الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فاس العتيقة بعد مجيء القمر وبعد هروبه

أيوب المزين

2004 / 12 / 8
الادب والفن


ينقطع سيل الأرجل ويتيه الناظر إلى الأزقة الخالية. إذا هو دخل من " باب بوجلود " استقبله أطفال منتصف الليل حاملين بين أناملهم أعواداً تشتعل موتاً, واضعين في راحة أكففهم مناديل مسقية بماءٍ, لست أقصد ماءَ ضريح إدريس الثاني, بل أعني ماء السفر إلى آخر الدنيا بمقابل بخس أو ربما دون مقابل. بعد ذلك, يعبر زقاق " الطالعة الصغرى " راجياً أن يسمع خرير مياه " سقاياتها " وصوت قراءة القرآن الكريم من داخل أروقة كتاتيبها. لكنه لا يسمع شيئاً ولو ذرة مما رغب فيه. فالمتسولون نائمون على عتبات الدكاكين, والكتاتيب أُغلقت لأن الفقيه الأمريكي يعتبرها منبع الانحراف أو كما يسميه " الإرهاب ". في ذات الوقت تكون " الطالعة الكبرى " تعيش حروباً طاحنة بين عصابات المخدرات والخمور... . السيوف تقطع رؤوساً قد أينعت كما لو أن الحجاج بين يوسف حاضر هناك.
أما إذا ولج من " باب الرصيف", فرائحة ولا رائحة البخور تعبر قنوات أنفه فتحدث له اختناقات. يزيد خطوات فيجد نفسه بساحة " الصفارين", يتأمل برهة, يتذكر أن مكتبة القرويين في المكان نفسه. بوده دخولها وتصفح كتبها ومخطوطاتها النادرة, لكنه لا يعلم أنها على عتبة الانهيار وقد سرق منها الشيء الكثير وبيع بأموال كثيرة. في الوقت الذي يتوغل فيه بين الدروب الضيقة تتراءى له أكوام قشور من فواكه متعددة وأشلاء دجاج لا يقرب للحياة بشيء. لا تكاد تلامس رجلاه باب المنزل الذي يقصده, حتى ينزل الموت عليه من السماء ليس على يد الملاك "عزرائيل" لكن من سور متآكل البنيان. بقى المسافر طريح الأرض, ينزف الدماء في انتظار الفرج. تمر الساعات كالسنوات وجمجمة صديقنا لازالت في نفس المستوى مع رجليه, إلى أن مر شيخ يمشي على ثلاث, كان يقصد ضريح إدريس الثاني ليؤم بالناس صلاة الصبح. لم يكن الإمام حاد البصر ولا كبير الخطوات لذلك تعثر بالجثة وتدحرج أمامها دون أية حركة بعد سقوطه. بعد لحظات مر بالمكان نفسه واحد من خريجي حانة, ما إن انحني برأسه ليتحقق الغائبين حتى تغلبت عليه جوارحه فأصبح في عداد الذين أراد تحقق أمرهما. شهد القمر كل ما حدث فحجب وجهه خجلاً بعدما قال: ألا يوجد بهذا البلد من يحمي الآدميين؟
هرب القمر بعدما نادى أخته الشمس لكي تعاين ما حدثها عنه.
ركزت الشمس أنظارها على ساحة " بوجلود " العريقة, لكنها لم تجد فيها عراقة عدا طريقة الالتفاف حول المسارح الشعبية أو " الحلاقي ", الشباب هناك أوربيون: شعرهم نسائي, طويل, ملون لكن ليس بفنية. فهم لا يعرفون إلا أدنس عادات الغرب وأحقر تعاملاته مع الغير, كانوا كالقردة التي يشاهدونها في "حلقة" "المعلم علي", لا فرق بينهما. أما البنات فحدث ولا حرج عليك يا أيوب, ملابس ناقصة الطول تظهر البطن وما جاوره, كأن فأراً جائعاً مر بها فجعلها عشاء يومه, وسراويل يلصقونها رغماً عنها على لحمهم حتى يقال (أختنا هذه...).
عرجت الشمس نظراتها في حزن شديد وهي تهمس في أذن جبل بقي يتمدد لكي يرافقها في رحلتها:" إن دعاء رجل صالح يحمي هؤلاء البلهاء من سخط الله".
صفير, تهليل وتكبير, نظافة, رائحة عطرة تنبعث من" باب الرصيف", في" باب بوجلود" أطفال تعكس وجوههم نوراً مصطنعاً, بل كل شيء كان مصطنعاً. تعجبت الشمس لهذه العملية السريعة, من حقها التعجب, فكيف لأمة متخلفة أن تصبح في لائحة المتقدمين في ومضة ضوء. لم تمر غير هنيهة حتى انكشفت الحقيقة, كل هذا التنظيم وهذا النفاق لأن حاكم البلاد هو زائرنا اليوم. ينافقه القهارمة المتواجدون على جوانبه ويقولون: كل شيء على أحسن الأحوال, نم على جنب الراحة". يبقى المسكين في "دار غفلون", ويؤكد له المواطنون فكرته المزيفة بصراخهم المليء بوطنية النفاق. يمر صاحب الفخامة ويتلاشى نوره بين سيارات الأمن, وتعود الحياة إلى طبيعتها: السارقون يغوصون بأصابعهم الطويلة داخل جيوب نساء مسكينات يقصدن سوق "السلالين", لاقتناء الخضر الحقيرة, خضر "العرام". التجار إلى تجارتهم وأي تجارة هي, لا مردود جيد وضرائب متعددة الأسماء تتسابق على تحطيم الرقم في تحطيم حياة الناس. الدكاترة المعطلون عن العمل متمسكون بإضرابهم أمام باب مجلس "النوام" رغم تساقط أمطار الهراوات على رؤوسهم, وأستغرب ! يضربون أمام نيام وأي نيام هم, من العيار الثقيل.
في طريقها إلى البيت لقيت الشمس القمر فقالت له: لقد زار حاكم البلاد المدينة. فقال لها: هل حدث له ما حدث للرجل المسكين والإمام الشيخ وخريج الحانة. أجابته بابتسامة مزيفة, فقال: ما هذا الرد الغريب. فقالت: ما حدث كان أعظم, لقد حول هؤلاء المتخلفون مدينتهم من عاصمة علم إلى عاصمة نفاق, من عاصمة حب وسعادة إلى عاصمة بغض وتعاسة. بقي الأخوان يتبادلان أطراف الحديث – كنت أنصت لهما عبر فتحة بين باب منزلنا والسماء- إلى أن سألها الأخ الأكبر: ما ترينا فاعلين إذا حدث فساد في المواطنين المندرجين تحت لواء الطبيعة؟ أجابته بصرامة: نحن لا نخون بعضنا البعض عكس الآدميين, ولا ننافق بعضنا البعض عكس الآدميين, ولا نجعل نفسنا طعاماً سهلاً لكواكب أخرى عكس الآدميين, وإن حدث أن وقع مثل هذا سنثور على الفاسد, فإن كانت شجرة اقتلعنا جذورها, وإن كانت نجمة أطفأنا نورها, وإن كان هلالاً حرمناه من الاكتمال. وإذا كانت شمساً قال لها القمر؟ ردت برحابة صدر: نسلب منها حرارتها فتصبح قطعة باردة لا فائدة منها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط