الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أناشيط مجموعة شعرية لعلي حميشة

فراس سليمان محمد

2004 / 12 / 7
الادب والفن



"عزلة .. وصوفية شرسة "

جنس وموت ورغبة بالتدمير مصحوبة بالخذلان . ثالوث مقترح لقراءة مجموعة أناشيط للشاعر السوري علي حميشة. ثلاثة أقانيم تتماهى ولا تتميز إلاّ بوساطة محاولة تدعي امتلاك مفاتيح وتسمي مداخل من أجل إزاحة طبقات وكشف النقاب عن جسد القصيدة الملتبس ، فالشاعر ليس مأخوذا بالمعنى (ربما لأنه واحد من ضحاياه) ولا يكترث بالأنظمة والمفاهيم التي يولّدها المكان الواحد .

كأن كل الكينونات باطلة خارج الذات وبنفس الوقت هو ليس وريث تيارات أرادت شكلنة العالم ، فقصيدته هي ارتباكه وارتكابه عبر معطى الطاقة الهذيانية التي تتشظى وقد اشترطت نقطة بدايتها رغبات مركبة مظلمة لا تستند إلى ما اتفق عليه بل بآلياتها الخاصة تنظف بناءها ومدلولاتها عبر ذهابها إلى اليتم (قطيعة ملغومة) رغبات هي شرارة تقذف القصيدة إلى حافة الصمت المستنفر وأحيانا إلى الغرابات المشوشة .

إذن يمكن الاجتهاد لتلمس أسبابها ( القصيدة) ودوافعها ثم ربما لتلمس مستوى من مستوياتها . ولأقل : الكتابة هنا هي شفوية الداخل مكوث مرتاب في الخفاء لعب جهنمي مع لحظات مستعصية مع كائنات هلامية تتبدى كحقائق نتجت عن وعي مكثف‘ استحال بدوره إلى مخيلة مقهورة تحاول الخروج من صفتها هذه . كما هي انشطار مرتاب أيضا لا يلبث أن يتحول إلى جملة / كتلة حضور ... إلى صعوبة تتلعثم في تعقيل جنونها في مملكة الكلام :

" شجر السماء السابعة يهمي
لحم الطرقات السبع
ثم عين تخرج
من كوة نار عتيقة
شجر السماء السابعة يهمي
والطرقات ظل لحم يركض
مقدد بمسافة موت مظلم " ص43

فلغة علي حميشة إحالات ترديدات مقلوبة على أوجه عدة تستعير صورها واستعاراتها من ذاتها مثلما يستعير الشاعر رؤيته من عالمه المضيّع .

القصيدة هنا مساحة التجسيد التي يفيض عنها خراب التجريد أو العكس . هذه المساحة هي الحيرة التي تطفو عليها معاني مشغوليات الشعر متأرجحة بين هنا وهناك بين الكمون والتحقق . هذه اللغة تقدّم وظيفتها الأنبل متحررة من الاتجاه الواحد ومتناسية أنساق المرجعيات على كافة أشكالها وصولا إلى تناسي سلطتها نفسها (اللغة) بوصفها حاوية وماهية . ولأن القارئ تضطره غريزة التحديد والضبط لإسقاط القصيدة في إطار فهم ما من على أساس آلية نقدية "شخصية" تعسفية وتخضع القصيدة / النص في أنساق واتجاهات لها ادعاءاتها كما لها مزايا السلطة استنادا إلى ضرورة المفاهيم وأهمية التنظيم . أسجل هذا التنويه وأنا أحاول توصيف لغة علي حميشة كونها خارج أدائها الوظيفي بحكم أنها تنضوي تحت مظلة الشعر ، وأكثر حدّة وخواء كونها تنحرف عن مفهوم البنية " على المستوى الشعري " ولأنها تحلم بحذف هويتها بانحيازها للهذيان . هكذا تنسكب صانعة فتنتها وغربتها أيضا , الشاعر لا يسوقها حتى النهاية وهي لا تخونه حتى النهاية . كأنه يرمي أشكال وعيه المتشعبة في بياض سيتحول سريعا إلى رموز هي شكل آخر لهذا الوعي :

" وجه الفراغ
أي وجه
رائحة محصول يتبخر
نفاذ خلف الصدغ
عرق اللاشيئ
وجه مدوّر
مدوّر
منفوخ
طنين
طنين
أصداء
أصداء
بعيدة
بعيدة
سفح منحدر
قصبة
أصبع مجروح
دم
دم
وجود حقيقي " ص 48 -49

بكلام آخر قصيدة علي حميشة عصابية مجنونة خائفة عنيفة قد لا تروق للمتأنقين قصيدة مدججة بالفوضى ، ليس كموقف نظري ثقافوي يتغنى به العقلاء المرتبون عتّال الخطابات الجاهزة الهزيلون . بل الفوضى بوصفها أسّا وبعدا يُمارس يقابله اسّ " المقدس " . إنها حالة تشبه فطرة الجسد في غابة الرقص وربما في لجّة النفي ، ممهورة بالأذى النفسي وغير راغبة بتأكيد العالم "كما هو" وإنما تعني دون قصد أو بمقاصد مركبة بفضح نفسها وتحضير أشلاء مكنوناتها وكوابيسها نكاية بالنظام / العالم الذي يمحقها حين يهمشها :

" على قبة النفي في ليل مباغت
والليل نفسه يقتل نفسه
يتوالد
أنّى لشاعر مهزوم
أن يحمل الشمس من فرجها الذهبي
وينشر ضلالها الأشعث " ص5

أناشيط عنوان يحيلنا إلى دلالات الخنق والانتحار وبما أن المجموعة جملة من المقاطع ، يكاد كل مقطع يكون أنشوطة والشاعر علي حميشة لم يرم أناشيط حول أعناق أحد ولا لخنق المعاني وإنما رماها عند جثة العالم عندما أزاحها من دخيلته متحررا من سطوتها ولو إلى حين . فقصائده لا تنتبه إلى المنجز الشعري ولا تتزين بأصدائه تماما ولا تحاول إعادة وتكرار وتكرير أجواء أرستها أسماء لامعة ، قدر ما تحاول فصد وجودها عن معاناة يرزح تحت هيمنتها الشاعر وكما قلت سابقا حميشة كما هي شفوية الداخل هي أيضا نزوع لتنظيف الذاكرة من :

" صعقة الماء المقذوف
النطفة
الحبر
الدخان
الحقيقة " ص 20

ومن دماء المشاهد المتخثرة ، من الرعب ومن تجريدات متشابكة . بنية القصيدة خادعة بسبب من تفككها وتباعد صورها وبوصفها محققة في ترّاص يحمل عنوان . تركيب يهتز على كفتي ميزان ، أقصد متأرجحا بين خيبة المعنى وحسيّة الصورة . وعبر تمرير " أناشيط " على عدة مستويات قراءة لأجل إعادتها إلى أصلها وفك احتجابها , تبدو مرة كلاما ومرة كتابة ومرة نصا ومرة قصيدة ودائما لغة أكثر من أغراضها ومظاهرها .

ولأعد إلى موضوعات المجموعة :

- الجنس - وعورة العلاقة مع الأنثى / المرأة كونها خسارة تقود الشاعر لعزلة صوفية شرسة , الرغبة بالاحتضان حتى القتل ، اللذة التي يتحقق جانبها المظلم بالتشّهي ، لحظة الجسدين الواحدة المتخيلة الخاطفة الأبدية المنتهية والتي ترمي امتدادها في ذاكرة تجيد مهمتها .

" شاعر وامرأة كهنوت
يخططان للقتل
شاعرة وامرأة كهنوت
يتوحدان
كل يغرز قلبه في صدر الآخر " ص 15

المرأة تلك الرمز الزئبقي في فضاء مفتوح ، المرأة التي يحضر غيابها في قسوة لا تُنشد ولا تعاد صياغتها في القصيدة بمثابة لذة ناجزة صافية وإنما تختلط برموز إطلاقية أخرى ، يستطيع القارئ يشتمّ رائحتها في حلوليم كاملة شهية وناقصة وقاتلة . امرأة في حدّها الأخير تشبه الموت إذا لم تكن هي نفسه . لحم حيّ يتحوّل عدماً يتشكل من طين الخسارة والندم المشرع إلى أقصى الجوهر :

" لا تصدق الكلمة عن الكلمة
والمرأة عن المرأة
أو الموت عن الموت
الكلمة والمرأة
الموت
شذوذ حق
فلتة الروح والحق
لا يصدق الرجل عن الرجل
الرجل جنس الفكر
في طريقه إلى الموت والمرأة الحق " ص 36

- الموت - على مدى مجموعة أناشيط محسوسات تنتصب كدلالات وإشارات للموت . أشياء تتخلق وتتصعّد ، وموظفة لتغطية مساحة الموت المنداحة . هذه اللفظة الأكثر ثقلا ، فالقصائد كلها لا تبرأ لحظة واحدة من مناخ الموت ، إنها تتأسس أمام شاشة الموت التي تسيل عنها صور وروائح ونظرات ورجفات تجعلنا نتحسس كثافة التراجيديا متماشية مع هذا الخط الغامق الهش بين الوجود وعدمه . فدائما الشاعر قبالة الموت جسد يتمطى بكسل آخّاذ تنحدر عن ملامحه الممعنة في الغياب أحجار ضحك هيستيري :

" كان الأسود الطاغي
امرأة تتدحرج على العشب
بساطة مسيجة بالموت والحب" ص 8

وعلى هامش الحراك وفي رسوخ الغربة والنفي والانفصال لا يبقى سوى الموت " سيدا وإلها " كل قصائد أناشيط تؤكد هذا المعنى دون استثناء :

" هذا المكان
حبل موت
يتدلى
من نفق الحياة الفارغة
شحنة الترضرض
حيث تتكسر حلازين الوقت
يتفت حرف الوجود الباعث على الدفء " ص46

أستطيع أن أفتح أي صفحة لا على التعيين مثلا :

" متخم بماء الرعد
بأناشيط الضحك
هذا الوجه دوّام الموتى
تبر التجاعيد
حيث يُنسل هذا الزوغان
يتحجر
كشاهدة قبر
يطلى بماء الصمت " ص61

- رغبة بالتدمير مصحوبة بالخذلان - " في هذا الليل من البياض والمنفى " ص57 وبجسد أعمى يكتب علي حميشة قصيدته :

" بصاقي المتحجر
هذياني حمّاي الكلبية
قصائدي المرصعة بالسقوط " ص59

سخط وآثام ، جرائم رمزية ، جلد للذات ، انشقاق عن الوجود كما عن بؤس الطفولة . حزن الشاعر لا يشفّ ويصفو ، إنه يهدم .. يحطم يغضب حتى تتغير ماهيته نفسها ، ماهية الحزن ، وقد ينقلب بجلاء إلى إحساس بالامّحاء والخطيئة . الرغبة بالتدمير خذلان من نوع ما ، والشاعر لا يقول إن المتفق عليه الجيد والجميل على أساس من الأعراف والموضعات أكثر شدّة وألما . فهو لا يفكر وإنما يعصف في هوّة وحدته : مضامين الخذلان والعار والغبن يتلبسها حميشة ويلبسها لكل شيء كما ثمة هذا التحالف المموه مع عالم آخر غامض مع خلاص ضائع عبر الحدس مثلما حاولت السوريالية تأكيده في تجل من أهم تجلياتها . ولكن هذا الانقطاع هو في الوقت نفسه اتصال جنيني مع الذات ثم تمزّق له شكل الحضور في حدة الكلام الذي يفوّر هلاما يسميه القارئ " معنى " :

" هذا ليلي الطويل
أنا المخطط بالذل والركض
أكدح زمنا كاملا بحوافري الإسفلتية
في رخاوة عيني ملايين النجوم الشائطة " ص 66

" دع أباك يبصقك مرة أخرى
والعكس أمك وأبوك
يبصقان عليك
دع بصاقك كجرح مفتوح " ص70

" تسقط
في اللحظة التي تنقلب فيها أحشاء القلب
ظاهرا وباطنا
حرفا أو نثرة لحم مقصوصة
خيبة من لحم
وتجنح في الليل كعفريت سيئ الحظ
يا حمارا مغبونا
يفقده التعب حسّ العشب
وحسّ طشت الماء
الدمامل في عينيه مثل حلزون مهشّم
بطنه وظهره مثل صفيحة سلحفاة مبقورة " ص 68

هذه القراءة لا تفي حق مجموعة " أناشيط " للشاعر علي حميشة وإنما حاولت تسليط بعض الضوء والتذكير بشاعر لم يحظ إطلاقا بما يستحقه شاعر لا يجيد التبختر في المكاتب وأروقة الاستعراض .. دعوني أقول معه

" على الضفة
ثمة هالكون جدد
أشباح مجسدون
وحقيقيون "

* فراس سليمان محمد : شاعر سوري يقيم في نيويورك








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب


.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في


.. حفيد طه حسين في حوار خاص يكشف أسرار جديدة في حياة عميد الأد




.. فنان إيطالي يقف دقيقة صمت خلال حفله دعما لفلسطين