الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول كتاب “القفز بلا أقدام” لجلال فاخوري

هشام غصيب

2011 / 9 / 24
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


لا ! ليست هذه بأفكار ونظرات فلسفية، وإنما هي قصائد نثرية تنزف ألما وحزنا وتفيض شوقا وعشقا وتلتهب إرادة وتحديا، كتبها كائن بطولي اسمه جلال فاخوري. وإنها بالفعل لقفز بلا أقدام؛قفز روحي مخيالي من فرط الألم والتحدي؛ صيحات مكبوتة وأنين وجع موجع يؤكد الحياة وجمالها الأخاذ حتى في أحلك اللحظات. تسمع كلمات العشق والغرام المؤكدة للحياة تتزاحم معاً لتخرج إلى حيز الوعي، وسرعان ما تجدها تنزلق إلى وادي الدموع المثخن بالألم والوجع والضياع. إنها لصور وجدانية بليغة تنبثق من قلب اللاوعي الفرويدي محملة بعقد الرعب والألم ممتزجة بالعشق والشوق وحب البقاء. وهي صور متنوعة، لكن يحكمها نسق واحد وبنية واحدة. إن قلب جلال النابض النازف ليصرخ فينا وفيه أيضا، يريد أن يوصل فكرة ما، شعورا ما، نأمة ما، إلينا، لكنه يشعر أن اللغة تخونه، فيكرر المحاولة بالشكل ذاته، ولكن بمضمون آخر.
غريب أمر هذا الكائن البطولي، جلال. غريب كيف حافظ على قلبه وملكة العشق لديه وقدرته على الشعور البركاني الجارف وعلى روح الشوق وعلى إرادته للقوة والحياة سليمة حية عاصفة، بعد كل ما مرّ عليه من مآسٍ ومعاناة ومكابدة. فعادة ما تقود الأخيرة إلى بلادة في الحس وغلاظة في القلب وانغماد عاطفي و “تمسحة” في الوجدان. إنها عادة ما تطمس الروح. لكن طول سعيرها جاء بأثر عكسي على جلال. إذ زاد قلبه خفقانا ولاوعيه عمقاً وتأججا وملكة الحلم لديه خصوبة. ومع ذلك، فإن كل ما يصدر عن هذا القلب وذاك اللاوعي مجروح في صميمه ينزف ألما ووجعا. انظروه يقول: “هل تشاركيني سيدتي كأس ألمي المطعم بماء كبريائي؟ هل تشاركيني فنجان معاناتي الملطخ بدماء عذاباتي؟ هل تشاركيني مولاتي أفراح مراراتي المحلاة بفتافيت فرح لقياك؟ وتصطدم عذاباتي بأفراحك مولدة حرائق الشوق. إنه صدام العشق المرتعش على أفق الغياب بل صدام العشق الراقص على حبال الهزيمة، هزيمة الإرادة التي كسر فرحتها قدر ظالم” (ص137).
أي ضرب من الغزل هذا؟ لقد خلق جلال معشوقة وهمية من أجل التركيز عليها هربا من آلامه وعذاباته ولكي يتحملها. لكن هذه الآلام والعذابات كانت تفرض حضورها القاسي فرضا عبر المناجاة الوهمية. وهل هزم القدر الظالم إرادة هذا الكائن البطولي؟ بالتأكيد لا. فمن يكتب ويصر على الكتابة، يصر على ممارسة هذا الفعل الإلهي المقدس، لم يهزم. فالإصرار على صنع المعنى والتعبير العقلي هو مؤشر جلي على الحياة، ومن ثم الإرادة. إن الإرادة لهي جوهر الحياة والذي يميزها عن أي غيرها في الكون. فالحياة إرادة والإرادة حياة. والحياة هي سيف إرادة مغروس في قلب كون عشوائي لا إرادة له أو فيه. إن الحياة نشاز في الكون. إنها نقيض للكون مغروس في هامش منسي منه. لذلك فهي محاصرة دوما فيه وتنتظر تصفيتها وإخمادها. لكنها تصر على البقاء والفرح برغم إدراكها أن وجودها مخاطرة مؤقتة. لذلك فإنها تدمر ولا تهزم، تصفّى ولا يداس عليها. إن الحياة لهي بطولة عبثية مطلقة. لكنها إرادة مطلقة تأبى الهزيمة والاستسلام . لذلك فهى تتصدى دوما، بفكرها وعشقها وشعورها وأحلامها ورغباتها وشوقها وعشقها، تتصدى للكون برمته، برغم إدراكها أنها معركة محسومة النتائج سلفاً. لكنها إما أن تتصدى بحكم كون جوهرها إرادة مطلقة وإما ألا تكون. وهذا بالضبط ما يصوره ويمثله هذا الكائن البطولي، جلال فاخوري.
إن جلال يتحمل قسوة القدر، قسوة الوجود العياني، بإرادة الخلق، خلق رموز تشده بقوة العشق إليها، فتنسيه مؤقتا قسوة العياني، قسوة المادي. لذلك يختلط في كتابه الألم بالعشق، الغزل بالأنين، الدماء بعطر الجمال. اسمعوه يقول: “.. أعجزني اختفاء إرادة كانت تكسر سيف القدرة، فخارت مني الروح وتسلل اليأس كالصرصار يلسعني دون إحساس به …. أذبلت ورودى رياح لا تحمل الغيث، رياح هوجاء ألغت هويتي ومست وجودي وشطبتني من سجل التاريخ الذي حاولت أن أصنعه، تاريخاً خاصا بذاتي، تاريخا يغير وجهي النحس، ويغير حظي التعس. تكاثرت حولي غيوم الكآبة، فبت ممتقعا لا أعرف البداية من النهاية، رغم أن كليهما حالة سقم وعقم وألم. ” (ص 121).
أي يأس حالك يطل علينا من ثنايا هذا الكتاب؟! إن هذا الكتاب هو بالفعل مجموعة من القصائد، لكنها ليست قصائد عشق أو غزل تتغنى بالحبيب المعشوق، وإنما هي صيحات ألم وعذاب ممضين تتستر بالعشق وتبتكر المعشوقات لسببين:
أولهما أن الكتابة الإبداعية هي بطبعها فعل عشق مقدس.
وثانيهما أن الكائن البطولي جلال يبتكر بذلك طريقة لتحمل الألم واليأس المفرطين من دون أن يلغي الإحساس الممض بهما، أي من دون أن يلغي الحياة بوصفها إرادة ووجدانا.
هكذا أفهم هذا الكتاب الغريب وهكذا أفهم صاحبه، الكائن البطولي جلال فاخوري.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجيش الإسرائيلي يواصل عملياته في جباليا ورفح بينما ينسحب من


.. نتنياهو: القضاء على حماس ضروري لصعود حكم فلسطيني بديل




.. الفلسطينيون يحيون ذكرى النكبة بمسيرات حاشدة في المدن الفلسطي


.. شبكات | بالفيديو.. تكتيكات القسام الجديدة في العمليات المركب




.. شبكات | جزائري يحتجز جاره لـ 28 عاما في زريبة أغنام ويثير صد