الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءةتأماية في ثورة الشباب المصري 7 مخاطر على الديموقراطية 6 تيارات الإسلام السياسي والعلمانية 2

عبد المجيد حمدان

2011 / 9 / 25
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري
7
مخاطر على الديموقراطية 6 تيارات الإسلام السياسي والعلمانية (2)
قرب نهاية الحلقة السابقة نفحني الصديق معاوية بملاحظة ، قال فيها أننا ، حتى اللحظة ، قدمنا تعريف تيارات الإسلام السياسي للعلمانية ، وعلى أنها الكفر والإلحاد ومعاداة الدين ، ولم نتطرق لتعريف أصحابها بها . قلت لصديقي : في واقع الحال ، وكما ترى، حاولت ، حتى الآن ، إيصال مفهوم العلمانية ، إلى القارئ ، عبر التدرج في تقديم المعلومات . ولقد اخترت تجنيب القارئ الدخول في متاهة التعريفات . وأضفت : أنت تعرف ، كما يعرف القارئ ،أن مجمع اللغة العربية أخذ على عاتقه ، وفي النصف الأول من القرن الماضي ، مهمة تعريب مصطلحات ، كما الاختراعات والاكتشافات الجديدة في العلوم ، وكذلك نواتج تطبيقات التكنولوجيا الحديثة ، التي ظلت تصلنا بلغات مكتشفيها ومخترعيها . يجتمع الأعضاء ، يبحثون ، يقترحون ، ثم يقررون الكلمة ، أو التعبير ، المقابل ، أو المقارب ، للكلمة الأجنبية . ويأتي بعدهم من لا يتذكر هذه العملية ، ويبدأ في البحث عن أصل ، أو جذر ، أو تصريف هذه الكلمة ، أو التعبير ، ومن ثم يدخلنا في المتاهة التي أشرت إليها .
ظل الغرض ، وما زال ، من هذه العملية ، الحفاظ على نقاء اللغة العربية ، وحمايتها من سيل التعابير الأجنبية ، نتيجة التطور السريع ، الهائل والمتنوع ، للمكتشفات والمخترعات ، ومنتجات العلم وتدفقها على أمتنا ولغتها ، غير القادرة على التجدد وملاحقة هذا الفيض المتدفق . ولعلك ما زلت تذكر أن الكثير من عمليات التعريب هذه كانت مضحكة . وكمثال عربنا السندوتش بالشاطر والمشطور والكامن بينهما . ولأن اللغة ومفرداتها عجزت عن مجاراة تطور العلوم الصاعق ، استسلم مجمع اللغة ، أو أن الناس استخدموا التعابير ، أو المصطلحات ، الأجنبية كما هي ، وصارت جزءا من اللغة ، وحتى أن العامة أبدعوا لها تصريفاتها أيضا .
ما يهمنا هنا أن من أتوا فيما بعد ، نسوا ، أو تناسوا ربما ، الكيفية التي تم بها هذا التعريب . أخذوا المصطلح الجديد ، وتعاملوا معه وكأنه الأصل ، وأننا نحن أصحاب الاكتشاف أو الاختراع ، وليدخلونا في المتاهة التي أشرت إليها . كمثال ، قلت للصديق معاوية : لعلك ما زلت تذكر كيف تعامل بعض المتربحين بالدين مع اكتشاف الذرة . اكتشف علماء الفيزياء الذرة ومكوناتها ، فإمكانية ، وعملية انشطارها ، أو انقسامها ، في مطلع القرن الماضي . مجمع اللغة اجتمع ، بحث وقرر أن الكلمة الأقرب ، المقابلة ، لكلمة Atom هي كلمة أو مصطلح ذرة . ولأن هذه الكلمة وردت في القرآن { ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره .....} الآية ، وجد المتربحون بالدين ، والذين فشلوا ، فيما يبدو ، من التربح بعلمهم ، في هذا التعبير ضالتهم . قالوا فيما وصفوه بالإعجاز العلمي للقرآن ، أن القرآن ، بالحديث عن الذرة ، سبق العلم الحديث بأكثر من ثلاثة عشر قرنا . وأذكر وقتها أننا ، معلمي الفيزياء آنذاك ، اعتبرنا هذا القول نكتة ، وتداولناه كفكاهة . وأذكر أن أحد الظرفاء آنذاك ، اقترح ترشيح أجدادنا ، رعاة الإبل في صحارينا الجميلة ، لجائزة نوبل ، لأنهم عرفوا الذرة ، وتداولوا هذا التعبير ، قبل اكتشاف الذرة ، وقبل القرآن بقرون عديدة ومديدة . وأنا بدوري رشحت جدتي ، وأمي ، وعماتي وخالاتي ، وكلهن أميات ، لهذه الجائزة ، التي افترى الغرب على حقنا فيها ، ومنحها لعالم فيزياء من علمائه . أمي حين كانت تتذوق الطبخة ، وتجدها ناقصة الملوحة ، كانت تطلب مني أن آتيها بذرة ملح ، حتى تذهب بدلوعة الطبخة ، وتعيد لها توازنها . وجدتي كانت تسمي نوعا من النمل ، صغير الحجم جدا ، بالذر . وعلق صديقي صائحا بضحكة صاخبة ، وربما من إحدى هذه جاء اسم الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري .
قلت لصديقي ولمثل هذا – ما تعرض له مصطلح الذرة - تعرض مصطلح العلمانية ، وكانت متاهة التعريفات له . قال : وكيف كان ذلك ؟
عبور آمن :
تقول الموسوعة الحرة – ويكيبيديا – أن مصطلح العلمانية هو المصطلح المقابل لمصطلح secularism بالإنجليزية . وتقفز بعدها رأسا وللقول : وتعني اصطلاحا فصل الدين والمعتقدات الدينية عن السياسة . ثم تقدم تعريفين آخرين . يقول الأول أن العلمانية قد تعني عدم قيام الحكومة أو الدولة على إجبار أي أحد على اعتناق أو تبني معتقد أو دين أو تقليد معين لأسباب ذاتية أو موضوعية . أما التعريف الثاني فيقول : وقد ينطبق نفس المفهوم ، أي مفهوم العلمانية ، على الكون والأجرام السماوية ، عندما يفسر بصورة دنيوية بحتة ، بعيدا عن الدين ، في محاولة لإيجاد تفسير للكون ومكوناته .
ومع أن التفسير ، أو التعريف الأخير ، هو التعريف الملائم ، إلا أن الموسوعة تقفز عنه سريعا ، ولتركز على مسألة فصل الدين عن السياسة ، وأيضا لتجاري العديد من الباحثين ، الذين يأخذونك في مشوار البحث عن الأصل ، والتصريف اللغوي لمصطلح العلمانية . لشرح هذا المصطلح – العلمانية – ، وهل هو مشتق من العلم ليكون عِلمانية بكسر العين ، أو من العالم ليكون عَلَمانية بفتح العين ، وربما بفتح اللام بعدها . وكل ذلك دون محاولة للبحث عن معنى secularism في قواميس اللغة . ومن يفعل ذلك ، يفاجأ بابتعاد معنى العلمانية ، عن تلك المعاني التي قدمتها لنا الموسوعة الحرة .
في المورد وهو القاموس الأكثر استخداما عندنا ، انجليزي عربي ، يأخذ المصطلح معاني عدة ، حسب موقعه من الكلام . ف secular قد تعني دنيوي ، إذا كان الكلام عن المصالح والاهتمامات ، وقد تعني غير ديني ، إذا كان الكلام عن عمل درامي ، وتعني مدني غير إكليركي ‘ إذا كان الكلام عن القضاء ، وتعني عالمي ، غير قانوني ، غير منتسب إلى رهبانية ، إذا كان الكلام عن الوعظ ، وقرني ، حادث مرة كل قرن ، منتقل من جيل إلى جيل ، إذا كان الحديث عن ظاهرة أو تقليد ، وأخير عامي ، أي واحد من العامة ، إذا رجعنا لأصل الكلمة في اللغتين الفرنسية والإغريقية – اليونانية - . وعليه يكون معنى مصطلح secularism ، هو الدنيوية التي تعني عدم المبالاة بالدين أو بالاعتبارات الدينية ، وsecularist , secularity ، هو الملتزم بالدنيوية ، والشيء الدنيوي ، أو الصفة الدنيوية ، أو المدنية . وفي قاموس أوكسفورد فإن secular لفظيا أو ماديا تعني غير متدين غير روحاني ، و secular power تعني أن الدولة هي في تعارض مع الكنيسة ، كما تعني العيش خارج الرهبنة . وعليه فإن secularism تعني الرأي القائل بأن الأخلاق والتعليم لا يجب أن تقوم على قاعدة الدين . أما secularist فهو الشخص المعتقد بِ ، المؤمن بِ، أو الداعم لِ أل secularism .
ولقد سبق وأشرنا أن التعريف الثاني للعلمانية ، في الموسوعة الحرة ، وفي الحقيقة هو الثالث ، والذي يعني أنه محاولة تفسير الكون ومكوناته ، هو الأقرب للصحة أو للدقة . لماذا ؟ قلت لصديقي : أنت تعرف ، ولا شك ، كما يعرف القارئ ، تعبيري فيزيقا وميتا فيزيقا . أو القوانين الخاصة بالطبيعة ، وتلك الخاصة بما وراء الطبيعة ، حيث فيهما يكمن السر كله . لكننا هنا محتاجون مرة أخرى إلى وقفة ، نرجو أن تساعدنا في محاولة استجلاء هذا السر .
نور الشرق وظلام أوروبا :


قلت لمعاوية ، كثيرا ما نسمع من رموز تيارات الإسلام السياسي ، وحتى من مفكرين متنورين ، ذلك الحديث عن عصور الظلام التي لفت أوروبا ، وعن النور ، مجال تباهينا وفخرنا ، الذي سطع على شرقنا ، في نفس الفترة . وكيف أن هذا النور تحديدا هو الذي أخرج أوروبا من ظلماتها ، لتتقدم علينا به . وبدل أن تحفظ الجميل عملت على نهب خيراتنا ، واستعبادنا ، وتكريس تخلفنا . فهل لديك فكرة عن ماهية ، أو مضمون ، أو طبيعة ، كل من النور والظلام الذي يجري الحديث عنه ؟ قال صديقي : الأمر بسيط ، فالنور هنا هو نور العقل ، متمثلا في إغناء الحضارة بمنجزات العلوم المختلفة ، التي أبدعها علماء المسلمين ، مثل الرازي وابن سينا والفارابي وابن الهيثم وجابر بن حيان وعمر الخيام .... وغيرهم كثير . والظلام هو تقييد العقل وتحييده ، وحلول الخرافات والغيبيات مكانه ، وسيطرتها ، بل قيادتها للشعوب الأوروبية في تلك العصور البائسة . قلت : ذلك صحيح ، وعليه لنتوقف هنا قليلا .
ولنبدأ بسؤال كيف حدث أن سطع نور العقل ، ليتلوه نور العلم في شرقنا ، وغاب أو احتجب عن أوروبا ؟ ثم لماذا تبدل الحال بعد بضعة قرون ، وكيف وبأية أيدي حدث ذلك ؟ ولأنه جرت عادة بعض كتابنا وباحثينا ، على التركيز على جزء من كأس الموضوع ، المليان أو الفارغ ، توجب علينا ، وفي عرض الموضوعين ، الانتباه للكأس كله ، ما هو مليان وما هو فارغ فيهما . ولنبدأ مع نور الشرق .
لقد حدث أن حمل لنا عهد عمر بن الخطاب ، بشرى باحتمالية الانفتاح على العالم المحيط ، والأخذ ممن سبقونا فيه . بدأ عمر ، كما هو معروف تثبيت وبناء صرح دولة ، في منطقة – الحجاز – لم تعرف تجربة الدولة . ولما جاءت الفتوحات ، واتسعت رقعة الدولة ، وتشابكت وتعقدت مهماتها ، وجد عمر لزاما عليه استعارة نظم إدارة ، تحتاجها الدولة ، وسبقته إليها دولتا الفرس والروم . وبالفعل كان عمر منفتحا واستعار منهما نظم الدواوين ، ومنها نظام العطاءات ، والتأريخ ، وحتى إنارة المسجد ليلا ، لتعقبه إنارة بعض طرقات المدينة . وأيضا ترك عمر للبلدان المفتوحة ، صلاحية سريان نظم إدارتها السابقة ، وحتى قيام موظفين سابقين عليها . لكن هذا الانفتاح الذي بشر بإمكانية تحديث دولة ، لم تخرج من رحم البداوة بعد ، لم يتواصل إلا ببطء شديد . وعلى عكس المتوقع أحدث عمر انتكاسة مدوية ، اعتاد مفكرونا ومؤرخونا ، إما الصمت عنها ، تجاهلها ، والأغلب إنكارها.
لقد حدث أن فوجئ فاتحو بلاد فارس ، بمكتبات ضخمة في مدنها المختلفة . ولأن الكتب ليست من الغنائم ممكنة التوزيع ، حسب النظام المعروف ، بعثوا لعمر يسألونه عن كيفية التصرف بها . جاء جواب عمر بالأمر بإغراقها ، لأنه إن كان بها خير ففي القرآن ما هو خير منها ، وإن كان بها شر يكون الله ، بإغراقها ، قد كفى المسلمين شرها ، حسب ما جاء في توجيهاته لهؤلاء القادة . ونفذ القادة الأمر ، فأغرقوا وأحرقوا كل انجازات العلم والثقافة الفارسية . وإلى هذه الواقعة استند آخرون ، من المؤرخين ، في اتهام عمر بحرق مكتبة الإسكندرية ، في حادثة وقعت قبله بمئات السنين .
ويبدو أن عمر استند ، في قراره هذا ، إلى واقعة حدثت له مع النبي قبل ذلك . كان عمر قد قرأ ، عند بعض أصحابه ، شيئا أعجبه من التوراة . ولما نقل ذلك للنبي ، قابله النبي بسورة غضب ، ومنبها إياه ، وسائر المسلمين ، أن القرآن جاء أكمل من التوراة ، وبالتالي فهو يفضلها . وتلا ذلك ، وغضبه لم يفارقه ، أن نهاه ، والمسلمين ، عن قراءة الأقل كمالا ، والاقتصار على قراءة القرآن الأفضل والأكثر كمالا . وأضاف ما معناه ، أن موسى لو كان حاضرا ما كان بإمكانه إلا " أن يتبعني ".
تحولت هذه الحادثة عند الفقهاء إلى تنظير بعدم جواز اطلاع المسلمين على التوراة ، بدعوى أنها محرفة ، رغم أن النبي لم يقل بذلك ، وكانت الضرورة تقضي به لو كانت كذلك . والأهم أن انفتاح عمر على استعارة نظم لإدارة الدولة ، رافقه ، بأمر إغراق المكتبات ، ما اعتبره علماء الأمة ، قانونا بتحريم الاطلاع على فكر الآخرين .
هكذا مضى العهد الراشدي ، ثم الأموي – قرابة قرن وربع القرن – دون أن يقدم هذان العهدان الجديدان ، والفكر الجديد ، شيئا للبشرية ، غير ما يحويه القرآن ، وما يمكن أن يوصف بعلومه . ولعل القارئ يتذكر أن عهد النبي ، ثم صدر العهد الراشدي ، شهدا نأيا عن الشعر ، الذي عرف بالجاهلي ، حفظه وإلقائه ، حتى ضاع أكثره . وبعد أن تغير الموقف منه ، نجا أقله .
تنبه الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز ، إلى خطر ضياع السنة ، بسبب تعاقب الأجيال ، وابتعاد الزمن ، كما ضاعت أكثرية الشعر الجاهلي . فكان من فضائله أن أمر بتدوين السنة ، التي كان جده عمر بن الخطاب قد أوقفها ، ومنعها ، بدعوى منع مضاهاة القرآن بكتاب آخر ، كما حدث في المسيحية واليهودية ، يمكن المسلمين من المداورة على بعض أحكامه . لكن أهمية توجيه الخليفة الأموي سطعت في بدء عصر التدوين ، الذي ظل تداول التراث قبله يتم شفاهة . وحدث أن العصر الأموي انقضى قبل وضع هذا التوجيه ، وانطلاق عصر التدوين ، موضع التطبيق .
تكمن أهمية هذا القرار ، الذي انتظر بداية التطبيق ، حتى صدر العصر العباسي الأول ، في نقل سكان الدولة الإسلامية ، إلى التعامل مع الكتاب ، بعد أن كان جل اهتمامهم منصبا على السماع ، في تعرفهم على التراث المنقول لهم شفاهة ، وفي نهلهم من ينابيع المعرفة والثقافة الأخرى .
التدوين :
اقتضى تدوين التراث ، السنة ، الحديث ، التاريخ ، التفسير ، السيرة النبوية ، سير الصحابة والتابعين ....الخ ، اقتضى شحذ ، وخلق ، جملة من المهارات ، في مقدمتها الاهتمام بالتعليم الذي لم تكن الدولة الإسلامية قد وضعت له نظاما ، فبروز باحثين في مختلف الاختصاصات . ولأن البحث يحتاج ، إضافة للسعي وراء المعلومة ، إلى التدقيق في صحتها ، ومن ثم غربلة كم المعلومات المتحصلة ، فقد أنتج البحث بالضرورة عملية تحفيز لنشاط العقل ، على حساب آلية النقل التي ظلت سائدة على مدى الزمن الماضي . وكان أن مهد ذلك لنشاط عقلي في مجالات جديدة ، ومتعددة ، لم تكن في الحسبان قبل بدء انطلاقة عمليات البحث للجمع فالتدوين .
وتعرفنا المصادر التاريخية ، على أن مسيرة النشاط العقلي – الفكري - ، كانت إرهاصاتها قد أطلت قرب نهاية العصر الأموي . وربما عاد ذلك للنشاط ، فالصراع السياسي ، الذي كان قد بدأ في النصف الثاني من خلافة عثمان ، واحتدم في خلافة علي ، ثم تواصل على طول مسار الخلافة الأموية ، كما سبق وأشرنا في حلقة سابقة . وكان أن ظهر لهذا النشاط رموز ، من بينهم الجعد بن درهم . إلا أن الخلافة الأموية اتخذت ، تجاه هذا النشاط ، موقفا صارما ، قضى باجتثاثه ، عن طريق التخلص من رموزه ، بطرق وحشية . منها أن والي الكوفة ، خالد القسري ، وبأمر من الخليفة ، هشام بن عبد الملك ، قبض على الجعد وأودعه السجن ، في انتظار تنفيذ الحكم بقتله . وحدث أن القسري تباطأ في التنفيذ ، الأمر الذي أثار حفيظة الخليفة ، فبعث إليه موبخا . نفذ القسري الحكم صبيحة عيد الأضحى . أمّ الناس ، وبعد إتمام المراسيم ، أوعز لهم بالانطلاق لنحر أضاحيهم ، مشيرا أنه سيفتتح النحر بنحر أضحيته ، التي هي الجعد بن درهم . وكان الجعد قد جيء به من محبسه مقيدا بالسلاسل ، فقام الوالي ، خالد القسري ، بنحره في صحن المسجد ، وأمام جمع المصلين . ولم يكن رموز الفكر الآخرين بأوفر حظا منه .
تبنى العباسيون سياسة أكثر انفتاحا تجاه رموز الحركة الفكرية وتطورها . لكنهم ، وفي ذات الوقت ، اعتمدوا السياسة الأموية في مواجهة تحولات الأفكار إلى سياسات مناهضة للحكم . وهم بدل عقاب الخصوم على قاعدة السياسة ، لجأوا إلى إلصاق تهمة الزندقة بهؤلاء الخصوم ، وبالتالي برروا وحشية العقوبات استنادا لتهمة الزندقة هذه . وكثيرون وقعوا ضحايا لهذه السياسة ، ومنهم عبد الله بن المقفع ، والحلاج ، على سبيل المثال لا الحصر . ولعل القارئ يتذكر الطريقة البشعة التي استخدمت في تعذيب وقتل ابن المقفع في عهد الخليفة المنصور . كان منها قطع أجزاء من لحمه ، وشواؤها ثم إجباره على أكلها . واستمر فعل التعذيب هذا حتى موته .
لكن هنا يتوجب علينا الإشارة إلى أن بدء عصر التدوين لم يقتصر على البحث فجمع المعلومات الخاصة بالسنة والحديث ، وعلوم القرآن ، والتاريخ ، والسيرة النبوية وسير الصحابة . لقد برزت أهمية هذه البداية في إطلاقها لعلوم اللغة العربية أولا ، من نحو وصرف وعروض وبلاغة ، وما تحوي من جناس وطباق وترادف ...الخ ، وكذلك فتح الطريق أمام تطور فروع أخرى ، من آداب اللغة ، إضافة للشعر والخطابة والحكم والنوادر والأمثال والأنساب ...، وكان أن ظهر عدد كبير من التحف الأدبية ، مثل كتب : البخلاء للجاحظ ، والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ، ومقامات الحريري والعقد الفريد لابن عبد ربه وغيرها كثير كثير . وفي بداية هذا العصر ظهرت تباشير بزوغ فجر العلوم الطبيعية ، كما انعكست في كتاب الحيوان للجاحظ . وفي ذات الوقت بدأ الانفتاح على الحضارات الأخرى ، وتدشين عصر الترجمة ، كما انعكس في الكتاب الفلسفي ، المعروف باسم كليلة ودمنة ، والذي نقله ابن المقفع عن الهندية .
هنا وقبل المواصلة لا بد من السؤال : لماذا تزامنت هذه المرحلة الكبيرة مع بداية الخلافة العباسية ، في حين ظلت محجوزة طوال الخلافتين ، الأموية والراشدية ، واللتين استمرتا لقرن وربع القرن تقريبا ؟
بين عروبية الخلافة وأمميتها :
في توطئة للإجابة على السؤال السابق سنعرج قليلا على ذاكرة القارئ . فالقارئ لا شك أن لفت ، ويلفت ، انتباهه ، ومن ثم اهتمامه ، أسماء أولئك الباحثين الكبار ، الذين أنجزوا عملية التدوين ، والذين أنشأوا مجموعات علوم القرآن ، وحتى علوم اللغة العربية وقواميسها، وقبلهم عدد من المبدعين ، في آداب اللغة العربية ، والشعر في المقدمة . فهذه الأسماء الكبيرة حملت أصولا غير عربية ، وبعضها حمل اسم المدينة التي ينتمي إليها وهي غير عربية . وحتى الأسماء التي يبدو ، من ظاهرها ، أنها عربية ، يبين البحث عن الأصول أنها ليست كذلك . ولإنعاش أكثر لذاكرة القارئ ، نشير ، ونحن ما زلنا نتحدث عن البدايات ، أن عبد الله بن المقفع ، والجاحظ ، وبشار بن برد ، كأمثلة ، جاءوا من أصول فارسية . ومثلهم أساطين اللغة العربية ، سيبويه وأبو الأسود الدؤلي ، والخليل بن أحمد الفراهيدي . ولعل القارئ لا يحتاج إلى تذكيره بحقيقة أن جامعي الصحاح الستة في الحديث ، وفي مقدمتهم البخاري ومسلم ، كلهم من أصول فارسية ، ومثلهم كبار المفسرين ، وكتاب السير ، وكبار المؤرخين ، ومؤسسو علوم القرآن مثل أسباب النزول ، والنسخ في القرآن ، والبيان والتبيين ، وجمع القرآن ....الخ ، كلهم من أصول فارسية ، وغير عربية . وبعد هذا نعود للسؤال ومحاولة الإجابة عليه .
الإجابة قدمها ابن خلدون في مقدمته ، التي شكلت مدخل علم الاجتماع الحديث . يشير ابن خلدون إلى أن الخلافة الأموية كانت عروبية بامتياز . ليس فقط لأنها اعتمدت على العنصر العربي ، في الحكم وإدارة الدولة ، بل ولأنها انشغلت في الفتوحات ، وتأكيد خضوع أهلي البلدان المفتوحة لسلطانها . انشغلت أكثر في تأكيد سيادة العنصر العربي على سائر أرجاء الدولة . ولأن الدولة ، إلى جانب العوامل السابقة ، كانت ما زالت قريبة من أصولها المتبدية ، أو شبه البدوية ، أو غير المنخرطة والفاعلة في الحضارة ، جاء اهتمامها بالنهضة العلمية ضعيفا ، أو غير ملموس . كان ذلك رغم قيامها على أنقاض حضارات عريقة ، الرومانية والفارسية والمصرية ، ورغم وقوفها على مقربة من ، أو باحتكاك مع ، حضارات أخرى كالهندية والصينية . والأمر كان معكوسا مع الخلافة العباسية .
الخلافة العباسية ، وكما هو معروف ، اعتمدت على العنصر الفارسي في صراعها ، وحسمه لصالحها ، مع الخلافة الأموية . وهكذا كان العنصر الفارسي ، ومن البداية ، عنصرا شريكا ، ليس فقط في إقامة الدولة ، وإنما في إدارتها وبنائها أيضا . لم يضعف هذا الواقع انقلاب أبو جعفر المنصور على أبي مسلم الخراساني وقتله ، بدعوى فك قبضة العنصر الفارسي عن رقبة النظام ، ولا انقلاب الرشيد على البرامكة ونكبتهم . ما يعنينا هنا أن الفرس ، وهم أصحاب حضارة ، تقدمت كثيرا على حضارة العرب ، وجدوا الفرصة ، واغتنموها ، لإعادة إحياء وتطوير تلك الحضارة . وكان قد بدا ، لبعض المؤرخين ، أن أصول هذه الحضارة اندثرت ، بتطبيق أمر الخليفة عمر بن الخطاب بإغراق مكتباتها . لكن ولأن الدولة الفارسية كانت تملك نظاما تعليميا ، بدلالة عثور الفاتحين العرب على مدارس للطب ، في مدن جنديسابور ونصيبين - قيل بوجود أربع مدارس في الأخيرة – أمكن الحفاظ على أجزاء كبيرة من هذا التراث ، رغم أن حركة الترجمة والتعريب اللاحقة ، لم تتنبه لنقله للعربية .
وهناك حقائق أخرى ، كثيرا ما يتم تجاهلها في البحوث المتخصصة بتلك الفترة . أولاها أن العرب واصلوا ، ليس فقط إهمال بناء نظام تعليمي ، وإنما أيضا وقف تطور ، إن لم يكن تعطيل النظم التعليمية القائمة في البلدان المفتوحة ، من خلال استبدالها بنظم التعليم القائمة في المساجد ، هذه النظم التي وصلتنا في شكل نظم الكتاتيب البائدة . وثانيها أن التعليم في البلدان المفتوحة واصل انتشاره ، فيما حافظ العرب على وصف الأمة الأمية ، نظرا لانتشار هذه الأمية بينهم . وبسبب ذلك ، وكما يحدث في كل أمة ، انكب كثيرون من أبناء البلدان العربية على تعلم العربية ، وحتى النبوغ فيها ، وتجاوز أبنائها في الكثير من مجالاتها ، بما في ذلك الشعر – اقرأ أبو نواس وابن الرومي وبشار بن برد كأمثلة - . وهكذا كان منهم من وضع علوم اللغة كما أسلفنا ، ومن شد الرحال للبحث ، فجمع السنة والحديث وكتابة التاريخ وعلوم القرآن ، وما إلى غير ذلك . والثالث أن الحكم العربي للشرق لم يتجاوز القرنين بكثير . ففي حضن الخلافة العباسية ، وفي دورها الثاني ، تمرد هذا الشرق ، وقامت فيه ممالك ، أعادت بناء حضارتها القديمة . وعلى سبيل المثال أعاد الوزير السلجوقي ، نظام الملك ، بناء النظام التعليمي ، عن طريق إقامة سلسلة من المدارس ، عرفت بالنظامية ، في سائر المدن الرئيسية ، وبدءا من بغداد العاصمة . وهذه المدارس ، والتي كانت قائمة قبلها ، هي التي تخرجت منها تلك السلسلة من العلماء ، الذين يشار لهم كبناة للحضارة الإسلامية ، وموضع تباهينا، وفخر التيارات التي ناصبتهم العداء ، والتي دكت صرح هذه الحضارة ، ومنها تيارات الإسلام السياسي الحديثة . هكذا ، ومع وصول الخلافة العباسية كانت التربة قد تهيأت ، ونشأ وتوطد مناخ ، لانطلاق حركة العقل ، ومن ثم ظهور وتقدم وتطور حضاري ، عرف فيما بعد بالحضارة العربية الإسلامية ، والتي هي موضع فخرنا ، وتفاخرنا على الغرب الآن ، كما سبق وأشرت .
هنا قد يبادر قارئ ، غير صبور ، إلى السؤال : وماذا عن حضارة الأندلس ؟ ونجيب : يلاحظ القارئ للتراث الإسلامي ، تشكل مركزين للحضارة العربية الإسلامية . الأول شرق الفرات ، بما في ذلك بغداد ، وهو الذي استحوذ على عرضنا حتى الآن ، والثاني في الأندلس . كما لا بد أن يلاحظ أن مساهمة المساحة الواسعة ، وهي العربية ، والواقعة بين هذين المركزين ، إما أنها كانت ضعيفة أو شبه معدومة . ولا شك أن أسئلة كثيرة ستجول في عقله ، وستخطر على لسانه ، من مثل : لماذا جاءت مساهمة المغرب العربي ، رغم قربه ، وملامسته للأندلس ، ومساهمة مصر ، أم الحضارة الفرعونية العريقة ، بهذه الندرة ، أو بهذا الضعف ، في تشكيل الحضارة العربية الإسلامية ؟
ومرة أخرى يقدم ابن خلدون جوابه على هذا السؤال . يقول أن العرب الذين دخلوا الأندلس ، وانغلقوا على ذاتهم إثر انتقال الخلافة ، من الأمويين إلى العباسيين ، وجدوا أنفسهم مجبرين على الاحتكاك ، فالتعايش ، مع أهل البلاد الأصليين . وهؤلاء كانوا في الأصل أهل حضارة – الحضارة القوطية - ، ورثوا الجزء الأكبر منها عن الدولة الرومانية . هذا الاحتكاك ، ليس فقط أنه عرفهم على مزايا هذه الحضارة ، بل ودفعهم إلى التخلص سريعا من حالة البداوة ، أو شبه البداوة ، التي قدموا بها . وكان أن شكل حكام الأندلس المسلمون ، والعرب ، حاضنة هذه الحضارة ، وفتحوا الأبواب على مصاريعها ، بعد أن هيأوا المناخ والتربة ، لنشأة وتطور العلماء وعلومهم الحديثة . بمعنى آخر نشا مناخ لانفتاح العقل وتجاوزه للحدود المفروضة . وعلى العكس كان الحال في المغرب العربي ، حيث ظلت روح القبلية هي السائدة ، وانشغال الحكام في أمور السياسة ، بعيدا عن العلم والعلوم وهمومها . كما ويشار أن القلة التي قدمت إسهامات في علوم الحضارة ، ومنهم ابن خلدون نفسه ، انحدرت من أصول أمازيغية – بربرية – وغير عربية .
نور الحضارة الإسلامية :
ونعود إلى جوهر موضوعنا ، وهو ما يعرف بنور الحضارة العربية الإسلامية ، وسطوعه في مشرقنا ، في ذات الوقت الذي خيم فيه ظلام البربرية على أوروبا ، لنقول : رافقت بدايات عصر الترجمة ، أو النقل عن الحضارات العالمية ، أو زامنت عصر التدوين ، كما أشارت ترجمة ابن المقفع لكتاب كليلة ودمنة عن الهندية . ووصلت هذه العملية قمتها في عصر الخليفة المأمون ، وبالتركيز على الثقافتين الإغريقية – اليونانية – والسريانية . وجاءت النتيجة ، مع اتساع مدرسة الترجمة ، تزويد المكتبة العربية - الإسلامية ، بثروة ضخمة من أمهات كتب العلوم والفلسفة والفلك ... والتي كانت معروفة في ذلك الوقت ، ولتغدو في متناول طالبي العلم من كل لون . استمر هذا الحال أكثر من ثلاثة قرون بقليل ، وليثمر نهضة علمية غير مسبوقة ، هي ذاتها التي يشار إليها بالحضارة العربية الإسلامية ، وهي التي سطع نورها على شرقنا ، وكانت وما زالت موضع تباهينا وفخرنا حتى يومنا هذا .
لم يكتف من قاموا على ترجمة علوم الأمم الأخرى ، بمغنم حفظها من الضياع ، أو بنيل جائزة نقلها للأجيال القادمة . لم ير هؤلاء هذه المهمة ، على جلالها ، بغيتهم الأخيرة . رأوا جلال المهمة في وضع هذه النفائس بين يدي طالبي العلم من كل لون . وهكذا حدث أن انكب طلبة العلم ، وجيلا بعد جيل ، على دراسة ترجمات العلوم ، من مصادرها المختلفة . وكما يحدث في كل مسارات تطور البشرية ، لم يقف العديد من طلبة العلم ، عند حدود الاطلاع والمعرفة ، بل وأضافوا إلى استيعاب هذه المعارف وهضمها ، مهمات البناء عليها ، والإضافة لها . وهكذا لم يمض كبير وقت ، حتى بدأ بزوغ فجر ظهور كواكب من العلماء ، ملأت أسماؤهم السمع والبصر ، وقدمت أبحاثهم ، اسهاماتهم ، اكتشافاتهم ومخترعاتهم ، والتطوير الذي أدخلوه على علوم بعينها ، كالطب مثلا ، ثروات لا تقدر بثمن ، من حيث الإسهام في تطوير وتقدم الحضارة الإنسانية . وبقيت أسماء هؤلاء العلماء ، الرازي ، ابن سينا ، الخوارزمي ، البيروني ، ابن الهيثم ، الخيام ، الفارابي ، جابر ابن حيان ، الإدريسي ، ابن رشد ، ابن خلدون .....نجوما ، بل شموسا ، تضيء سماءنا حتى يومنا هذا . وهؤلاء النجوم هم من نباهي بهم الأمم أيضا حتى يومنا هذا .
ومن يقرأ سيرة واحد من هؤلاء قد تنتظره أكثر من مفاجأة . إحداها أن الواحد منهم أبدع في أكثر من مجال ، من مجالات العلوم ، كما نعرفها اليوم . تراه قد أبدع في الفلسفة ، وأضاف إليها ، في الطب ، في الفلك وفي الرياضيات ....الخ . وأخرى أن كل واحد منهم ترك للمكتبة العربية الإسلامية عشرات المؤلفات أو المخطوطات ، وليسأل القارئ أين هي ؟ وأين ذهبت ؟ وكيف ولماذا ضاع أكثرها وبقي ، إن بقي ، اقلها ؟ وأين يقبع هذا الأقل الذي بقي ؟ ولماذا هو بعيد عن متناول طلبة العلم من أبنائنا ؟ وعشرات الأسئلة الأخرى . وثالثها أن كثيرين من هؤلاء النجوم ، موضع فخرنا وتباهينا ، لقي ، بديلا لتكريم يليق بإبداعاته ، مصيرا بشعا ، أو مات محسورا ، على إنتاجه الذي تم حرقه أو إغراقه ، أمام عينيه . ورابعها أن نور هؤلاء النجوم ، والذي سطع على شرقنا ، وعلى مدار ما يقرب من ثلاثة قرون ، جرى إطفاؤه بفعل فاعل ، ولحقه طمس هذه الثروات الحضارية ، ومنع أي استفادة منها ، قبل تطويرها أو البناء عليها . ولتعقب هذا النور ظلمة ، خيمت على شرقنا لأكثر من ثمانية قرون .
هنا ، وقبل المضي إلى أمام ، نرى لفت انتباه القارئ إلى مسألة هامة وهي أن علوم ذلك العصر ، وإن شملت بدايات العلوم الحديثة ، لم تعرف تقسيماتها الحالية . فالرياضيات ، وما شملته من علمي الجبر والهندسة مثلا ، لم تشكل علما مستقلا وقائما بذاته . ومثلها العلوم الطبيعية ، حيث لم تكن هناك علوم مستقلة في الفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء . وعلى العموم ظلت علوم ذلك الزمان ، من طب وفلك وكيمياء ورياضيات ...الخ تشكل كلا واحدا تجمعها الفلسفة ، والتي أخذت اسمها أم العلوم من هذا الواقع ، وهكذا كان أن العالم ظل يجمع معارف من هذه العلوم كلها ، ويكتب أو يؤلف فيها كلها ، واستمر هذا الحال حتى القرن الثامن عشر ، أو قريبا منه .
والآن وقبل أن نقول وكيف حدث أن انطفأ هذا النور ، لا بد أن نشير إلى أن فترة النور هذه ، شملت مجالات أخرى عديدة ، تشكل جوانب من بناء أية حضارة إنسانية . منها مثلا مجال الموسيقى . في هذا المجال شهد هذا العصر الزاهي من الحضارة العربية الإسلامية ، قفزة هائلة في رقي هذا الفن العظيم . وبرز فيه نجوم كبار منهم من ارتقى بهذا الفن ، ومنهم أضاف تطويرا مشهودا في الآلات الموسيقية ، مثل ابراهيم واسحاق الموصلي ومثل زرياب وغيرهم كثيرون .
وفيما يخص مجالات الفنون الأخرى ، كالرسم والنحت ، وبسبب تحريم الدين لكثير من وجوهه ، كان أن اتجه الإبداع إلى الخط ، وحيث تشير زخرفة المساجد والمقامات ، إلى نتائج مبهرة فيه .
نصف الكأس الآخر :
ولكي نجيب على السؤال : متى وكيف انطفأ النور ، ومن أطفأه ، ومن حال دون إعادة إشعاله ثانية ؟ لا بد أن نشير إلى أن ما سبق كان قراءة في نصف الكأس المليان . والإجابة تتطلب قراءة ، لا نريدها مسهبة ، لنصفه الثاني ، الفارغ .
يذهب البعض إلى إلقاء التبعة على الاحتلالين ، المغولي والصليبي ، لبلدان الشرق الإسلامية . ويشيرون إلى إغراق مكتبة بغداد ، واصطباغ مياه دجلة باللون الأزرق ، في إشارة إلى فداحة الكارثة . وإلى المذابح وحرق المدن والزراعات التي اقترفها الطرفان . وأخيرا حيلولة الطرفين بين شعوب البلدان المقهورة ، وبين استئناف حياتها ، بما في ذلك وصل وترميم ما انقطع في مسار العلم ، ومن ثم ، إعادة بعث الحياة في هذه الحركة .
ورغم أن هذا القول يحمل بعضا من أوجه الصحة ، إلا أنه لم يشكل العامل الحاسم في وقف مسيرة العلم ، وإطفاء نور الحضارة الذي سطع قويا في شرقنا . والحقيقة التاريخية المؤكدة تقول بوصول المغول ، أو التتار ، في القرن الثالث عشر ، عقب وقوع الكارثة . وإذا كان الصليبيون قد وصلوا قبلهم بقليل ، القرن الحادي عشر ، فهم لم يقبضوا على مراكز إشعاع العلم . ومع ذلك فإن المذابح ، والتدمير الذي وقع ، ساعد في الحيلولة دون انبعاث حركة علمية جديدة ، من خلال القضاء على الكثير من المخطوطات العلمية .
لكن تقصي هذا الأمر يوقفنا على جملة عوامل ، تعدت قوة فعلها قوة فعل العامل السابق كثيرا ، نعرضها كالتالي :
1. كان قد رافق ، أو زامن ، الحراك الذي ولده عصرا التدوين والترجمة ، في نهضة العلوم ، حراك مماثل في العلوم الدينية . وإذا كانت ارهاصات هذا الحراك قد برزت في نهاية العصر الأموي ، كما سبق وأشرنا ، فإنها تسارعت كثيرا في العصر العباسي . فليس فقط أن هذا العصر شهد ولادة عدد من علوم الدين ، بل وشهد ولادة الفرق والطوائف الإسلامية ، واشتداد الصراع الفكري بينها . وداخل هذه الطوائف أفرخت حركة الاجتهاد عددا من المذاهب ، زادت على التسعين عند السنة ، أعادها الصراع ، بعد قرون عدة ، إلى خمسة ، ولتستقر على أربعة ، بعد انحسار مذهب الأوزاعي . ويمكن القول ، بدون وقوع في الخطأ كبير ، أن صراعات الفكر الطائفية ، انتظمت في تيارين عريضين هما : تيار العقل وتيار النقل .
2. وكما يحدث في ظل تحالفات السياسة والدين ، ومع اشتداد الصراع بين التيارين ، الذي لم يكن فكريا وسلميا دائما ، ظل انحياز الخليفة ، السياسة ، لأحد التيارين ، يقرر فوزه ، فغلبته على ساحة الصراع . وحدث أن الخلفاء العباسيين ، فيما يعرف بالعصر العباسي الذهبي ، انحازوا لتيار العقل ، وحيث ارتفع نجم المعتزلة عاليا في سماء الدولة ، وهي الفترة الذهبية في الحياة العلمية ، والتي نتج عنها سطوع نور الحضارة على شرقنا ، ثم عادوا وانحازوا للتيار الثاني ، تيار النقل ، في الفترة الثانية ، فترة انحطاط الدولة العباسية . وقد دشنت بداية هذه الفترة بداية انطفاء نور الحضارة .
3. ولما كان أن فترة سيادة تيار العقل ، قد فتحت كل الأبواب أمام البحث والتقصي ، وبالتالي الاكتشافات وازدهار العلوم ، فقد فتحت الأبواب للنقاش في علوم الدين ذاتها ، وبما في ذلك القرآن ذاته ، وحيث نتج رفض المعتزلة لفكرة وجدوه من الأزل ، وحفظه في اللوح المحفوظ إلى الأبد ، وليستقر رأيهم على القول بخلقه ، ولتدور معارك فكريه واسعة وهائلة بهذا الشأن . بديهي أن حراكا عقليا من هذا النوع ، كان لا بد أن يذهب عند البعض لما هو أبعد من ذلك . وكان أن أوصل تحري الحقيقة البعض ، ليس فقط إلى نقد ، بل وإلى نقض الفكر الديني برمته . ولما كان مناخ الحرية الفكرية ، ما دامت غير موجهة للسياسة ، حيث سلاح إشهار تهمة الزندقة ، فعقوبة الموت بالمرصاد ،لما كان هذا المناخ يكفل حرية التعبير ، شهدنا خروج مفكرين بإعلان إلحادهم ، والدعوة لمنهجهم هذا ، كأبي العلاء المعري وابن الراوندي ، على سبيل المثال لا الحصر . ولا أظن أن القارئ بحاجة لتذكيره بان هذا المستجد ، شدد من عزيمة أهل النقل على محاربة التيارات العقلية ، وعلى رأسها ، علم وعلماء العلوم الطبيعية ، الذين أضاءوا نور الحضارة .
4. ولما كانت بعض المذاهب لا تعترف بعلم لا ينضوي تحت بند علوم الدين ، كان بديهيا أن يلجأ هؤلاء لمحاربة العلماء وعلومهم الوضعية . وفي العصر العباسي الثاني ، ومع انحياز السياسة لتيار النقل ومذاهبه ، لم تحدث فقط عملية الوقف للاجتهاد ، بل وحسم هذا التيار معركته مع تيار العقل ، بتحقيق نصر كامل نهائي عليها ، تمثل في اقتلاعها تماما ، وفي سيادته المطلقة على الساحة ، على مدار كامل القرون اللاحقة .
5. ولأن الحركة العلمية ولدت وترعرعت في ظل حركة العقل ، ولأن العلماء – من غير علماء الدين- كانوا على رأس قائمة مستهدفي تيار النقل ، فقد وقعت هذه الحركة في مقدمة ضحايا نصر تيار النقل هذا . ونتج عن ذلك ليس فقط استهداف العلماء ، بما في ذلك قتل البعض منهم ، وإتلاف وتدمير وإحراق معاملهم ومخطوطاتهم ن ومطاردة الناجين منهم ، وبما لم يسمح بإعادة استئناف عملهم . ولعلنا هنا نكتفي بتذكير القارئ بما حدث لمرصد عمر الخيام الفلكي . ولعله ما زال يذكر كيف أن مهاجمي المرصد الفلكي ، والذين قادهم رجال دين ، لم يكتفوا بتدمير المرصد وحرقه ، وبالتالي القضاء على كل ناتج فكر الخيام ، بل وطاردوا الخيام ، الذي اضطر للاختباء ، باقي سنوات عمره ، ولعل القارئ أيضا يتذكر الطريقة التي تم بها إخفاء مخطوطة رباعياته ، وعثور رحالة غربي عليها ، وهي التي تتحفنا أم كلثوم بشدو عدد من مقطوعاتها .
6. ولما كانت النظم الإسلامية كلها لم تعر أي اهتمام لإقامة نظم تعليمية ، بما في ذلك إقامة شبكات مدارس ، ولما كان قد تم حرق المكتبات ، وعلى مراحل مختلفة ومتكررة ، لم يتوفر، في شرقنا ، أي ملاذ لحفظ الناجي من مخطوطات هؤلاء العلماء ، إلا ما ندر ، وممن وجد طريق هروب إلى جامعات أوروبية ، كانت قائمة آنذاك ، كما سنوضح لاحقا . والمحزن أكثر أن ما نجا من هذه المخطوطات ، وفي منطقة آسيا الوسطي كثير مما نجا ، حيل بينه وبين إعادة الاستفادة منه ، فالبناء عليه ، والإضافة له ، كما جرى في الغرب ، وكما سنبين لاحقا .
هكذا إذن حدث ، وبأيدي وأفواه جماعات منا ، إطفاء هذا النور الذي غمر شرقنا قرابة أربعة قرون . وبذات الأيدي والأفواه تم اسدال الستار على هذه الحقبة المضيئة . وبذات الأيدي والأفواه جرى تكريس حقبة من الظلام ، أسدلت ستائرها على شرقنا منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا . لماذا ؟ لأن حركة النور هذه حركة عقل ، ولأنها كذلك فهي مناقضة لحركة النقل . وأختم بالقول : في ندوة عقدت بجامعة يورك – تورنتو – كندا حول موضوع العلمانية ، وتراجعها في شرق ، قلت ما ملخصه أن المعركة التي تدور في شرقنا – وصورتها صارخة الآن في مصر – يقع عقل المواطن في بؤرة استهدافها . وتتلخص في السؤال : لمن ، في واقع الحال ، يجب أن تؤول ملكية عقلي وعقلك ؟ لي ؟ لك ؟ أم لهذا الذي يدعي بحمل تكليف من الله لإعلاء شأن دينه على الأرض ؟ وبعد ذلك هل تبقى هناك ضرورة للسؤال لمن ستؤول ملكية أجسادنا ، جسدها ، جسدي وجسدك ؟
والآن وقد بلغنا هذه النقطة أعود وأستسمح القارئ في وقفة استراحة ، ولنعاود مواصلة مشوارنا في الحلقة التالية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - نحن وشبابنا أحوج لهذا التنوير فى زمن الركاكة
بشير صقر ( 2011 / 9 / 26 - 14:45 )
أستاذ عبد المجيد حمدان

بعد التحية

اطلعت على مقالكم السابع فى السلسلة المعنونة - قراءة تأملية فى ثورة الشباب المصرى...- وسعدت بها جدا لتناولها لجذور مقولات شائعة فى التاريخ العربى والإسلامى وتفنيدها بالبحث والدراسة والتنقيب فى الأصول التاريخية والفكرية والسياسية للتاريخ الإسلامى وإبراز ما غاص من جبال ثلجها تحت سطح الزمن والأمية و( فضيلة النسيان) التى تلازم شعوبنا وبعض مثقفينا ..
صحيح لم أعد لبقية الأجزاء السابقة بعد ، ولكنى سأقرؤها ؛ وأرجو أن تثابر على هذا النهج فى تناول الكثير مما شاع من تلك المقولات المدمرة سواء فى السياسة أو الفكر أو التاريخ فنحن الآن أحوج ما نكون- وخصوصا شبابنا- لمثل هذا التنوير الدائم والدءوب والمستمر.

خالص التقدير.
بشير صقر

لجنة التضامن مع فلاحى الإصلاح الزراعى – مصر




ملفى
www.ahewar.org/m.asp?i=1625

ملف اللجنة
www.ahewar.org/m.asp?i=2451

موقع اللجنة
www.tadamon.katib.org

اخر الافلام

.. الأردن يحذر من تداعيات اقتحام إسرائيل لمدينة رفح


.. أمريكا تفتح تحقيقا مع شركة بوينغ بعد اتهامها بالتزوير




.. النشيد الوطني الفلسطيني مع إقامة أول صف تعليمي منذ بدء الحرب


.. بوتين يؤدي اليمين الدستورية ويؤكد أن الحوار مع الغرب ممكن في




.. لماذا| ما الأهداف العسكرية والسياسية التي يريد نتنياهو تحقيق