الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الليل و الإنسان العربي...

ماءالعينين سيدي بويه

2011 / 9 / 20
الادب والفن


قال أبو حيان التوحيدي:
"الليل أصدق عن خبايا الإنسان من النهار.."
الليل رفيق قديم تعرف الى الإنسان العربي ، في وسط زحمة الهموم وتناثر البلايا ونكزة الألم. التي تكالبت عليه من نفسه و من نظامه ومن علاقاته ، لذلك نجد أن أبلغ الشعر أفصح عنه العرب كان وقته الليل. طبعا ذلك لحضوره المكثف في إستعاراتهم والتشابيه المحببة إليهم ، ففي بلاغات الكلام كان الليل كناية عن السمر حيث يلفظ الجسد آلامه ويدعها تسترسل إلى ما يجعله يحس من سكرها أن الهم والألم والتعب قد زالوا جميعا.
الإنسان بحر تتعايش فيه عوالم متجاذبة و متقاطعة ، ولشدة حلكة بواطنها فإن العواطف و الأفكار والأحاسيس والتخيلات الساكنة بها ما تكاد توقن بتزايد حاجاتها حتى تطلع من ذلك القبو ، إلى الحياة الضاجة خارج الذات الإنسانية.
فكان الليل بيان الصامتين ، يعلن عن كمائن جواهرهم الضاجة بأسرار وخبايا جعلت حرارة الجسد بركانا دون فوهة ، والقلب أنهارا دون بحر ، وبعقله حياة بدون ماء .فالليل صديق المحبين إذ يعترفون بلواعجهم ، و رفيق المبدعين والمفكرين إذ يبدعون ويكتبون حياتهم المريرة أو الحلوة ، وصاحب المتعبين من عناء النهار و ضيق العمل.
لذا كان "الليل أصدق عن خبايا الإنسان من النهار.." ، بعد أن مرت عليه أوقات عصيبة أفضت عن شعوره بألم المتوحد ، أي الغريب عن عالمه و وطنه . فهو منه، ولكن لا يتجانس معه. كالإنسان العربي قديما وحديثا لما غصت نفسه بالهموم و كثرت البلايا والخبايا ، فنام مقتولا بهمه من فرط صمته فما عاد خاطره يسع حتى لسماع اسمه او اسم زوجه او ولده .
إن خالة الخوف التي يعيش الإنسان من الواقع والمصير ، من الآخرين والسياسة بل حتى من كل شيئ يذكره بانسانيته المرصعة بجوهر الحرية ، لا تجعل منه إلا انسانا ينسى ذاته و وجوده مرغما . و هو العاجز ايضا عن البوح بما يثقل خاطره وبما يسود عيشته، لما جرح كبرياؤه من جسام الامور التي يكتم، وهوائل الكدمات التي التي تدوسه ،هنا يكون الليل أصدق عن خبايا الإنسان العربي .
"الليل أصدق عن خبايا الانسان من النهار .."هي من كلام أبو حيان التوحيدي في القرن الرابع الهجري، من كتابه مثالب الوزيرين. أخلاق الصاحب ابن عباد وابن العميد . وذلك حين خبر بما يتلاطم داخله من خبايا نكد ،شؤمه ما خالطته ولا همت به حتى عم البلاد والعباد ، ما يسببه الوزيرين فيقول عنهما :...و زال بنظرهما ما فيه الأمة من هذا العيش النكد ، والشؤم الشامل ، والبلاء المحيط ، والغلاء المتصل ، والدرهم العزيز ، والكسب الدنس ، والخوف الغالب ، ولكانت الأرض تخرج أثقالها ، و تلفظ كنوزها ، ويستغني عن ألم الفقر أهلها ومن فضيحة الحاجة أربابها ، ويعود ذوي الدين ناظرا ، وخامل المروءة نبيها.(1)
ولعل في هذا الكثير مما يقارب حال الإنسان العربي في القرنين العشرين و الواحد والعشرين ، حتى لو إختلف ليله عن ليل أبو حيان ، فما زال الليل ملاذا أخيرا يتوسله بعد شمس كل يوم أفلت من قبضة العمر. يستنجد ببهيمه وصمته كي ينفجر فيهما بعيدا عن المطاردة و المراقبة و الرقابة على نفسه وعيشه و فكره او احلامه وخيالاته.
الإنسان العربي يكاد يموت في التاريخ الحديث بسبب الكذب و الزيف الذي لطخ حقيقة إرادته . الإرادة التي قتلتها الأسماء المستعارة في مدح الواقع و مهيع الأشياء البئيسة الساكنة معه ، من قتل وقمع و احتلال وفوضى تلغي الحرية و العدالة ومنابع المواطنة والكرامة التي كان من المفروض أن تعم الوطن العربي بعد الإحتلال الأجنبي . فتبث العكس أن تلك الإرادة كانت تجابه إحتلالا داخليا أقوى و أعنت و أدمى بكثير من سابقه ،تمثل في النظم الديكتاتورية.
ففي زمن الأنظمة العربية الحالية ، العيش النكد ميزة ينفرد بها الاقتصاد في الفقر المنتشر والبطالة المستفحلة . ثم اللاكرامة المواطينين ، فالشؤم الشامل لا ينثني عن نسج سواده على الخارطة السياسية ، لما ساد الاحتلال والقتل والتبعية المذلة للحكومات الغربية . ثم في البلاء المحيط ، والغلاء المتصل الى الدرهم العزيز والكسب الدنس . فهي عناوين مرادفة للإقتصاد الذي يخدم القلة ، و يتبرؤ من الشعوب.
أما الخوف الغالب ، فراهن الدساتير والقوانين الصورية المختصة فقط بالسجن والتعذيب والقمع . إنه وجه السياسة العربية . كل هذا يعد الحقيقة البارزة في الواقع السياسي العربي ،وإلا لكانت الأرض تخرج أثقالها وتلفظ كنوزها ويستغني من ألم الفقر أهلها..بما أفصحت عن تلك الخبايا روح أبو حيان التوحيدي . بالأمس واليوم فقد أتى حين من الدهر ـ يقول التوحيدي ـ بكت العرب من وقع الهجاء ، كما تبكي الثكلى من النساء ، وذلك لشرف نفوسها ونزاهتها عن كل ما يتخون جمالها ويعيب فعالها (2) . وجاء دهرنا هذا الذي بكت فيه العرب على فقدان كرامتها ، وهدر قيمتها في زمن موحش خائن لوجودية الشخصية العربية . إن زماننا الراهن الذي كثرت فيه الخبايا والرزايا هو زمن الهجاء الوجودي بجدارة.
(1)_كتاب مثالب الوزيرين اخلاق الصاحب ابن عباد وابن العمدة..ابو حيان التوحيدي دار التفكير دمشق/دار الفكر المعاصر ط. 2.1998. ص : 80
(2)_ نفس المصدر. ص 85








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث