الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مآخذ على كتاب -الصائح المحكي- لخالد الكركي

علي هصيص

2011 / 10 / 8
الادب والفن


مآخذ على كتاب "الصائح المحكي" لخالد الكركي

علي هصيص

يحار المرء من أين يبدأ، فالمآخذ على هذا الكتاب موزعة بشكل متساو بين فصوله وصفحاته, ولو أردنا لها عدا لطال الأمر بنا, ولتعبنا وتعب معنا القارئ, ولكني بعد طول تفكير- آثرت أن أختصر ما أمكن وآثرت أن أبدأ من الصفحة التاسعة والستين من هذا الكتاب, لأن مناقشة هذه الصفحة توفر علينا مناقشة صفحات كثيرة, وما يهمنا من هذه الصفحة هي الفقرة الأولى, التي سأطلق عليها اسم" الفقرة الأم" لأنها أكثر ما سنشتغل به في هذا المقال. تقول الفقرة الأم: "بعد انحسار نهج المعارضات, وانبثاق الرومانسية العربية الجديدة مع جماعة أبولو, وانكسارات الأمة, وتشظي حلمها القومي إلى أقطار تحت نير الانتداب والاستعمار, وعندما بدأت نزعات التجديد التي أطلقت جماعة الديوان وشعراء المهجر ملامح بداياتها للتحرر من التقليد والمعارضة والأغراض التي جعلت الشعر العربي متصلا بالمناسبات لا بروح العصر والناس, بعد هذا كله تبرز صورة المتنبي من جديد, لكن بثوب مختلف, فقد تراجعت صورة الشاعر أو القصيدة النموذج لصالح الشاعر البطل الذي عبر عن روح أمته, والقصيدة المثال التي يعيش الشعراء في أجوائها الرفيعة لكنهم لا يفكرون بمعارضتها, وهذه صورة جديدة لإحياء التراث من خلال استيعابه لا من خلال الاستناد إليه والإبداع ضمن معاييره".
إلى هنا تنتهي الفقرة الأم, ويقصد المؤلف بالقصيدة النموذج, قصائد المتنبي التي فرضت نفسها فعارضها الشعراء, وقد أتى المؤلف ببعض الأمثلة عليها في الفصل الأول من الكتاب.
لقد جعل الدكتور الكركي عنوان الفصل الثاني "البطل", وهو يقول في الفقرة الأم: "فقد تراجعت صورة الشاعر أو القصيدة النموذج لصالح الشاعر البطل..."
وهو يقول في الفقرة التي تليها مباشرة: "يمكن اعتبار منتصف الثلاثينات مرحلة التحول نحو "البطولة" في النظر إلى المتنبي..."
يعزو المؤلف هذا التحول في طبيعة النظرة من النموذج إلى "البطل" في صفحة 69 إلى: 1- انحسار نهج المعارضات 2-انبثاق الرومانسية العربية 3- انكسار الأمة 4- إطلاق جماعة الديوان وشعراء المهجر نزعات تجديدية.
في رأي المؤلف، هذه الأسباب جعلت الشعراء ينظرون إلى المتنبي في صورة "البطل"... الله أكبر!!
وهل انبثاق الرومانسية يجعل الشعراء ينظرون إلى المتنبي بصفته "بطلا" من خلال قصائد كلها ذات نمط كلاسيكي؟(أعني هنا قصائد المهرجانات التي اعتمد عليها المؤلف)، وهل بدأت انكسارات الأمة بعد منتصف الثلاثينات أم أن تاريخ الأمة الحديث كله انكسارات, بل إن الانكسارات في عهد البارودي وشوقي أشد وأنكى من انكسارات منتصف الثلاثينات لأنه عهد الاستعمار، وفي منتصف الثلاثينات بدأت مشاريع الاستقلال، كالمعاهدة البريطانية العراقية مثلا، وإن كانت صورية، ولكنها خير من الاستعمار. وهل حركات التجديد لدى جماعة الديوان وشعراء المهجر تجعل من المتنبي بطلا, إن سبب نظرة الشعراء الذين أتى على ذكرهم المؤلف إلى المتنبي بوصفه بطلا ليس هذا ولا ذاك ولا تلك مما ذكر المؤلف في الفقرة الأم, السبب ببساطة متناهية هو أن قصائدهم أخذت من مهرجانات , والقصيدة في المهرجانات الاحتفائية تمجد صاحب المناسبة أو المحتفى به, وتذكر سماته ومحاسنه وبطولاته, ولا يخفى علينا أنها قد تبالغ في مدحها له وإضفاء صفات بطولية أو حتى أسطورية عليه.
فأنا شخصيا لو طلب إلي أن أشارك بقصيدة في مهرجان لإحياء ذكرى المتنبي لقلت في تلك القصيدة على سبيل المثال:
يا صاحب السيف هات السيف مشهورا هذا الزمان يسمى اليوم كافورا
ولكني كتبت قصيدة قبل سنوات أقلد فيها قصيدة المتنبي التي مطلعها:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وحسبُ المنايا أن يكن أمانيا
ولم تكن قصيدتي من أجل مناسبة, بل كتبتها بصورة تلقائية، فقلت في بدايتها:
لك الله إن الموت ما كان شافيا وما كان يوما قبل موتك غافيا
سلَـتْك الليالي لا مَردَّ لردِّها فهل أنت ماض لو تركتك ماضيا
أعتقد أن الفرق واضح بين القصيدة التي كان من الممكن أن أكتبها بمناسبة مهرجان والقصيدة التي كتبتها تلقائيا.
ومن هنا فإن الفصل الثاني من هذا الكتاب "البطل" فصل يتناقض مع نفسه, فالمؤلف بيّن أسباب نظرة الشعراء إلى المتنبي بصفة البطل, ولكنها أسباب واهية, فيكون الفصل فصلا مهرجانيا, لا يمثل حقيقة نظرة الشعراء إلى المتنبي في منتصف الثلاثينات وما بعدها، وفي رأيي أن لكل شاعر نظرته الخاصة بالمتنبي، فما زال الشعراء حتى يومنا هذا يعارضون المتنبي، ومنهم من يستخدمه رمزا أو قناعا، وتقسيم المؤلف نظرةَ الشعراء إلى مراحل زمنية أمر لم يكن مقنعا، وهو لم يأتنا بخبر مهرجان المتنبي في واسط مثلا عام 1994، 1996 فلو جاء لنا بقصائد المهرجان، أترانا سنجد قصائد مهرجانية تمجد المتنبي في زمن الحصار، أم أنها ستكون غامضة وتستخدم الرمز والقناع وتأتي برؤية جديدة؟ المؤلف غض الطرف تماما عن مهرجان واسط 1994،وكذلك مهرجان واسط 1996 أليس من المهم أن نعرف نظرة الشعراء للمتنبي وهل اختلفت عن نظرتهم في مهرجانات الثلاثينات؟
لا أعتقد أن هناك شخصية في التاريخ العربي اختلفت نظرة الشعراء إليها، حتى شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، فما زال هناك من يمدحه من أهل السنة، ومن أهل الشيعة، ومن المتصوفة، والنظرة كما هي، والمعجم الشعري واحد، وما هذا الاختلاف في طبيعة التعامل مع المتنبي إلا اختلاف مع طبيعة التعامل مع جميع الشعراء، فأبو نواس يمكن أن يستخدم رمزا أو قناعا كما هو عند أمل دنقل، فالتغيير نابع من طبيعة التغيرات الشعرية لا التغيرات الشخصية.
وإذا ما عدنا إلى الفصل الأول من الكتاب, وجدنا عنوانه" النموذج"، إذ قصد المؤلف أن المتنبي نموذج اتخذه عدد من الشعراء ليستلهموا من قصائده قصائدهم, ولكنه في هذا الفصل لا يأتي المؤلف لنا إلا باثنين من هؤلاء الشعراء, وهما محمود سامي البارودي وأحمد شوقي, ولست هنا بصدد مناقشة تغييب باقي الشعراء الذين عارضوا المتنبي, والاقتصار على شاعرين فقط مع أن المدة المقصودة تزيد عن الستة عقود, أفلا يوجد في هذه المدة الزمنية سوى هذين الشاعرين؟!
ومع أنه اقتصر الأمر على شاعرين فحسب, إلا أن تناوله لقصائدهما ذات العلاقة مع قصائد المتنبي كان تناولا سطحيا بحتا, فقد كان يأتي بالبيت وشرحه, ويعقد مقارنات ليس من الصعب على أي قارئ مهما كان مستواه الثقافي أن يخرج بما خرج به المؤلف, ومن هذا مثلا قوله ص44: لقد انتهت الحرب وعاد شوقي, ولكن والدته كانت غائبة, وعزاؤه أن شعره هو الموكب اللائق بها إن فاته المأتم الذي يليق بمقامه, وهنا يلتقي مع المتنبي في الفكرة, ولكنهما يفترقان في التعبير, وهذان هما البيتان:
يقول شوقي:
لئن فات ما أملته من مواكب فدونك هذا الحشد والموكب الضخما
ويقول المتنبي:
ولو لم تكوني بنت أكرم والد لكان أباك الضخم كونك لي أما"
ومثل هذا كثير, بل قل إن أغلب الكتاب يقوم على أسلوب الشرح المدرسي البسيط, والكتابة الأفقية التي لا تتجاوز حدود الوصف.
ويبدو أن أسلوب الشرح قد استهوى المؤلف، فهو يقول ص89 : "ولسنا هنا هنا بصدد سرد مناقب المتنبي كما يراها البزم..." وهنا ينسى المؤلف نفسه فيسترسل في سرد مناقب المتنبي في ثلاث صفحات، ويكاد يكون من أكثر الشعراء الذين علق على قصائدهم في هذا الفصل!
ولكني سألتمس العذر للمؤلف في الفصل الأول حين تعامل مع الشرح فقط، كونه يتحدث عن المدرسة الكلاسيكية, ولنسمها التقليدية ولنقل إنها لا تحتاج إلى العمق والحفر العمودي في التحليل، ولكن أي عذر يمكن التماسه في الفصل الثالث الذي عنوانه "الرمز"؟
إن المؤلف يتبع لغة الوصف والشرح في هذا الفصل, ولا نجد أي جديد يمكن أن نقول إنه إضافة, أو أي تحليل يمكن أن يرتقي إلى مستوى التحليل العميق, فهو يقوم بعملية تحويل المقاطع الشعرية إلى مقاطع نثرية, ولنستمع إلى المؤلف وهو يتحدث عن قصيدة محمود درويش "رحلة المتنبي إلى مصر" ص172: "ما الذي يبقى إذن للشاعر المثقل بالخيبة والحزن؟ إنه في مصر لكن نفسه تطرده من فسطاطها, يلج المرايا, يكسرها لكنها تكسره, وحالة التناقض كاملة بين انتظاره لنهر يمشي إليه, وبين طموحه الهائل بحياة مختلفة...".
المشكلة هنا وهناك وهنالك أيضا أنه يتحدث عن الفسطاط وولوج المرايا وتكسيرها, دون أن يضع أمام القارئ المقطع الشعري الذي ورد فيه كل هذا, مع أن المؤلف الآن في سياق ينبغي عليه فيه أن يوضح الرمز والقناع, ولكنه يعيد نثر المقطع الشعري, مع أن المرايا في شعر درويش لها دلالاتها الرمزية بالمقطع الشعري... والحديث عن مثل هذا يطول, ولكنه يأتي به على قلق... وما إن ينتهي من الحديث عن درويش - ونحن مازلنا في فصل" الرمز" - يأتينا مباشرة بالشاعر اليمني عبد الله البردوني, وهو في عرضه لبعض أبيات قصيدة البردوني وشرحه بعضها الآخر لا يوضح لنا كيف كانت هذه القصيدة حاملة لرمز المتنبي, أو ما هو الرمز المقصود، فهو يعود سيرته الأولى في الشرح المدرسي ولا تتجاوز الكلمات حدود الأفكار الرئيسة في الأبيات!
وبعد البردوني يأتينا بقصيدة" يا سيدي المتنبي" للشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد, والتي ألقيت في مهرجان المتنبي ببغداد سنة 1977م ولا أريد أن أطيل, فهو يشرح ويشرح ويأتي بالأفكار, وهو وإن كان قد وضع القصيدة في فصل "الرمز" فإنه لا رمز فيها, والمؤلف نفسه لم يبين لنا أي رمز في القصيدة وهو يشرح بعض أبياتها, ولم يتجاوز تعامله معها الحدود التي تعامل بها مع قصائد شوقي والبارودي وباقي القصائد الأخرى, بل لم ترد كلمة رمز أو قناع في معرض شرحه لبعض الأبيات، وللقارئ الكريم أن يطلع، وعلى هذا المنوال يسير باقي هذا الفصل "الرمز".
أما الفصل الرابع والأخير من الكتاب وعنوانه" الرؤية" ففي رأيي هو من أقل فصول الكتاب خطلا, حيث دخل المؤلف الأجواء الحقيقية للموضوع, ولكنه ظل واقفا على عتبات النص، وقدم بعض التحليلات، وإن لم يتخلص من أسلوب العرض والشرح في بعض هذا الفصل، فنجد مثل هذا في الصفحات 222- 233.
وقبل أن أنهي أجدني مضطرا للحديث عن أمر جانبي, مع أنني كنت أنوي ألا أخوض في الأمور الشكلية أو الجانبية, ولكن هذا الأمر يلح عليّ أن أذكره, ألا وهو "المصادر والمراجع".
وإليكم التفصيل:
أولا: اختلاف اسم المرجع ما بين المتن والقائمة، مثل: شرح ديوان المتنبي ص20، ولكنه في القائمة: ديوان المتنبي.
ثانيا: ورود اسم المرجع في هوامش الكتاب وعدم وروده في القائمة، مثل: أعمال سميح القاسم الكاملة ص 197، لم يرد ذكره في القائمة، وكذلك : الآداب ص 116، لم يرد ذكر المرجع في القائمة.
ثالثا: وهذا أغرب ما في الأمر، وهو أنه أورد مراجع في القائمة غير واردة في الكتاب، مثل: إبراهيم السعافين، مدرسة الإحياء والتراث، ص 413، وكذلك: أحمد محرم، من شاعر إلى شاعر ص 413، وكذلك: جاسم محسن عبود، التطلع القومي عند المتنبي ص 414. ومثل هذا كثير.
رابعا: يحيلنا المؤلف ص 132 إلى ثمانية مراجع في الرمز والقناع، مع أنه لم يرجع في كتابه إلى أي من هذه المراجع، حتى كتابه "الرموز التراثية العربية في الشعر العربي الحديث" – وهو ليس موضع حديثنا الآن- لم نجده قد عاد إليه أو أفاد منه.
وبعد:
فإني لم آتِ على كل ما يمكن أن يؤخذ على هذا الكتاب، وبي ثقة بالقارئ الكريم الذي تكفيه الإشارة دون العبارة، والقارئ أعلم مني بما يسود البحث العلمي والأدبي من قصور في عالمنا العربي الكبير الغريب العجيب، ليتنا نعود إلى تلك الصرخة التي أطلقها شيخنا الكبير الأستاذ محمود شاكر "فساد حياتنا الأدبية"، لقد فتح لنا بابا من أبواب النقد الذوقي الجميل، وعلمنا أن الفساد لا يقتصر على الحياة السياسية والمالية والإدارية، ولكن تأبى نفوسنا إلا أن ندخل الجحر الذي دخلوه، وكأن عقولنا قاصرة، نرضى أن نكون قومَ "تُـبَّـع" في كل أمر، فلا ظهرا أبقينا ولا أرضا قطعنا... وإنني وقد أنهيت ما بدأت، أشعر أن النفس تحدثني بمقالة أخرى عنوانها: "عالمنا العربي وصناعة الرموز الثقافية".
بقي أن نقول إن الكتاب: الصائح المحكي: صورة المتنبي في الشعر العربي الحديث، صادر عن المؤسسة العربية للنشر والتوزيع، بيروت،1999.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تغيير
عادل الوهيبي ( 2011 / 11 / 9 - 09:18 )
إن المرحلة القادمة أو التي نمرّ بها الآن في رأي الكثير أصعب وأمر من سابقتها .. ففي السابق فرض علينا الصمت خوفا من المجهول أو بالأصح الرّهبة من تقديم النقد في المسؤول حيث نظروا لنا بالتقدير والإحترام وأشاروا باهتمام إلى ما يحمله الفكر من حقائق وآراء ..
أما فيما يسمّى الآن بالربيع العربي فقد أصبح لزاما عليك أن تطرح كلّ ما في جعبتك على الملأ ، وهنا تكمن الصعوبة لأن المطلوب هو فكر ساطع نيّر يزوّد ويعطي للآخرين ما فقدوه عبر سنوات الكبت والحرمان


2 - أشكرك أستاذ عادل
علي هصيص ( 2011 / 11 / 27 - 17:13 )
أشكر مشاركتك أستاذ عادل
وأثني على كلامك فهذه فرصة للتخلص من أولئك المتثاقفين الذين أشبعونا كلاما، وقد كتبت مقالا مشابها قبل ربيع الثورات العربية بعام عنوانه -التهافت الغريب على الرونق العجيب- بإمكانك قراءته- مع تقديري لكم

اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل