، تسود عبارة «السياسة مصالح وليست مبادئ» كأنما هى منطقية بالرغم من أنها ضد المنطق، وبالتالى ضد العدل، لكنها تتماشى مع النظام الحاكم القائم على التفرقة بين الناس على أساس الجنس والطبقة والجنسية والدين، يتفاخر رؤساء الدول ونخبهم المسيطرة على الفكر باعتناقهم الفلسفة البراجماتية، وتعنى باللغة العربية «الفلسفة النفعية» يعنى المصالح والمنافع تسود على مبادئ الأخلاق الإنسانية، يمكن أن تكذب وتخدع وتخون وتسرق وتقتل فى سبيل حماية مصالحك ومصالح عائلتك ودولتك، تقود الدول الرأسمالية (على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبى) هذه الفلسفة البراجماتية، لهذا تستمر الحروب المسلحة من أجل نهب موارد الآخرين الأقل قوة فى الداخل والخارج، إن استغلال الفقراء والنساء داخل الدولة نفسها لا يقل إجراما عن استغلال الشعوب فى دول أخرى، هذه هى الفلسفة السياسية منذ العصر العبودى حتى اليوم، وهى التى تشكل القوانين والأعراف والعقائد فى الغرب والشرق.

هل تغير الثورات الشعبية هذه الفلسفة المسيطرة على العقل البشرى منذ آلاف السنين؟ تهب الثورات الشعبية فى كل بلد بسبب الظلم الواقع على الفقراء والنساء، وهم الأغلبية فى أى دولة، لكن سرعان ما تتراجع الأغلبية المقهورة، فقراء ونساء وشبابا، تحت ضربات الدولة الحاكمة بالبوليس والجيش والمال ونخبها الإعلامية والثقافية، تتعاون معها الدول الخارجية الاستعمارية التى تتقاسم معها ثروات هذا البلد، تكررت هذه العمليات الإجهاضية لكل الثورات الشعبية، علينا الرجوع إلى الثورات الشعبية المصرية ضد الحكومات المحلية المتعاونة مع الاستعمار الأجنبى، هذه الثورات المتكررة على مدى القرن ١٩ والقرن ٢٠، حتى ثورة يناير ٢٠١١ فى القرن ٢١، نرى أن الدول الخارجية الاستعمارية تقاتل مع الدولة المحلية ونخبها المميزة، بكل الوسائل الإعلامية والثقافية والعلمية والعسكرية والاقتصادية والمالية والشرعية والقانونية، وكل ما تحت يدها من إمكانات وأدوات، من أجل عدم تغيير النظام الذى طالبت الثورة بتغييره، تحت اسم الحفاظ على استقرار الدولة والأمن والاقتصاد والأخلاق والقانون والوطن والعرف وقيم الأسلاف منذ العصر العبودى.

يندهش كثير من الناس من ظهور هذه التيارات الدينية السلفية فى مصر بعد الثورة، لكنها ظاهرة تتكرر فى كل الثورات فى كل البلاد شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، تنطلق الأصوات العالية فى الدولة، الممولة بأموال وفيرة من الداخل والخارج، تنادى بالعودة إلى السلف والأسلاف.

كتاب العهد القديم منذ آلاف السنين، وردت فيه آية الأرض الموعودة، احتلت إسرائيل أرض فلسطين تحت اسم هذه الآية منذ عصر الأسلاف، وفى أوروبا وأمريكا وكندا لعب كتاب الإنجيل دورا فى الحروب الاقتصادية بين الكاثوليك والبروتستانت، كل فريق يفسر الإنجيل حسب مصالحه ويكفر الخصوم، تكررت هذه العملية فى كل الحروب بين المسلمين أيضا، كل فريق يفسر كتاب الله حسب مصالحه ويكفر الخصوم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حرة وعادلة وقوية
ناديه كاظم شبيل ( 2011 / 9 / 13 - 09:02 )
الدكتوره نوال السعداوي انسانة حرة وعادلة وقوية
ليت حكامنا اللصوص يتعضون بما يخطه قلمك الشريف
دمت


2 - العادلة مفهوم الضعفاء
عمر سعد الشيباني ( 2011 / 9 / 14 - 02:54 )
مقالة الدكتورة رائعة، لكني أجد أنها مندفعة حول مثاليات من الصعب ايجادها في عالمنا هذا. لأن ببساطة هناك مفاهيم صنعتها الطبقة الضعيفة عبر التاريخ هي العدل، الحكمة، القانون، ومن ثم تأممت كل هذه الأفكار من الأقوياء سواء من الحكام أو طبقتهم المقربة. ونشأ مايسمى بالمفردات الموازية لمطالب الناس، لكنها ليست مثلها ابدا. ماأريد أن أقول هو أن مفاهيم العدل والحب والدمقراطية نشأت من خلال الصراع والثورات الشعبية في التاريخ، وتأممت من الطبقات الحاكمة. وهنا المشكلة
لك تحياتي دكتورة


3 - الطريق طويل
شادي علي ( 2011 / 9 / 14 - 08:50 )
الطريق طويل ومشعب حتي نصل الي مفاهيم انسانيه راقيه - اذ ليس هناك في وقتنا الحالي من يعترف بالاخر ويتعامل معه علي انه انسان ناهيك عن باقي الحقوق


4 - الدنيا و الدونية
شعبان عمر ( 2011 / 9 / 14 - 19:39 )
كانت الفلسفة تجد حلول في السابق وكان هناك معتقدون لكن حاليا لم تعد الناس تثق في الرئى و لا تكترث للمبادء و هذا راجع للحرب الشعواء التي خاضها النظام الليبرالي المندفع لإحتواء الفكر الشيوعي الإجتماعي المتسامح نوعا ما لكن كان من الواجب احداث اصلاحات في الفكر الإشتراكي لاتغيير المنهج لأن الفكر الإشتراكي كان يحمي الطبقات و يفر الإطمأنان النفسي للفرد داخل المجتمع و الإطانان للمجتمع بصفة عامة الآن وقد غلب الفكر المادي المصلحي لن تكون هناك سياسة المبادء بل أطلق العنان لكل المخيلات الثقافية و العلمية لتبدع مذاهب سياسية قائمة على المصلحة و تستخدم عبارات التسامح والاخوة والعدالة و كل ماله صلة بالأخلاق المثالية لكنها تاتي بصفة الاوامر بمعنى يجب عليك ان تحب هذا وتكره هذا هذا ارهابي وهذا انساني نمذجنا افضل من نموذجكم و هنا تحدث حروب باردة بدل من حرب واحدة كانت سائدة و دون التعليق على الصراعات الدينية والمذهبية في الدين الواحد لإضهار الإله الأكثر انسانية و الأكثر شعبية مثلما جاء جاء في القرآن بلدة طيبة ورب غفور من لا تتوفر فيه هذه الصفة فهو بالضرورة محكوم عليه الإنصياع لغيره من المتحضرون عقائديا


5 - نوبل
rawa ( 2011 / 9 / 14 - 21:48 )
جائزة نوبل جديرة بهذه المرأة الخصبة الجليلة تستحق منا كل الاكبار والاحترام؟

اخر الافلام

.. كلمة ايريك سيوتي عضو اليمين الفائز بمقعد البرلمان عن نيس|#عا


.. قراءة عسكرية.. محور نتساريم بين دعم عمليات الاحتلال و تحوله




.. تفعيل المادة 25 قد يعزل بايدن.. وترمب لا يفضل استخدامها ضد خ


.. حملة بايدن تتعرض لضغوطات بعد استقالة مذيعة لاعتمادها أسئلة م




.. البيت الأبيض: المستوطنات الإسرائيلية تقوض عملية السلام والاس