الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنا والبحر والنورس

مسعود عكو

2011 / 9 / 18
الادب والفن


كان يوماً كئيباً، تخطت الأحزان أعلى نسبة لها، لا أعرف ماذا أفعل، صوب البحر القابع أمامي اتجهت وبدأت أشكو له ما آلت إليه أحوالي. نحو البحر سرت، بعض طيور النورس تقترب مني، ومع الأسف لا أحمل لها أية حبات ذرة أو خبز ارميها لها كي تسد من جوعها. تلك الطيور لا تخاف منا كمان كانت في بلداننا، إنها تقف أمامك وتنظر إليك وتقول أريد أن تعطيني شيئاً، ولا أخاف منك كونك أضعف مني، أقله أنا يمكنني الطيران، أما أنت فسجين قدمين سوف تهرم غداً ولا تستطيع أن تسير حتى إلى البحر مرة أخرى.

على مقعد خشبي جلست، وصوب الأفق نظرت، أتخيل الكثير من الأشياء، وأحن إلى البعض منها، اشتاق إلى أمي، فهي تحبني أكثر من كل نساء الكون، واشتاق إلى مايا ابنة أخي التي أحبها كما أن تكون ابنتي، واشتاق إلى نفس نرجيلة في مقهى النوفرة بالخلف من مسجد بني أمية في القيمرية في دمشق القديمة، مع كأس شاي خمير.

البحر هادئ وليس كعادة بحر الشمال المعروف بهيجانه، نسمات هواء خريفي تلفحني بقليل من البرد، ألوان الطبيعية في النرويج ليست كأي ألوان في خريف أي أرض أخرى، مختلف جداً، فالأحمر يداعب الأخضر المائل إلى الصفار، وبينهم خطوط بنية فاتحة. لا يمكنني وصفها كتابة عليك بمشاهدتها مباشرة قبل أن تغطيها ثلوج الشمال الثقيلة.

اقترب مني النورس، وبدأ ينظر إلي ويومأ برأسه، ويقلبه يميناً ويساراً، وكأنه يتفحصني، قلت له هل تعرفني؟ رد علي وقال ومن أنت حتى أعرفك؟ صدمت بجوابه، فكان ظني سيقول لي على الأٌقل أنت آدمي. لكن جوابه كان قاطعاً، لا يهمني من تكون بل يهمني هل معك ما تعطيني. تذكرت في تلك اللحظة النوريات اللائي كان يطرقن أبوابنا في قامشلو ويسألن عن "كشتهن". قلت للنورس لا ما لك عندي شيء، وما ظني أني سأقابلك، كنت أسير صوب البحر، وتعبت قليلاً، لذا جلست على هذا المقعد، وإن كان يزعجك جلوسي فيمكنني الانصراف. نظر النورس إلي نظرة خبيثة وطنشني ودار ظهره لي، وبدأ ذيله يميل من مشيته المعروفة.

عدت إلى مشاهدة الأفق، وأحاول أن استرخي وأريح عيناي من شاشة الكمبيوتر التي أقف أمامها ساعات طويلة يومياً. ارتاح من مشاهدات الفيديوهات المليئة بالدم، والقتل والمشاهد المقززة. صور قتلى وأشلاء متقطعة، ورائحة الدم تزكم الأنوف، أرقام الشهداء تتصاعد، حتى أصبحت الأرقام كعداد لا يمكن إيقافه. موت في كل مكان في سوريا.

رجع النورس إلي ومعه قطعة خبز بين منقاريه، وانزلها أمامي، ونظر إلي، قال لي، انظر كيف لي أن التقط رزقي، وبالرغم من أنك لم تجلب لي أي شيء، فها أنا ذا أقدم لك ما في حوزتي كي نتقاسمه، وليكون بيننا خبز وبحر. خجلت من كرم النورس، وقلت له لست بجائع، فقال لي لا يهم، كل قليلاً لا تخجلني، شكرته وقلت له صحة وهنا.

سألني النورس ما بالك؟ فقلت له اشعر بالحزن، والكآبة. قال ولما؟ فقلت له لا أعرف يمكن لأنني بدأت اشتاق إلى وطني، وحزين لما يجري فيه. قال النورس معك حق فأنا أيضاً مشتاق للكثيرين، وأعرف تماماً بأنني لن أقابلهم مرة أخرى، لكن اشعر بالفرح عندما أحلق عالياً، بالرغم من كل أحزاني.

قلت للنورس، كم كنت أتمنى أن أكون الآن في وطني، أتظاهر مع الناس، واهتف للحرية القادمة، أسير في شوارع دمشق وقامشلو وأنا أتنفس نسمات التغيير، وعبير الثورة. أغازل الفتيات والعب مع الأطفال، اكتب عن الثورة، وارفع يدي مردداً ذات الشعارات، كم اخجل من نفسي في هذه الأيام، وأنا بعيد كل هذا البعاد عنهم.

يبدو أن كلامي لم يرق للنورس، حين انتهائي من حديثي رأيته ينظر نحو الشمس التي كانت تدنو من الأفق لتغرق في البحر الذي احمرت مياهه لانعكاس ضوء الشمس عليه. تنهد النورس زفرة طويلة، وقال لي ما الذي جاء بك لقد أغمتني وأنا الذي كنت أحاول النسيان، أنتم هكذا بني البشر، لا خير فيكم أبداً. تركني النورس، ومشى قليلاً ومن ثم طار بعيداً نحو السماء. وعندما همت بالوقوف كي ارجع بيتي، شاهدت قطعة الخبز التي كانت بين منقاري النورس، يبدو أنه نسيها عندما طار، أو ربما سدت نفسه بعدما سمع مني كل هذا الكلام. عذراً أيها النورس ما كان قصدي أبداً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الدكتور حسام درويش يكيل الاتهامات لأطروحات جورج صليبا الفكري


.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس




.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن


.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات




.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته