الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النشر في المواقع الإخبارية الإلكترونية/ بين الإمكان والمانع

محمد الهجابي

2011 / 10 / 8
مواضيع وابحاث سياسية



صار من عوائدي أن أفتح كل صباح، بل وأحياناً في أوقات متفاوتة من اليوم الواحد، البوابات الإلكترونية لمواقع إخبارية مغربية غير التابعة للصحف الورقية، أبحث لي عن آخر المستجدات السياسية بخاصة في الشارع المغربي، وعلى صعيد الدولة والأحزاب. في أحايين أخرى يطيب لي أن أقرأ لأعمدة أو لمقالات. ولعل ما يثير انتباهي أكثر هو تعليقات القراء. هل تفيد هذه المقالات المنشورة بالمواقع، وكذا تعليقات القراء المصاحبة لها في قياس درجة ثقافة المجتمع المغربي في التفكير والحوار، في لحظته الزمنية هاته، نخبة وجمهوراً متابعاً للشأن العام؟ هذا السؤال أطرحه كلما انتهيت من عملية القراءة.
ولربما الأصعب بالنسبة لي في تعاملي مع هذه المواقع الإخبارية الإلكترونية هو الرغبة الجارفة التي تستفزها فيّ مشمولاتها في الإدلاء برأي أو تعليق أو تعقيب، بيد أنني سرعان ما أجد نفسي مضطراً إلى قمع هذه الرغبة وإنهاء العملية بغلق نافذة الموقع إياه. ما الذي يا ترى يجعلني أختار موقف التراجع وليس موقف المبادهة؟
في كل خانة من خانات (صفحات) المواقع الإخبارية هاته ثمة إشارة من طرف هيأة التحرير مؤداها الدعوة إلى الالتزام بشروط النشر والتعليق، وأن مسألة النشر لا تتم سوى بعد مصادقة هيأة التحرير. هل هذه الإشارة من قبل الهيأة كافية للتشجيع على النشر؟ لا، لم تعد كافية. لم تعد كذلك، لأنّ الحاصل هو أن السيل الكبير من الردود على الأخبار المبثوثة، وكذا انفتاح هذه المواقع على كل الردود، في سياق المنافسة الحامية بين المواقع في كسب أكبر قدر ممكن من جمهور القراء، وإذكاء عمليات الإثارة بوسائط الصورة والصوت، والسهولة القائمة في ولوج عمليات المشاركة والنشر بعد دقائق فحسب؛ وهو العنصر غير المتاح في الصحافة المكتوبة ولا في الراديو والتلفزيون. هذا الحاصل من الإمكانات تجعل عملية التذكير بشروط النشر غير ذات أهمية كبيرة، اللهم إذا ما كان الأمر يهم التأكيد على مبدإ من مبادئ أخلاقيات المهنة؛ وهو مبدأ يبقى، في جميع الحالات، شكلياً ما دام أن الالتزام به ليس وارداً في معظم الأوقات؛ علماً أننا نتفهم الصعوبات التي يلاقيها القائمون على المواقع إياها في فرز الجائز من الوارد للنشر من عدمه.
تجعل الصحافة الإلكترونية (هكذا ينعتها الكثيرون) من مبدإ المساواة بين كتابها، الرسميون منهم وغير الرسميين، المحترفون منهم والهواة، الإنتلجينسيا وجمهور المتعلمين، الكتاب والقراء..تجعل إذن من هذا المبدإ، مبدأ المساواة، أحد أركان الترويج للموقع ولمحتوياته. ولأنّ إمكانات النشر متاحة في هذا الصنف من الصحافة، على أوسع نطاق، وبضروب مختلفة من الأدوات واللغات ( تخلق المواقع سبلاً متنوعة للتعبير بالكتابة والصورة والصوت. هل تخلق المواقع لغتها؟ على صعيد الكتابة مثلاً، يجري التعبير، لحد الآن، باللغة العربية والفرنسية والإنجليزية دونما اعتبار كبير، في أحايين كثيرة، لقواعدها النحوية والتركيبية واللغوية، بل يلجأ البعض إلى تطويع الحروف اللاتينية للتعبير بالدارجة أو ما يشبه العربية مثلاً؟!)، فإن عنصر المساواة في ولوجها يوحي وكأننا أمام صحافة جماهيرية، وصحافة تواصل جماهيري بامتياز. فهل الأمر هو كذلك؟
الثابت أن الصحافة الإلكترونية الإخبارية هاته ليست ب«صحافة نخبة». عنصر المساواة بين روادها، وكذا عنصر الجماهيرية، لا يشجعان على انتماء ما لها إلى «صحافة نخبة». لا شك أنها «صحافة عموم»، لكنها ليست بصحافة تواصل بالمعنى الدقيق للفظ. هي صحافة اتصال نعم، غير أنها ليست بصحافة تواصل بعد. شرط حضور التواصل هو التفاعل. في مضمون التفاعل عوامل من قبيل الحوار والقبول بالرأي الآخر، واحترام الاختلاف..)، إلى جانب تفادي التشهير والتجريح والمس بكرامة المرء وبعامل اللياقة في التعامل. إن شرط التواصل ينتفي، للأسف، بنسبة مهمة في المواقع الإخبارية الإلكترونية الجارية.
بين المقال الذي يستدعي من صاحبه تضمينه صورة شخصية واسماً، في الغالب هو اسمه الكامل الحقيقي، وبين التعليق المصاحب الذي لا يلزم صاحبه لا بالصورة ولا بالاسم الحقيقي، بين هذين الحدين هناك فارق كبير. كاتب المقال يدلي برأيه في "الوضوح"، وكاتب التعليق يرد في "المحجوب". بين هذه ال"in" وهذه ال"off" لا وجود لتواصل ما. بين السر (خارج المجال) من جهة وبين العلن (داخل المجال) من جهة أخرى لا مكان للتواصل. بين الانكشاف وبين الانحجاب لا حضور للتواصل، وإنما للاتصال. نحن هنا، وفي هذا المستوى من العلائق، نتصل ولا نتواصل. نشعر بحضورنا، بوجودنا الافتراضي، لكن من غير تفاعل حقيقي. هذا هو عالم الصحافة الإلكترونية. صحافة افتراضية. صحافة طروس. ليس ثمة من أدلة على حضور سوى في عالم ذاكرة افتراضية أو في عالم نسخ (والنسخة ليست هي الأصل!).
تنمحي الكتابة الإلكترونية من على وجه الشاشة بعيد ساعات من النشر، مثلها في ذلك مثل نشر ردود الفعل حيالها. لكن لا تنمحي مخلفاتها إلا بعد لأي، وقد لا تنمحي إلا لتظهر في أوجه مغايرة معلومة أو مضمرة من الردود والأفعال.
إن ما يجعلني أتردد في النشر في المواقع الإخبارية الإلكترونية المغربية هو هذا الجماع من العناصر. ربما لاعتبار بسيط هو أن النشر، كيفما كان، هو مسؤولية؛ مسؤولية قول وفعل. والمسؤولية هنا ليست مسؤولية هيأة التحرير فحسب، بل هي، في المقام الأول، مسؤولية رواد هذه المواقع. وفي الكثير مما ينشر (مقالات وتعقيبات) هناك غياب للمسؤولية، وفي هذا الغياب استثمار له من طرف التفكير الشعبوي والإيديولوجي بكل تصنيفاته وأغراضه السطحية المبتسرة والتبسيطية.
يحدث أن تنتقل تعليقات القراء من مقام التعقيب إلى مقام التواصل الاجتماعي أو الحوار البيني، وكأنما المقالات التي تنشر إن هي إلا بوابات نحو قراء يدفعون إلى جعل تعقيباتهم حالات من التحادث تبعاً لإملاءات عفو الخاطر، وكيفما صادف، وتسجيل لحضور شخوصهم ليس غير. ولا شك في أن مواقع نجحت في توفير هذا المناخ من الإحساس بالوجود والحضور. لكن هل هو كاف؟
تخلق التعقيبات المصاحبة هذا النمط من الحضور على اختلاف نوع القراء وجنسهم وأعمارهم وأماكن تواجدهم. هي إذن تعقيبات عابرة لكل هذه التصنيفات. وهذا ليس عيباً. العيب ليس في إعلان الحضور. بل العيب في كيفية إعلانه. اختلاف وجهات النظر هو عنصر صحي في التعقيب، وهو دليل على أننا بتنا نسير نحو الابتعاد عن " أمة بني وي وي"، وعن "أمة الإجماع" (؟!). لكن الأمر غير الصحي بتاتاً هو أن تكتسي التعقيبات طابع التجريح والتشهير والاعتداء على كرامة الناس. هنا يجد المتابع نفسه أمام صعوبة اعتبار هذا القبيل من الصحافة صحافة تواصل. وفي ضوء ذلك، يلاقي كل راغب، كما أحسب، في الإدلاء بدلوه عقبات تحول دونه والمساهمة في إغناء الحوار حول نقطة بعينها، فلا وجود لمدير للحوار أو لمسير له، ولا إمكانية لتقديم نقط نظام، ولا حضور لمقرر جلسة. كل الأبواب مشرعة، فلا قيود ولا حراس بوابات.
هكذا تمكنت الصحافة الإخبارية الإلكترونية من استنبات حرية تعبير لم نعهدها من قبل داخل "دنيا الصحافة"، ووسعت من دائرة التداول بما لا يقاس، وفجرت زخماً من المعطيات الصحافية لا كفاء له لحد اللحظة. وهذه نقط تسجل لها، ولحسابها، لكن في الوقت ذاته ثمة خوف في أن يتحول هذا المنجز إلى عواقب سلبية إن لم يسع رواد المواقع إلى الالتزام بحد معقول من أخلاقيات التداول والحوار. ليست "حرية التعبير" هي "التعبير بحرية". إن التعبير بحرية، كما نخاله، ليس هو القول الحاصل كيفما اتفق، وإنما هو تفكير يتجنب اعتماد الستيريوتيبات والمسبقات والجاهز من النظر إلى الآخر. التعبير بحرية ممارسة لا تدعي امتلاك الحقيقة كلها، قدرما تقول بالنسبية في التقدير والرأي والحكم؛ وهو ما يؤدي إلى تحاشي اللفظ الجارح والانزياح الخارق في التعامل. إن الرأي الصائب _ الرأي الأبقى _ هو الرأي الذي ينهض على صواب معلوماته ومصداقيتها باستناد إلى مراجع ومصادر حاصلة وليست مفتعلة، ثم إن التعقيب الجائز _ التعقيب المستساغ _ هو التعقيب الذي يظل ضمن الموضوع المثار دونما تشهير أو خدش في سيرة الفرد الشخصية أو العائلية، ودونما مس بأعراض الناس. المطلوب إذن، هو "مقارعة الحجة بالحجة". هذا هو المبدأ الموجه في تنمية تفكيرنا الفردي والجماعي، وفي توسيع مداركنا بمجريات أمور الشأن العام. وغير ذلك، فلن تولد هذه الصحافة الإلكترونية الجديدة (وهي جديدة حقاً ولا يمكن أن نحملها أكثر مما تفرضه جدتها في الميدان، ويلزم وقت لتقويمها التقويم السليم!)، التي هي مكسب كبير للعموم، سوى النفور والامتعاض. وهذه مسؤولية روادها بالدرجة الأولى، قبل أن تكون مسؤولية هيئات التحرير.
لا للراقبة. هذا مطلب مهم ومشروع. بيد أنه لا للاستهتار والنزق والعبث أيضاً. وهذا واجب مواطنة والتزام أخلاقي ومهني ومدني. سيكون على الرواد فهم أن المقالات المنشورة والتعقبيبات المصاحبة، حتى وإن كان الوارد فيها هو على مسؤوليتهم، فإن هذا الوارد بالضبط هو مجال تربية وتثقيف وتقرير لمصائر جيل من الشباب والفتيان قد يصل أعمار الكثير منهم إلى ما دون 18 سنة من العمر، كما أن هذا الوارد هو مدعاة لقياس مدى نضج الرواد وثقافتهم. وبالتالي، مدى اقترابهم من مبدإ المسؤولية في التعبير عن الرأي والدعاية له على أوسع نطاق ممكن.
لكل هذه العوامل أجدني متردداً في المشاركة إلى حين. ولعل العديد من المتابعين للمواقع يشاطرونني التردد نفسه، مما لا يعني التقليل من وزن المواقع الإخبارية الإلكترونية، وإنما هو تأكيد على وزنها وتقدير لمكانتها، حتى وإن كانت المشاركة، على هذا المستوى، هي أقرب إلى الطرس منها إلى "معلقة الحارث بن حلزة اليشكري" ( !).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حيوان راكون يقتحم ملعب كرة قدم أثناء مباراة قبل أن يتم الإمس


.. قتلى ومصابون وخسائر مادية في يوم حافل بالتصعيد بين إسرائيل و




.. عاجل | أولى شحنات المساعدات تتجه نحو شاطئ غزة عبر الرصيف الع


.. محاولة اغتيال ناشط ا?يطالي يدعم غزة




.. مراسل الجزيرة يرصد آخر التطورات الميدانية في قطاع غزة