الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ببغاء – قصة قصيرة

كامل السعدون

2004 / 12 / 7
الادب والفن


لم تبارحنا رائحة البارود حتى بعد عامين من العيش في صحراء العرب القميئة المقدسة...لا ولم يطفيء أريجها ثلج القطب وحمامات أوسلو الساخنة ...لم تفارقنا رائحة إنتصارنا الوحيد القصير كعمر زهر الربيع ، بل أقام في القلب والضمير دهراً ، تماماً كقلوبنا التي تركناها معلقةٍ على مشاجب الإنتظار في ساحات وغرف أهالينا الطينية البائسة الرثة ، هناك على ضفة النهر في مدن جنوب ميتسبوتاميا التي أنتفضت في وجه المغتصب القاتل ، عن بكرة أبيها .
عروس هي أوسلو اليوم إذ تزهو بأجمل الحلل محتفية بعيد الدستور الذي مرّ على تشريعه ما يزيد عن المائة عام ... عروس هي أوسلو وأنا لعروسي منتظرٌ....؟
الغريب أن الرفاق الطيبون من حملة أريج البارود ، كانوا أكثر فرحاً مني ...بلا والله ... فتلك هي طبائعنا نحن أشراف موتسبوتاميا ونبلاء الجنوب الطيبون حد البلاهة إحياناً ....؟
يحلمون لي ويخططون ....يتهامسون بينهم ....تمتد الأيادي إلى الجيوب ... يستجمعون أوراق النقد التي وفروها من أعمال كنّا نأبى أن نؤديها في بلاد سومر الغنية الطيبة ... تمتد لي الأكف بما أجتمع بها ...!
ـ خذ يا أخي ...أمامك مصاريفٌ كثيرة...
يغمرني حياءٌ ممتزجٌ بشرود ... لا أدري لِم أشعر بغصةٍ في القلب ... حتى قبل ساعة كنت منسجماً مع محيطي ... هذا البلد الجميل وأولئك الناس الطسيبون وتلك الرفقة العذبة التي فاقت الأعوام الأربع بين منفى الصحراء ومنفى الثلج ... لكني الآن أدخلُ عالماً آخر يبدو غريباً علي كل الغرابة ، رغم إنها ذات المرأة التي أعرف منذ ما قبل النفي بخمسة أعوام ...!
رباه ... لم أكن سعيداً... لم أكن بكامل وعيي ... لم أكن كما كنت حتى قبل ساعة حين كنا نلعب الشطرنج ونغني ونحلم بسومر وآشور ....!
حسناً .... لا بد مما ليس منه بد ، ففي القادمين فلذات كبدي ، وقد أتنشق في الكف والجيد رائحة النهر والسمك البني وطلع نخل شط العرب .....!
سبقني الرفاق جهة التاكسي ... !
تناظر الأكف الساعات بقلق ....يستعجلون السائقة أن تسرع فالطائرة توشكُ أن تصل ...!
يهتف حامد ...ها هو ممر الهبوط ....إنه خمسة عشر ... هيا يا شباب ... نندفع صوب الممر القصي ... يتهيأ عادل لألتقاط الصور ... بينما نحن نندفع وسط المستقبلين لنأخذ مكاناً يمكن أن نرى منه القادمين من أرض الوطن ....ويبدأ تدفق الواصلين ....تبرق عيون كاميرات التصوير من ألف جهةٍ وتشرع الأكف والأذرع بالتلاقي وتمتليء الأحضان باجساد الأحبة القادمين ... تتلاقى شفاهٌ وأكفٌ ... ويرفع أطفالٌ إلى الصدور وما فوق الأكتاف ...ولم يصل أحبتي بعد...!
ينتابني قلقٌ على الصغيرتين وأمهن ... يحلُ صمتٌ ويقل توافد الناس ثم ...
ـ أبشر ... ها هم يأتون أخيراً ... هذه هي الأخت ... أرى ملامح العراق في وجهها ... ـ يهتف الحبيب مكي بحماسٍٍ يتدفق من عينيه ولسانه ـ
يلتف الرفاق حولي ، يهنئونني بالأحضان ثم يتهيئون لأستقبال القادمة ومن برفقتها .
تتسللُ شامخة الرأس ... باردة الوجه ......جافة الطلعة ... مثقلةٌ بالأحمر والأصفر ...!
عيونها شاردةُ كعهدي القديم بهما ، زائغتان باهتتي الألوان ...!
تبرق عين كاميرا عادل مرات ... تبتسم برفقٍ ... لي ... لهم ... نتعانق .... يشيح الرفاق بوجوههم حياءٍ ... هه ....ـ أو تظنونا عاشقين يا أحبة ... لا شيء ... إننا فقط نعيد لعبة الأنتحار البطيء بالهرب إلى الأمام ـ
حتى في لحظة العناق الزائفة الباردة ...كنت منفصلاً بالكامل ، بعقلي بروحي ، عنها ... هم الأطفال فقط ، كانوا عشقي ، كيف لا ففيهم أرى ليس وجهي حسب ، بل وجه أمي وأبي ونسبي ، و.......الرافدين....!
كان عناقي معمها حاراً ... كُدت أهرس والله عظامهما ... شممت الجيد وقبلت الرأس والخد والشعر الأسود والأكف ، في ذات اللحظة التي كانت هي تصافح الأحبة رفاقي ....!
ـ يا أهلاً وسهلاً ... أوسلو نورت بكم يا أختي ...
ـ ......
ـ وكيف هو الوطن ــ هتف الفتيةُ جميعاً بصوتٍ واحد ــ
قبل أن تنطق ، شعرت بوخزةٍ في القلب موجعةٍ ، وإذ نطقت فارقتني في الحال رائحة مسك البارود .
ــ أي وطن.... وهل ظل هناك وطن....!
ــ ولِمَ....خير إنشاء الله ــ هتف الرفاق ــ
ــ لقد دمر الغوغاء ُكل شيء ....!!
جفل الرفاق...أما أنا فغرقتُ بعاري ....!!
ــ غوغاء ... عفواً أختي ... ومن هم الغوغاء ... نحن لم نحرق الوطن ... مخابرات .... هي التي أخترقتنا وأحرقت كل شيء ....!
وخزت مكي في خاصرته ، تناولت أذنه ، همست ــ بينما تقاطر الرفاق خارجين وقد غامت وجوههم ونُكست الرؤؤس ــ
ـ لا عليك ... إنها لا تفقه شيئاً ... ليس هذا رأي شعبنا فينا ... إنها لا أكثر من ب..بغاء ...تردد ما كان يقوله عنا إعلام الطائفة الدموية ....لا بأس يا صاحبي ... لقد سمعنا من هذا الكثير، ولم ينطفيء ألق أنتصارنا القصيرولن ينطفيء ....!
إنسحبنا صوب التاكسي ، أنا ورفاقي ، أما هي فقد تبعتنا ، تقدم ساقاً وتؤخر أخرى ...وكأنها تفكر في العودة التي غدت مستحيلة ...!
ورغم السنون التي تبعت ... ظل ما بيننا إنتحارٌ بطيءٌ ، لم أفكر بإيقافه إلا حين سقط الصنم وتحررت عاصمة ميتسبوتاميا الخالدة .
لا أدري ...كم من التماثيل المعدنية الجوفاء سقطت في داخلي هباءٍ حين سقط الصنم ...!
وللمرة الأولى منذ نصف قرن ، شعرتُ أن لدي قلباً يجرؤ على الحب ....لأول مرة ....!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لما تعزم الكراش على سينما الصبح ??


.. موسيقى وأجواء بهجة في أول أيام العام الدراسى بجامعة القاهرة




.. بتكلفة 22 مليون جنيه.. قصر ثقافة الزعيم جمال عبد الناصر يخلد


.. الكلب رامبو بقى نجم سينمائي بس عايز ينام ?? في استوديو #معكم




.. الحب بين أبطال فيلم السيد رامبو -الصحاب- ?