الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدير عام...أبي

جاسم العايف

2011 / 9 / 24
الادب والفن


سأتحدث عن موظف حكومي عُينَ بصفة" مدير عام"، روى ليَ والدي عنه ، بعد أن عمل معه وعايشه أكثر من أربع سنوات ، وتعلم منه كثيراً ، ووالدي ومديره العام غادرا هذا العالم في أوقات متباعدة. رحمهما الله وأسكنهما فسيح جنانه.. والدي عصامي جداً ، لا يمنعه أي شيء إذا أراد تحقيقه، ويرى فيه منفعة لأسرته وله. بعد عودته من جندية الاحتياط مخذولاً في معارك فلسطين.. قررَ أن يهجر مهنة "البَنّاءْ"، التي تعلم فنونها ، عاملاً بسيطاً، مع أمهر(أسطوات) البصرة ، حينها، ومن ضمن معلميه الأساسين بعض الأسطوات المسلمين والـ(يهود) العراقيين ، وكلهم لم يبخلوا على عاملهم الفتي بشيء ما ، و تعليمه فنون وطرق البناء، حتى برع في مهنته تحت إشرافهم وحرصهم عليه. أخذ والدي يتعلم سياقة السيارات.. خلال فترة قصيرة ، تمكن منها، ثم اختبر على إجازة (سوق عمومي) فحصل عليها منذ الامتحان الأول مع صعوبته ، وعمل أجيراً في (باص) خشبي ينقل الركاب ، بين أم البروم وميناء المعقل. في بداية الخمسينيات سمعَ أن" شركة توزيع المنتجات النفطية في البصرة"،أعلنت عن حاجتها لسائقي (تريلات). دون إي خبرة بسياقة (التريلات) تقدم للامتحان، بعد أن استفسر كثيراً،عن كيفية سياقتها. وكان من أوائل الناجحين. ظل يعمل سائق (تريله) لنقل مشتقات النفط بين مختلف مناطق الجنوب العراقي. بعد أن تم مراقبته بدقة من بعض المهندسين الانكليز، والهنود ، والعراقيين، العاملين في الشركة ، واكتشفوا قدرته السريعة على تعلم اللغة الإنكليزية شفاهاً و بعض اللهجات الهندية ، وأناقته ، على فقر حاله ، وحسن تعامله مع الآخرين، ومهارته في السياقة ، وأمانته الشخصية ، انتدب للعمل كسائق لـ"رئيس مهندسي الشركة الإنكليزي". بعد 14 تموز 1958 ، غادر الشركة الخبراء الأجانب جميعاً، وشغل مكانهم بمهنية عالية بعض الخبراء العراقيين ، وعُين فيها(عراقي) مديراً عاماً لها ، ونُسب والدي سائقاً شخصياً له. يخرج والدي منذ السادسة صباحاً على دراجته الهوائية نوع (فلبس) ويأخذ من والدتي (عود بخور) هندي، ويذهب من (الفيصلية)التي باتت(جمهورية)، نحو مقر الشركة في منطقة (المفتية).ينظف سيارة (المدير العام) جيداً ، واتذكر إن السيارة لونها (رصاصي) وموديلها يعود لعام 56 ، ويضع (عود البخور) في داخلها لتغدو رائحة السيارة لائقة بالمدير العام ، الذي هو خريج كلية الحقوق ويتقن الانكليزية ، والفرنسية كذلك، وحسب روايته لوالدي انه تعلم وأتقن الانكليزية خلال دراسته ، عندما كان طالباً في قضاء (الزبير)، ومع ارتحاله لدراسة الحقوق في بغداد،أضاف لها اللغة الفرنسية ، عبر انتظامه في معاهد خاصة ، وتمكن منها ، كتابة وقراءة وترجمة ، وبقي يعمل في بغداد، حتى تم تعينه مديراً عاماً للشركة بعد 14 تموز . في السابعة صباحاً يتوجه والدي نحو مسكن المدير العام، الذي كان مخصصاً للمدير الانكليزي ، خلال ربع ساعة تصل السيارة البيت. تأدباً من والدي لا يطلق منبه السيارة، ويظل جالساً فيها لحين خروج "المدير العام" من مسكنه بنظارته الطبية وكتابه الذي لابد منه. ينتظر والدي بحدود الربع ساعة وأكثر، ولا أثر لـ(مديره العام) ، فيضطر للضغط على جرس الباب ، عندها يخرج (المدير العام) مُصبحاً والدي بالخير أولاً، ثم يدعوه لدخول داره ، يرفض والدي ذلك حياءً، لكنه يصر على دعوته، ويقوده إلى غرفة الاستقبال، عندها يصاب بالذهول..!؟. لا يوجد في غرفة"المدير العام" الكبيرة غير رفوف خشبية محلية الصنع ، تحتوي على كتب من شتى الألوان، وليس في غرفة (المدير العام) المعين بموجب " قرار مجلس وزراء ما بعد 14 تموز ، والموقع من قبل الزعيم الركن عبد الكريم قاسم " ، إلا منضدة خشبية عليها (كرامافون) مع سماعته الكبيرة وثمة موسيقى تجول في الغرفة.. وكرسي خشبي لجلوس (المدير العام) والمنضدة مكدس عليها مئات الاسطوانات الموسيقية، ثمة (كرويته) خشبية أثرية ، لجلوس الضيوف، وهناك بعض (الكراتين) مملؤة بالمجلات، و لوحات فنية معلقة على الحائط. دقائق ويعود (المدير العام) حاملاً لسائقه،والدي، بيديه (صينية) فيها قدح من الحليب و(كيكة) ربما عملتها السيدة زوجة (المدير العام). تأدباً ينهض والدي مع إحساس شديد بالخجل ، جراء هذا التعامل الغريب عليه ، والذي لم يسمع به ، أو يره حتى في الأحلام. يمتنع والدي عن تناول ما حمله إليه بيده (مديره العام) . فيلح عليه أن لا يرفض ما قدمه قائلاً:" أرى انك حتى لم تشرب الشاي صباحاً..من اصفرار وجهك.. "!!. يبسمل والدي أولاً، ويشكر ثانياً، ثم يأكل ويشرب ،ويرى (المدير العام) ساهماً ، محلقا مع تلك الموسيقى ، التي لم يعتد والدي في حياته كلها على سماعها..!!. تُرى كيف يمكن لبَنّاء سابق، وسائق سيارة أجرة و(تريله)لاحقاً، وصاحب عيال كثر، الوقت والقدرة والمزاج والمعرفة على سماع هذا النوع من الموسيقى..؟. من أين وكيف ومتى يتأتى له ذلك..!؟. بعد أن يأكل ويشرب ما يُقدم له ، ويحس بالشبع والارتواء. يوقف (المدير العام) الموسيقى ويقفل (الكرامافون). ويدعه يخرج قبله من الدار لأنه ضيفه ، الآن ، والضيف كما يؤكد (المدير العام) يجب أن يُكرمَ ويُحترم.عند خروج والدي من الدار يغضي حياءً ، لأنه يرى السيدة زوجة (المدير العام) تغادر المنزل متوجهة لعملها مشياً مع طفليها، فيقترح والدي بأن، ينقل معهما السيدة وولديها بالسيارة . يرفض (المدير العام) ذلك بإصرار وتمنع ، فيتجرأ على سؤاله بـ: لماذا..!؟. يرد: السيارة ليست ملكاً لي.. وأنت لست سائق العائلة.. إنها سيارة الدولة ،ومخصصة للـ(مدير العام) بصفته الرسمية فقط ، فبأي حق استغلها ، وانقل زوجتي ومَنْ معها بها..!؟. يقول والدي: أحس بالدهشة والحيرة والغرابة من حديث كهذا، وكذلك رفضه الجلوس في المقاعد الخلفية ، ويصر على أن يجلسَ إلى جانبي، أنا سائقه، وهو السيد( المدير العام). لكن (المدير العام) وحسب ما سمعه والدي بأذنيه وشاهده بعينيه ، يتحول إلى(نمر) شرس جداً ، له أنياب حادة ، قاطعة، عندما يُلمَحَ له (أحدهم) بغضه النظر عن محاولة (سرقة المال العام)، مع نسبة (الأسد) له جراء ذلك ، خاصة والعراق كله ، حينها ، كان يخوض صراعات حزبية دموية قاتلة ، ولا رقيب أو حسيب. ربما سأكمل ما رواه ليَ والدي ، من تفاصيلَ أخرى، عن (مديره العام) ، ولكني، الآن ، فقط سأجهر باسمه ، انه: (نـجيـب الـمانـع) وكفى.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فايز الدويري: فيديو الأسير يثبت زيف الرواية الإسرائيلية


.. أحمد حلمى من مهرجان روتردام للفيلم العربي: سعيد جدا بتكريمي




.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |


.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه




.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز