الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ابي صورة على الجدار

عبله عبد الرحمن

2011 / 9 / 16
الادب والفن


ابي صورة على الجدار

عبله عبد الرحمن

حدث ذات عيد أن كنا صغارا، أكبرُنا لا يتجاوز السابعة من العمر، وأصغرُنا كان جنينا يزدهي معنا فرحتنا بالعيد وبالثياب الجديدة، حين تحولنا من أطفال صغار ينشرون براءتهم في البيت أو أمامه على مصطبة تنفرد مسترخية، كانت تكفي لتضم ضحكاتهم وصراخهم وألعابهم التي ابتدعوها بأنفسهم، إلى أطفال لا يمارسون فرحة العيد بل يمارسون حزن الكبار، أطفال رؤوسهم أصبحت مشاعا يمسح عليها الكبار من الرجال والنساء بغية كسب الحسنات، أطفال دموعهم طغت على ابتسامتهم وبهجتهم بالعيد عندما راءوا بأذانهم قبل أعينهم هذا النفير الذي عم البيت متشحا بالسواد وبالصراخ.
ربما استجلب الآن ذكريات بعيدة مستقرة في عمق النفس، مرّ عليها ردح من الزمن، ذكريات لم تكن نائمة، ولكنها مخدرة استطلعها ما بين الحين والأخر كلما دعا الأمر وكأنني ما تركتها إلا بالأمس، ذكريات عن أب لا يأتي، عن أب لم يحملني بين ذراعيه، لم يشتري لي ثيابا للعيد، لم يعطيني مصروفا، لم أتشبث بذراعه وأسير إلى جانبه بغنج أتلهى بفستاني عنه، هل تراه كان سينتهرني أو حتى يضربني، هل كان سيتدخل في شؤوني ويمنعني عن صديقة لا يقنع بسلوكها، هل كان سيذهب معي في أول يوم دراسي إلى المدرسة في رحلة الحياة، ما يحيرني أنني اجهل حتى الساعة ماذا يمكن أن يفعل الآباء لأطفالهم، هل يضاحكونهم ، هل يلاطفونهم، وهل يكونون صدرا حنونا كما يشاع عنهم وكما قرأت في قصص كثيرة.
كبرت وانفي لا يعرف لمعجون الحلاقة رائحة، ولا لأي نوع من أنواع التدخين، أو الروائح التي يستخدمها الرجال، فلا صوت خشن يتمازج مع أصواتنا نحن الصغار أو مع صوت أمنا، ولا حتى نرى حذاء اسود كبير بالبيت.
حين كنت في صفوف المدرسة كم حاولت إخفاء حقيقة موت أبي، وكم كان يحزنني سؤالي عن ماهية عمله، فأجيب بضعف الحزين انه ميت!
عرفت بالفطنة أن الصورة المعلقة على الجدار هي لأبي، جميعنا كان يخشى السؤال عنه، ملامحه وأفعاله في الفترة القصيرة من عمره في هذه الحياة كانت تنم عن رجولة، بحسب من عرفه وبحسب صورة الجدار، كان له شعر اسود فاحم،و بياض جلي، الحواجب معقودة، ابتسامة خفيفة لم تسمح لنا حتى بتبين أسنانه، قميص مفتوح من أعلى وشعر اسود يعلو صدره.
لا ادري هل كان ينقصني أن أحبه وأحسه كيانا حقيقيا يسير بيننا، يكبر وتكبر ملامحه معه، يشيب شعره وتتجعد ملامحه، ما أصعب أن تكبر أنت وتتلون حياتك بشتى المراحل العمرية، وصورة الجدار، هي هي لا عمر ظهر على ملامحها ولا صوت خرج منها، ما أصعب أن يكون عدد سنوات الفراق بينك وبين أغلى الناس بعدد سنوات العمر، ما أصعب انك لا تستطيع أن تتخيله أو حتى تسمع صوته، كم تمنيت لو انه يعود يوما فابكي على صدره، وأناديه أبي! ولكن مهلا ربما هو أيضا لم يعتد على كلمة أبي، بالكاد جاء بنا إلى هذه الحياة، وبالكاد انتهى به العمر غريبا، في ارض لا تتكلم بالعربي، هل تراه كان يسعى للمال والحياة السهلة، أم انه كان يسعى إلى قبره الأخير، لكي نحيا بأمل انه لم يكن ميتا وبأنه سيعود محملا بالهدايا. كم كنت بريئة عندما تمنيت ذات عيد أن يكون لي أب ولو لمرة في الشهر أو حتى في العام، كم تمنيت التوجه إليه بتحية العيد، قدرنا أنا وإخوتي معه أن نحس به وحالنا يقول كل عام وهو ميت!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الصورة تجمد الزمن
سيمون خوري ( 2011 / 9 / 17 - 00:53 )
الأخت عبلة الكاتبة المحترمة تحية لك . فعلاً ما اصعب أن يكون الفراق بينك وبين أقرب الناس بعدد سنوات العمر . تعبير جميل لمشاعر وحنين الى معنى الحب الحقيقي. وبالمناسبة الصورة دائماً تجمد الزمن في تلك اللحظة الزمنية . أي أنك عندما تنظرين الى صورة ما فإنك تنظرين ذاك الزمن بتفاصيله المحيطة بالصورة. المهم هذه المادة الثانية لك في موقع الحوار وهذا شئ جيد. لكن يجب لفت إنتباه الأخوة في إدارة التحرير الى أن العمود الأيسر تحت عنوان مواضيع أخرى للكاتب لم يشر الى مادتك الأولى. لذا يفضل كتابه تعليق للموقع لتلافي الخطأ الفني الحاصل. مع التحية والتقدير لك على أمل إستمرارك في العطاء.


2 - جمال الحياة
عبله عبدالرحمن ( 2011 / 9 / 17 - 09:31 )
الاخ الاغلى سيمون، تحية اعتزاز كبيرة باتساع المدى، ربما لا ينفصني ان اقول ان الحياة تتجمل بعيوننا عندما نصادف فيها اناس يستحقون الحياة مثلك، حياة يصبح لها ضياء الشمس ورائحة الورد، اعتن بصحتك من اجلنا

اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي