الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وخزات الألم

هويدا صالح

2011 / 9 / 13
الادب والفن



لم تستطع أبدا أن تحاول كسر ذلك الطوق الذي أحاطت نفسها به ذات وجع . كل من ينظر في عينيها يفزع من قسوة تلك النظرة التي تواجه بها العالم . قسوة تعمدتها ذات يوم ، ثم صارت جزءا منها بالضرورة . هي لم تكن ترغب في أن تصدر للعالم تلك الصورة المغلوطة عن ذاتها ، لكنها تعلمت أن تتخذ دفاعات نفسية تمكنها من العيش في سلام وسط عالم يطفو فوق بحر من القسوة والاستغلال . يدفعها التوق أحيانا أن تأتي بألبوم صورها حيث كان القلب ما يزال ممتلئا تسامحا وحنوا . تتأمل الصور التي تظهر شغفها ومشاكساتها لكل ما يحيط بها، وتبتسم ابتسامة باهتة.اليوم زميلها في العمل قال لها أنه متأكد أن لها تاريخا سريا تخفيه وراء قناع الصمود هذا. وضحك ساخرا وهو يضغط على حروف كلمة سرّي محاولا استفزازها. نظرت في الساعة المثبة قبالتها على الحائط الزجاجي الذي يفصل مكاتب المهندسين عن مكتب رئيسة العمل، ثم لملمت أشياءها وغادرت دون أن تعلق بكلمة. زميلاتهاغضبن منه هو الرجل الوحيد الذي يقاسمهن المكتب الاستشاري للهندسة والبناء في عمارة رمسيس. شعر بتأنيب الضمير لدقائق قليلة لم تمنحه الفرصة أن يعد نفسه أو يعدهن ألا يستفزها ثانية .
في طريقها لركوب مترو الأنفاق كانت تفكر في كلماته. ضغطت بأسنانها على شفتها السفلى . وحاولت منع دموع تريد أن تنزل من عينيها الغاضبتين. النفق الرخامي يضيق أمامها . تفتح عينيها وتغمضهما مرات محاولة إفاقة نفسها كي ما تسقط. غمامة رمادية تغطي عينيها. النفق يضيق أكثر والأضواء الموزعة على الجانبين تبهت. تشعر أنها ستسقط، فتسرع الخطو كي تصل إلى رصيف المترو، وبوهن شديد تدخل عربة السيدات . تجول بناظريها، فلا تجد كرسيا فارغا؛ تسند ظهرها لباب العربة وتغرق في الصمت . لم تتضايق من محاولات استفزازه لها. تعودت منذ زمن طويل على فضول الرجال . منذ أن تطلقت ونظراتهم المستريبة تحيطها، تحاول أن تتعرف على أدق تفاصيلها. أفلحت أن تحيط نفسها بستار من الصمت والقسوة هربا من نظراتهم التي تبحث داخلها عن شئ يثير فضولهم. حذرتها أمها وزميلاتها في المكتب من قرار الانفصال . حكمتهن البالغة عن وضعية المرأة المطلقة لم تكن كافية لإقناعها بأن تدع الحياة تمر دون أن تنال لقب امرأة مطلقة. ربما لم تكن شجاعة . لم تكن شجاعة على الاطلاق . فقط لم تطق الحياة وهي تنال نصيبها اليومي من غضبه وقسوته المفرطة لأقل شئ. لم تكن شجاعة أبدا تلك التي دفعتها لأن تواجه العالم القاسي وحيدة ، بل كانت قسوة العلامات الزرقاء التي تتركها يداه على جسدها . علامات قاسية تتحملها في صمت دون دمعة وحيدة تخفف عنها قسوة الألم . وبعد أن يفرغ منها يجلس يبكي بين يديها ويمرغ وجهه في صدرها راجيا رضاها. تنظر إليه في جمود وتتركه في صمت. يلحق بها ويقبل آثار الضربات على جسدها، ويعدها بالروح القدس ألا تمتد إليها يده مرة أخرى. سنوات مرت وهي تتحمل كل شئ صامتة، حتى رحمة الاعتراف في الكنيسة لم تمنحها لروحها المعذبة. لقد اختارته بمحض إرادتها. في كل مرة يحاول أن يلمس جسدها ويخيب يفرط في ضربها.عوّدت نفسها على الصبر والسلوان . قليلة هي المرات التي كانت تجلس وحيدة في حجرتها وتغلق عليها بابها وتتملس جسدها الذي يفيض رغبة. تدرك جيدا ما يعتورها من رغبة ،فتحاول إفاقة نفسها بسرعة، فتغرز أظافرها الحادة في ذراعيها، وحين يغلب الألم الرغبة تدخل إلى الحمام . تدفن جسدها الفائر في الماء البارد ، وحين تهدأ روحها تخرج متسامحة ومتصالحة مع ذاتها. لم تخبر أحدا بما تعاني . كلما ذهبت إلى الاعتراف كانت تبحث عن خطايا صغيرة ارتكبتها لتحكيها للكاهن الذي يشعر أن ألما عميقا ينخر في روحها ، لكن موقعه لا يسمح له أن يستنطقها . هو فقط يتلقى اعترافها بما ترغب أن تبوح به ، لكنه يثق أن في الأمر ألم عظيم يحتاج لصبر أعظم يشعر أنها تتغلب به على هواجسها. تخبره عن الخطايا ، لكن أبدا لم تخبره عن لسعات الحزام الجلدي الذي يترك آثاره على جسدها ، ولم تخبره أيا عن حلمها المتكرر بقتله. قرأت كثيرا في علم النفس لتفهم سر تكرار حلم القتل ، وحين أدركت أنها تحوّل رغبتها في الفرار من قسوة الرجل الذي يشاركها سريرها إلى حلم بالقتل لامت نفسها كثيرا ، لكنها لم تستطتع أن تعترف بذلك أمام الكاهن. وصلت إلى نقطة لم تعد تتحمل الألم. هو يحملها ذنب خيباته مع جسدها المتمرد كفرس بري. قالت له بهدوء وروية تليق بقرار سوف تدفع ثمنه طوال حياتها :
ـــ الحياة أصبحت بيننا غير متحملة ، وأريد الطلاق .
رفضت الكنيسة أن تنقذ روحها المعذبة، فلجأت إلى الطلاق المدني ، ولما نالته حكم عليها الأب الذي عمدها وهي صغيرة ، والذي رعى روحها طوال عمرها بألا تدخل الكنيسة ثانية، بل قال لها بغلظة لا تليق بتربيته
الروحية لها:
ــ إذا تزوجتي من آخر ستصبحين مرتكبة لخطية الزنا.
استمعت إلى كلماته القاسية وغادرت في صمت . ربما يدفعها الحنين أحيانا لأن تذهب إليه تبكي على أعتابه وتطلب رحمته، لكنها تخشى تجدد جراح روحها، فتجثو أمام صورة العذراء التي تتوسط الصالة الكبيرة في شقتها. تشعل لها الشموع، وتبكي راجية راحة لروحها لم تجدها عند البشر .
حين وصلت المنزل قررت أن تطلب نقلها من المكتب الذي يشاركها فيه زميلها. كلما توترت من نظرات الرجال تشعر أن دبابيس حادة تخترق جلدها. لم تعد تطيق الجلوس في محيطه. تفهمت رئيسة المكتب عذرها ونقلتها إلى مكتب آخر. ومع ذلك لا تسلم أبدا من نظراته التي تجردها من ملابسها كلما مرت أمامه أو دخلت المكتب المشترك لأي سبب . زميلاتها قلن لها أنها لن تستطيع أن تهرب من نظرات الرجال ، وإلا عليها أن تدخل الدير، فالنساء كلهن يتعرضن لمثل هذا الأمر . لم تجد في نفسها القدرة على التعبير عما بداخلها ، فكتمت دمعتين ترقرقتا في عيينيها، وانصرفت .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمي


.. كلمة أخيرة - بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء




.. كلمة أخيرة - ياسمين علي بتغني من سن 8 سنين.. وباباها كان بيس


.. كلمة أخيرة - المهرجانات مش غناء وكده بنشتم الغناء.. رأي صاد




.. كلمة أخيرة - -على باب الله-.. ياسمين علي ترد بشكل كوميدي عل