الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشجرة البريّة : قصة قصيرة

رياض خليل

2011 / 10 / 9
الادب والفن


كنت أرسمها تماما كما أتخيلها . كما أريدها أن تكون ، أو كما أتمنى أن تكون ، في كل مرحلة من مراحل نموها كنت أتأملها بكل أحاسيسي وأرسمها .. ألونها بألوان بهيجة ، كانت لوحات جميلة لامثيل لجمالها .
أما آخر لوحة فكانت ساطعة في العين والقلب كالشمس المتوهجة ، كانت اللوحة الأعظم ، لوحة جليلة مهيبة فريجة في جمالها الأسطوري . لوحة الشجرة البرية التي يبست ، وتخلت عن أوراقها الخضراء ، فبدت كيانا مذهلا ونادرا ، تستحوذ على القلب كما كانت وهي ماتزال غرسة خضراء غضة بريئة . الآن أنظر إليها وأبتسم لأنني رسمتها يابسة في القلب قبل أن تغادرنا مهاجرة .. أو قبل أن تسرق من أرض الدار والحوش ..
أنا وزوجتي زرعنا أربع بذرات تباعا . نبتت تترى . كان اخضرارها زاهيا .. فاتنا .. تحولت النبتات إلى غراس فتية ، تزين حوش المنزل ، وتضفي عليه البهجة ، وتملأ العيون بالآمال والأحلام الجميلة .
كل يوم كنا ننام ونفيق مع أحلامنا وآمالنا بأن تكبر الغرسات ، وتزهر ، ويتحول الزهر إلى ثمار ، كل يوم كنا : أنا وزوجتي نسقيها ، نسمدها ، نحميها ، نرعاها ، ونراقبها بانتظار أن تبشر بأول إثمار ، كنا نود أن نشهد أول ثمرة ، لنتأكد من خصوبة الغرسة . كان تركيزنا منصب على ا لغرسة الأولى ، التي تكبر بقية ا لغراس بعدة سنوات .
مضت سنوات وسنوات ونحن : أنا وزوجتي نتعب ونشتغل ونرقب ونتأمل . وكانت الغرسة الأولى تشغل جل اهتمامنا ورعايتنا ، لأنها الأقرب منالا ونولا وإثمارا من سواها . إلا أنها : أي الغرسة ا لأولى كانت تؤرقنا . كنا نحس أن ثمة شيئا غير طبيعي فيها ، خلل ما في نموها واخضرارها وملامحها ، لكننا كنا نصبر ونأمل أن تزول هواجسنا مع مرور الوقت ، وكنا نعد السنوات ونقول في كل مرة : السنة ا لقادمة ستبشر بالإثمار . صبرنا الكثير ولم يبق سوى القليل . ليس لنا خيار آخر سوى الصبر .
لم يكن بوسعنا : أنا وزوجتي مجرد التفكير بقطع الشجرة ا لأولى ، لأنها كانت جزءا من روحنا وكياننا ، ليس بوسعنا التخلي عنها ، تماما كما لانستطيع التخلي عن ذريتنا ... وقررنا التعايش معها ورعايتها .. عسى أن يتغير الوضع فجأة في لحظة ما ..
الغرسة الثانية شبت وهبت واشتعلت اخضرارا وزهرا وثمرا ، وسبقت أوانها الطبيعي ، نضجت مبكرا ، وغمرت الدار بالبهجة ، وملأت العيون بالآمال العريضة والأحلام الطائرة . وأوشكت الغرستان الصغريان أن تلحق بالغرسة الثانية .. إلا الغرسة ا لأولى .. فقد ظلت تنمو وتلتهم أرض الحوش حول المنزل ، وتتغذى على حساب بقية الغراس .
بدأنا : أنا وزوجتي نقلق ، نحس بالخطر من الغرسة الأولى التي تحولت إلى شجرة تكبر وتكبر .. وتلتهم الحوش من حولها ، وتتطفل على بقية الغراس ، تأخذ وتأخذ ولا تعطي .. لاتزهز .. لاتثمر .. وتكبر .. وتكبر على حساب الحوش والدار والغراس الآخرى , وبدأت تهدد البناء والأحجار وتبتلع الهواء والفضاء ، وتحجب النور عن الغراس وعلينا ، أخذت تسد النوافذ والآفاق ، وتمنعنا من استنشاق الهواء والتمتع بالضوء والدفء ، وفي الليل تحجب ضوء القمر السهران ..
لاأحد من الأقرباء والأصدقاء أحس بمشكلتنا .. وكنا : أنا وزوجتي نعاني ونعاني . كنا : أنا وزوجتي نأمل .. نراهن .. نقامر بكل ما لدينا من إمكانيات مادية ومعنوية ، من أجل تمكين الشجرة الأولى من أن تخصب .. تزهر نم.. تثمر . لكن هيهات .. وهيهات .. كانت الخيبة تتراكم ، وكان اليأس .. يشل الأوصال والتفكير .... لأننا كنا: أنا وزوجتي وبقية الغراس جميعنا نحس بالشجرة الأولى ونرعاها ، لكن الشجرة الأولى لم تعاملنا بالمثل ، ولم تأبه أو تكترث لنا كلنا ، ولم تستجب للتربة والماء والهواء والشمس والرعاية ، وظلت عاقرا عقيما .. وأكثر من هذا .. أنها بدأت تتغير بشكل ملفت ومحزن ومفزع ومفجع . بدأت أوراقها تصفر .. وتتساقط ..وليس الخريف هو السبب !
كنا نحن : أنا وزوجتي والغراس الثلاث التي أصبحت أشجارا خصراء تزهر وتثمر ، كنا نرقب الشجرة الأولى بحزن عميق .. بألم ساحق ، لأنها كانت عاجزة عن الاستجابة لنداءات التراب والماء والشمس والهواء .. عاجزة عن التكيف مع الحوش الأخضر والدار الحنونة . عاجزة عن الإزهار والإثمار ، والعطاء .. الشجرة الأولى بخلت على الحوش .. أخذت منه كل شيء ولم تقدم له أي مقابل .. و
وقد وصل العقم والبخل والأنانية أن الشجرة الأولى لم تعد تطيق أن نستظل بظلها الثقيل ، فقررت أن تيبس كليا .. كي لا نستفيء بظلها حتى .. قررت أن تموت كليا كي لا تعطي أو تمنح ولو ذرة مقابل ما أخذته ونالته من الحوش والدار والغراس وأنا وزوجتي البائسة التي تكاد تموت قهرا وخيبة وهي تصيح كالمفجوعة : " ياضيعان التعب ؟!! "
يبست الشجرة الأولى بعد أن أكدت للداروالحوش أنها شجرة برية عاقر . ومع ذلك لايسعنا أنا وزوجتي والداروالحوش وبقية الغراس قطعها ، لأنها بقيت جزءا من روحنا وكياننا .وبقي حبها في أعماقنا شامخا وراسخا كالجبال الجرداء ، كان منظرها وهي يابسة يثير فينا الشجون ويزيدنا حبا وتعلقا ووجدا بها ، وكنت قد رسمتها وهي عارية .. جرداء .. واقفة .. شامخة .. تتحدى المكان والزمان ، تتحدى كل شيء إلا ذاتها التي ودت أن تكون محور الوجود . وذات صباح فوجئنا بغيابها.. ورحيلها . وقد فجعنا لهذا الحدث . . لعل شخصا ما سرقها في غفلة منا .. دون أن يترك لنا فرصة وداعها ....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منصة بحرينية عالمية لتعليم تلاوة القرآن الكريم واللغة العربي


.. -الفن ضربة حظ-... هذا ما قاله الفنان علي جاسم عن -المشاهدات




.. إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها بالجيزة


.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها




.. الممثلة ستورمي دانييلز تدعو إلى تحويل ترمب لـ-كيس ملاكمة-