الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سياسيونا والكتابة

محمد الهجابي

2011 / 10 / 7
مواضيع وابحاث سياسية




سياسيونا لا يقرءون، ولا يكتبون. لا يقرءون كتباً، ولا يؤلفونها كذلك. ليسوا بأهل علم وثقافة بالمعنى السياسي للكلمة. وليسوا، بالتالي، بأهل سياسة بمعناها الثقافي والحضاري التليد. وعليه، لا تعنيهم القراءة والكتابة في شيء. غريبتان عنهم، وغريبون عنهما. هذه هي القاعدة. والاستثناء لا يلغي القاعدة كما هو معروف.
السياسيون المغاربة، إبان فترة مناهضة الاستعمار، كانوا حملة علم وقلم. سياسيو عهد الاستقلال ليسوا كذلك. سياسيونا الحاليون يطالعون الصحف ربما. يطالعون الكف أيضاً، يحدث. يتابعون برامج تلفزة إلى حد ما، لكنهم لا يقرءون كتباً. ليس هذا ديدنهم. ليس لديهم من فائض وقت لصرفه في قراءة كتب. هذه الأخيرة، هي عادة من يمتلك من مساحات الوقت ما يكفيه لتزجيتها في تصفح الكتب، واستهلاك بصره في فرز الحروف وعقل الألفاظ. وسياسيونا، نحن المغاربة، ليسوا بعاطلين إلى هذه الدرجة!
سياسيونا أهل شفاهية بالأحكم. يتشافهون، ولا يكتبون. سياسيونا هم، بامتياز، أهل لكي تدرجهم مؤسسة اليونسكو في إطار "التراث الشفاهي للبشرية". سياسيونا هم، بالأحرى، تحف نادرة. ونحن، للأسف، لم ننتبه بعد إلى القيمة السياحية لهذه التحف الخالدة!؟
عنت لي هذه الشوارد فيما أنا أتأمل في تجربة سياسيي الغرب الأروبي، فرنسا بخاصة، بالقياس مع تجربة سياسيينا، هنا بالمغرب.
في تجربة فرنسا السياسية والثقافية التاريخية والمعاصرة واليومية ما يجعلك تقف على هذا التأخر التاريخي (وهو بذلك ليس تخلفاً فقط!) الذي يحكم حياة "النخبة السياسية" ببلادنا.
يمينيو فرنسا ويساريوها، على حد سواء، من ساركوزي، بل من لوبن، إلى بوزنسون، هم أبناء تراث مكتوب، أو هو تراث صار يعتمد المكتوب معياراً. سياسيو فرنسا هؤلاء يتشافهون، كباقي المواطنين، ومثل باقي البشر، لكنهم يكتبون. يقرءون ويكتبون. يحضرون اجتماعات حزبية وسياسية، ويحاضرون، ويجادلون عبر الراديو والتلفزة والمواقع الإلكترونية أحياناً، ويسيرون حكومة من بين حكومات أكبر بلدان العالم الحاضر، ويدبرون شؤون مجالس تمثيلية، بيد أنهم، مع ذلك، وبالرغم من ذلك، يجدون وقتاً للقراءة والكتابة حتى.
لا يكاد يخلو برنامج في الراديو والتلفزيون من تقديم لكتاب يعرض لموضوع في الحياة السياسية لفرنسا. بل حتى البرامج المحسوبة على برامج الفرجة والتسلية لا تكاد تخلو من عرض لكتاب يتناول، بالإجمال أو بالتقسيط، مسألة من مسائل الشأن العام. الأدهى من ذلك، أنه حتى من وجد نفسه، من سياسيي البلد، متورطاً في قضية من قضايا الفساد الإداري أو المالي أو الأخلاقي أو السياسي يهيء وقتاً لعرض كتاب في الموضوع، يسرد فيه وقائع ما جرى.
سياسيو اليمين واليسار، بأطيافهم المتنوعة والمتعددة، يهتبلون فرصاً من قبيل الانتخابات التشريعية أو الرئاسية أو أحداث كبرى في البلد وفي العالم، لتقديم كتب تفسر وتدافع وتعارض وتقترح؛ يصدرون كتباً في السياسة بمناسبة موسم دخول سياسي جديد أو بمناسبة أخرى أو بدونها. هؤلاء السياسيون يمارسون السياسة تدبيراً واطلاعاً وتقويماً وتدويناً. يمارسون السياسة بمدلولها الرحيب!
في القراءة إعمال لخلايا الدماغ، تعرف ومعرفة، تعلم وإدراك، ثقافة وتحضر، مواطنة وتمدن. في الكتابة تأمل وإشراك، حضور واعتبار، مسؤولية وتوقيع.
ولأنّ أهل السياسة في فرنسا (فرنسا دائماً!) يتنافسون مع أهل السياسة في أمريكا وبريطانيا و ألمانيا واليابان..فإنهم ملزمون بإعمال خلايا دماغهم على نحو دائب ومستمر ومثابر. وليس بإمكانهم غير ذلك إن هم أرادوا (من الإرادة) أن يبقوا في قلب أجواء المنافسة بين النخب السياسية الدولية، وضمن "نادي الكبار".
ولأنّ أهل السياسة في المغرب، في بلادنا، يتنافسون مع أهل السياسة في "مملكة فطاني" ( وهي بالمناسبة مملكة تقع بين ماليزيا وتايلاند، وقد جمعتني صحبة مع طلاب منها درسوا بجامعة ظهر المهراز بفاس في سبعينات القرن20)، أو بوركينا فاسو، وما شابه، فإن سياسيينا غير ملزمين، بالتالي، بتشغيل خلايا دماغهم ما دام المنافس هو من قبيل "مملكة فطاني" ليس إلاّ، وما داموا غير معنيين بهموم "نادي الكبار".
ولأنّ أهل السياسة في فرنسا يديرون سياسة بلد بحجم فرنسا، بتاريخها العريق، وأصالتها الفكرية والثقافية، وقيمة مؤسساتها، فإنهم مجبرون، يميناً ويساراً سيان، بحكم وعي تاريخي، على تقديم كشوف حساب، وتناول، في العلنية (كلاسنوست، على حد تعبير غورباشوف الله يذكره بخير!)، لقضايا البلاد الداخلية والخارجية، وفي كل المجالات والقطاعات، على قدر من المسؤولية، فإنه بين المداخل المعتمدة في ذلك مدخل تحرير كتب تفي بالغرض أو ببعضه. الكتاب عند هؤلاء يمثل إمكانية متقدمة في بلورة آراء في موضوع سياسي. وسيلاحظ المتتبع هذه العادة لدى سياسيي الغرب في استعراض أفكارهم ضمن كتب، ولا سيما إبان التحضير لخوض الاستحقاقات السياسية.
إن الكتابة السياسية عنصر أساس في إخصاب التفكير في مسائل الشأن العام والإسهام في النقاش وتوسيع التداول. لكن، فوق هذا وذاك، تعد الكتابة عاملاً في تفعيل المسؤولية. في المكتوبة مسؤولية، لا مشاحة في الأمر. إنّ القول المحرر والمدبج والمرقون والمطبوع والمرقوم والمصاغ بأحرف فارزة هو قول ثابت. ولم يعد، بالنتيجة، ملك اللسان، ولا هو قول "شفاهية"، ولا هو" قول نهار يمحوه ليل"، وإنما هو قول صار ينتمي إلى حيزات الحفظ والأرشيف والتأريخ والمرجع والمصدر.
الكتابي في السياسة ليس هو الشفاهي فيها. في الكتابي مسؤولية وحساب. في الشفاهي إمكانية فاضحة للهروب والتملص من المحاسبة. بهذا المعنى يمكن أن نفهم لماذا لا يكتب سياسيو المغرب.
بيد أنه في الكتابة أيضاً إعمال للتفكير والتأمل. فأن تكتب في السياسة وفي قضايا الشأن العام معناه أنك تشغل جملة أفكار ورزمة وثائق وتحدد مواقف وتعين آراء وتعتمد قرائن. في الكتابة تأمل وإشراك للقارئ (المتلقي) في عملية صياغة رأي.
سياسيونا لا يتأملون ولا يفكرون ولا يرغبون في تسجيل موقف وبلورة حكم. ولأنهم كذلك، فهم لا يكتبون. لا يهمهم السؤال ولا يهمهم الجواب. لا يهتمون. لا يعنيهم تحريك خلايا الدماغ في قضايا المواطن والوطن، ولا يعنيهم تحريكها في ظل عالم من المنافسة الشديدة. لا يريدون تحمل ما يحصل وما يقع. لا يتكبون، لأنهم لا يريدون أن يتركوا أثراً؛ الأثر الذي يدل عليهم، ويحيل عليهم، ويشير إليهم. هم سياسيون بلا أثر. سياسيون عابرون. وعابرون من فوق، خارج جغرافيا الوطن، وخارج التربة المحلية، خارج أرشيفاتها ومكتباتها وسجلات الحفظ بها. سياسيون يمرون بدون أن يخلفوا علامة أو أثر. والكتابة أثر وعلامة.
من بين سياسيينا من هو حاصل على درجات أكاديمية من مستوى عالٍ، لكنه لا يجرؤ على الكتابة. يخيفه الموقف المسؤول. والكتابة موقف للمسؤولية والمحاسبة.
هكذا، لا يعني سياسيينا في شيء إصدار كتاب أو كتابة مقالة أو دبج افتتاحية. يفضلون في هذا الإطار أن تظل خلايا دماغهم مستريحة أومعطلة ومعطبة وتشكو أمراضها المزمنة. علماً أن فاقد الشيء لا يعطيه، يقول آخرون.
سياسيونا اليوم ليسوا بنخبة سياسية، وليسوا بأنتلجينسيا سياسية، ليسوا كذلك. متى كانوا كذلك؟ سياسيونا هم مجرد نومنكلاتورا. ليس لدينا نخبة سياسية جديرة بهذا الاصطلاح. لدينا بالأحرى سياسويون.
رحم الله السي عبد الله إبراهيم والسي علي يعتة والسي علال الفاسي والسي محمد بلحسن الوزاني...ومن شابههم وكان من شاكلتهم. شخصياً أفتقدهم!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة بعد الحرب.. قوات عربية أم دولية؟ | المسائية


.. سلطات كاليدونيا الجديدة تقرّ بتحسّن الوضع الأمني.. ولكن؟




.. الجيش الإسرائيلي ماض في حربه.. وموت يومي يدفعه الفلسطينيون ف


.. ما هو الاكسوزوم، وكيف يستعمل في علاج الأمراض ومحاربة الشيخوخ




.. جنوب أفريقيا ترافع أمام محكمة العدل الدولية لوقف الهجوم الإس