الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وداع

طالب عباس الظاهر

2011 / 10 / 4
الادب والفن



(لذكرى أخي علي ... رفيق الرحلة الشاقة وشريك الألم)
حينما أنزلناه كان الوقت ظهراً، ولكن رغم ذلك كانت هنالك شبه عتمة شديدة مهيمنة على أرجاء المكان، عزيتها بادئ الأمر لانتقالنا المباشر من فضاء مفتوح إلى آخر مغلق تماماً، ممر طويل داخل أروقة هذا المستشفى المشؤوم، ولعدم إمكانية العين للتآلف السريع.
إلا إن الحرارة هي الأخرى بدت أكثر شدة هاهنا، فضلاً عن الهواء كان يبدو مشبعاً بالرطوبة...بل ينضح لزوجةً، إذ إنها باختصار شديد أواخر أيام شهر تموز، وعند توغلنا أكثر فأكثر، استقبلتنا رائحة تفسخ كريهة وخانقة، لبعض مواد طبية ونفايات، كانت تتراكم في حاويات القمامة، بسبب تواصل انقطاع التيار الكهربائي المستمر، أحياناً لفترات طويلة، مع اشتداد الحر وقيض الظهيرة الحارق، ناهيك عن انعدام التهوية شبه التام هنا.
أشار أحدهم إلى المكان المخصص لمثل هكذا حالات طارئة...حيث انتبهت لما أشار إليه، فإذا بسرير ضيق وقذر، ترتكز قوائمه الأربعة على عجلات دوارة، يرتكن منزوياً جوار باب كبير ذي ضلفات ثلاث واسعة صنعت من خشب الصاج المتين...ورغم إني لمحت إلى أعلى الباب لوحة بيضاء مستطيلة رسمت عليها الحروف بدقة، إلا أني لم أستطع تبين حقيقة ما كتب عليها؛ لعدم قدرتي على التركيز، أو العود من شاتي المرير لتشكيل دلالات الحروف القليلة تلك، وربطها في كلمات مفهومة.
شعرت بالعجز تماماً، لأن رأسي بدا ثقيلاً...أثقل مما يجب بكثير، بل لم أعهده بهذا الوزن إطلاقاً، كأنه جبل يقبع فوق كتفي، ويضغط بعنف على جسدي النحيل، ويحاول إسقاطي، ولولا الحياء والموقف المحرج الذي وضعتني الأقدار فيه؛ لتمددت على الأرض...لكي أستريح قليلاً، وليكن بعدها ما يكون...وليقولوا عني ما يقولون!.
زمن تداعى من الذهول قبل خروج المسؤول عن الاستلام، ليكسر حاجز الصمت الهائل الذي جثم بجثته العظيمة على أنفاس المكان، ثم راح يمسح بنظراته الباردة فوق وجوهنا الغائمة...الشاردة الإحساس بصلف، عبر تشظي الرؤية في عيوننا، وبدت انتقالات نظراته بيننا، كحركة ذبابة عنيدة ونزقة...تحط هنا وتنتقل إلى هناك بسرعة، فثمة عبء إضافي ثقيل جداً، قد أحدثه على أعصابي المنهكة، توقف نظره القصير عليّ، بعدما جعلني أقرب الموجودين إليه.
إلا إنه فجأة تحرك داخلاً إلى الردهة، فأحسست بارتياح مباغت يشملني، إلا إنه عاد مسرعاً إلى مكانه كنابض، وهو يفرك راحتيه دلالة الاستعداد ربما، أو إنه كان يحاول التخلص من شيء ما، مازال عالق فيهما، لكنه بشكل آلي أكمل الإجراءات اللازمة، منتقلاً بنظراته على التوالي بين ما كان يدونه في اضبارته الخاصة، وبين الورقة التي كانت معي، ولست أدري كيف وصلت إليه؟! فاعتقدت بادئ الأمر بأنها نسخة أخرى ربما زوّد بها لدمجها مع أوراق الملف...إلا إنني تأكدت بأن لا وجود للورقة التي كانت بين يدي.
وحينما فرغ من تدوين المعلومات المطلوبة؛ سحب البطانية من تحته بقسوة مفرطة لم أستطع تفسيرها لحظتئذ، أجل ذاتها التي جلبتها له من البيت، عندما قررت رغم اعتراضه تثبيت اسمي كمرافق له، فاعتراضه كان سببه عدم مرور أسبوع العسل الأول فقط منذ إقامة مراسيم زفافي!.
غير إنه غطى بالبطانية تلك جسده تماماً، ومن ثم سحبها ليغطي حتى وجهه... في خضم هذه الحرارة المتفاقمة، وهذه الظهيرة القائضة، وفوق ذلك الانقطاع شبه المستمر للكهرباء، والانعدام التام للتهوية، فكدت أصرخ به بغضب، إلا إني تذكرت باللحظة الحاسمة...حيث أدركت سخف ما فكرت به، وأشفقت منه، تجاه هول وجه الحقيقة المؤلمة.
ثم كتمت غصّة الأسى بين جوانحي، وخنقت عويل الألم في عروقي، ولذت برفيق الصمت من جديد، ورحت مصغياً لتعالى هدير موج الألم، وصوت هياجه العنيف...عبر تكسراته العاتية على شواطئ صخور غربتي الموحشة...ولم أستطع الخروج من ذهولي، إلا حينما لمحت تابوتاً يحمل عالياً على الأكف يدخل من الباب، ويتقدم مسرعاً باتجاهنا، فأدركت متأخراً، بأنني إنما أقف وأخي الوحيد إزاء لحظة الوداع الأخيرة...أجل عند مفترق طريق الموت مع الحياة.
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??