الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ألوان السيدة المتغيرة

سعد محمد رحيم

2011 / 10 / 9
الادب والفن


ماذا يفعل الشعر غير أن يُلقيك في حالة من الدهشة والتساؤل، وأن يُبقيك على صلة حميمة وعميقة مع الحياة.. ولن يكون الكلام شعراً ما لم يُشعرك وكأن روحك ترتعش وهي في مهب نسمة رخية، أو كما لو أنها تغتسل برذاذ عذب تُسقطه عليها الكلمات.. هذا هو الخاطر الذي يستحوذ عليّ كلما قرأت قصيدة، أو مجموعة شعرية للشاعر فاضل السلطاني. ومجموعته الأخيرة ( ألوان السيدة المتغيرة/ دار المدى ـ دمشق 2010 ) لم تكن استثناءً، بل على العكس، فقد جاءت بقصائدها الخمس والثلاثين لترسِّخ لديّ هذه القناعة، وتؤكد صدق ذلك الشعور.
ثيمة المجموعة الرئيسة هي الموت.. الموت بعدِّه هاجساً إنسانياً ملحاً، ومصيراً وجودياً لا مفرّ منه، وبذرة ثاوية في رحم الحياة، وسؤالاً يقترح ما لا تُحصى من الإجابات. فشبح الموت يخيّم على معظم قصائد المجموعة.. إنه هناك، مثل ملاك خفي، متنكر وغامض، يترصدنا بلا كلل، في كل لحظة.. نحس به حتى وإن لم يُذكر بالاسم: "اغلقي جسمك الآن.. اسمع ظلاً غريباً/ يدب على الساقين/ وعلى الراحتين أرى/ دمعتين من الخوف ترتعشان/ اغلقي جسمك الآن../ شيء تغير، حتى الكتاب/ يغلق الآن عنوانه...".
يسمي الشاعر الموت ( الزائر المستحيل )، وهو يطرق على الباب.. إن نداءه الخافت والصارم أمر لا يُرد: "افتحي جسمك الآن../ هل تسمعين؟/ إنه الزائر المستحيل/ طفلك المنتظر/ ينضج الآن بين يديك/ ......./ حان وقت الرحيل". وهذه الروح التي تستقبل الموت ليست مستاءة أو يائسة، أو مذعنة بجبن.. إنها تتقبل مصيرها بشجاعة وتفهّم، وبشيء من التهكم أحياناً. نقرأ في قصيدة اخرى: "لا تجرِ يا تيمز/ لا تجرِ يا فرات/ سأحتاج أغنيتين/ لأكمل أغنيتي/ وسأحتاج شيئاً من الموت/ كي أبدأ الأغنية".
يتولانا الإحساس بالفقدان مع قراءة كل قصيدة في المجموعة. فهناك مسحة من الأسى تتموج بين الجمل الشعرية، وإحساس بغياب شيء ما أو أحد ما، فضلاً عن قدر مفرط من الحنين. "وتزيح الستائر ثم تغلقها/ ما يزال الغبار على النافذة/ ما يزال الرصيف البعيد بعيداً/ وهم يعبرون/ غير أنك ترقب../ قد يخطئون الطريق إلى الموت/ ينعطفون يساراً إلى البيت/ قد يشترون/ زهرة للجدار/ ثم يمضون..."
يُخيل لي أنه لولا الموت ما كان هناك شيء اسمه شعر وأدب، أو شيء أسمه فلسفة، وبطبيعة الحال، ما كان هناك أيضاً شيء اسمه دين.. وربما من سطوة حضور الموت وتربصه بنا أصبح لحياتنا مذاق ومعنى. وهذا ما يريد فاضل السلطاني إخبارنا به، بلغة شعرية بالغة الصفاء والرهافة؛ "وأقول لك: انبسطي في الأرض/ أيتها الواقفة في منتصف الطريق إليّ/ في الأحدْ/ رأيتك واقفة في الضبابْ/ فوق جسرٍ بلندنَ/ حيث ينام الميتون/ حيث لا أحد/ فإخذت يديك/ وأدخلت موتكِ بين الظلال/ حيث ينهزم الموت/ حيث تبدل أثوابها الكائنات...".
إلى جانب الألم، والضياع في الحلم، والكآبة، يفكر المنفي بالموت. إن أكثر ما يخشاه من أخبار الجانب الآخر الذي غادره هو الموت.. إن الآخرين، من الأحبة البعيدين يحضرون حتى بأسمال موتهم، وبالتأكيد بسبب موتهم: "يظهرون/ فجأة في الضياء/ منذ بعض من الليل/ أحبابي الكُثر/ كم تناسل أحبابي الكُثر!/ يولدون/ فجأة/ يكبرون/ فجأة/ ويموتون ـ بعد حياة/ في غرفتي/ أم تراهم يختبئون؟".
كذلك، نتلمس أثر الموت على أشيائنا التي نحبها.. يذكِّرنا به حتى ما هو مفعم بالحيوية والنضارة والجمال.. ولكن صورة قديمة لامرأة عشقناها ذات يوم وهي لابدة داخل إطار هي أكثر ما توحي بالموت، حتى ولو لم يذكر الشاعر، هنا، كلمة الموت مباشرة:
"هل تذكرين؟/ كنتِ في وسط الصورة/ وعلى جانبيك كانت الموسيقى تعزف/ كأنها الموسيقى الأخيرة على الأرض/ وكنت أحار/ كيف أميّز العازف من العزف؟/ والراقص من الرقص/ كنت تجلسين وسط الصورة/ لاهية عن الموسيقى/ عن لحظة ثبتتك إلى الأبد/ صورة في إطار".
يملأ أنين الموت الخافت، أو ضجيجه أحياناً، فضاء قصائد الشعراء المهاجرين، أو المنفيين، أو المقتلعين من أمكنتهم.. يغدو الموت، عندئذ، كما لو أنه رفيقهم الذي يقاسمهم وقتهم وأشياءهم وأحلامهم.. يصحبهم في كل خطوة/ وينتظرهم حيثما اتجهوا. فنكاد نلمح آثار خطواته بين كلمات أشعارهم.. فالموت بحضوره الشبحي يلوِّن تلكم الأشعار، ويظللها، ويمنحها هالة أكثر وقاراً، وسطوعاً أشد.. نقرأ في قصيدة فاضل السلطاني ( أر. اس. توماس/ الشاعر والكاهن الويلزي ):
"مثلك، أنا أيضاً، أسمع أحياناً/ موسيقى غامضةً منتصف الليل/ وأصواتاً تدعوني/ فأغادر بيتي/ علّي أبصر صوتاً أعرفه../ لا صوت هناك./ من كان إذن يدعوني/ أو يدعوك طوال الليل؟/ لا أحد؟/ أصوات ضائعة في البرية؟/ من كان إذن يتسمع خلف الباب/ صوتَ الموتْ/ وهو يدب على جدران الغرفة/ أنا.. أم أنت؟".
إن الشاعر، ها هنا، لا يخاف الموت ولا يهرب منه، وإنما يريد مواجهته والتآلف معه، والدخول معه في سجال.. إن ضد الموت تأكيد لحضور الموت وسلطته.. وحتى فكرة الخلود هي صرخة يائسة لكنها محرٍّضة للحياة في مواجهة الموت.. يقول الشاعر في قصيدة ( شكراً لك ):
"شكراً لكِ/ للعشاء الأخير في 2005/ لمساء آخر قبل الموت/ لشحنة الشمس في كفيك/ للضوء سربته أصابعك/ لمساء آخر قبل الموت/ لآخر موسيقى لم أسمعها/ لمعطفك الراقد بيننا/ لجناحي النافذة/ على كتفيك/ للشارع الذي يطل عليك".
يُخيّل لنا وكأن نظرة الموت المتلصصة تلاحق الأشخاص الغارقين في موج من الحزن واللوعة، والأشياء المتشحة بظلال كئيبة، من وراء أفق مضبب.. غير أن ما يتأكد، عبر ذلك، هو فعل الزمن.. إن فكرة الزمن التي تعضّد فكرة الصيرورة والتحول والارتقاء هي في الوقت عينه تعكس فكرة الانكفاء والزوال والموت:
"يطول شعرك أو يقصر/ فوق المائدة/ في حديقة الشيخوخة الصغيرة/ في منتصف العالم/ في منتصف الموت/ حتى يجوع التراب/ ابقي هنا/ إلى أين ستذهبين؟/ ما أجمل العالم في منتصف الذاكرة".
إنه الجمال الذي لن يفلت من سطوة الزمن وقسوته، ولابد من أن تذكِّر، أو توحي، ونحن نتأمله، بأنه، يوماً ما، آيل إلى التلاشي والفناء.
يتجلى الموت في قصائد المجموعة في مناسبات مختلفة وبأشكال متباينة.. إنه بؤرة معظم تلك القصائد وموضوعتها.. يهدي الشاعر قصيدة ( الموت بالماء ) إلى ( 350 عراقياً غرقوا في البحر في طريقهم إلى استراليا طلباً للجوء عام 2011 ) "إنه الموت بالماء../ أعذب موتْ/ يتشربه الدم حتى تشف العروق/ فتهبط مثل النوارس للقاعِ".. إنها مرثية مؤسية مصاغة ببعد سردي كما هي حال بقية القصائد.. تتجسد المأساة في صورة امرأة غرقت.. تصبح المرأة كناية عن الموت العبثي ذاك، أي اسمه الآخر. أو أن الموت كي يعبِّر عن نفسه يستعير صورة المرأة الغريقة:
"بيضاء أنتِ كما الماء في القاعِ/ صافية كالسماء وراء المياه الغريبة../ غوصي مع الماءِ../ عيناكِ محّارتان/ تشربان من البحر لؤلؤهُ/ ثمّ.. تنغلقان".
تستدعي فكرة الموت نقيضها، وهو ما يهم الشاعر في نهاية المطاف. أقصد الحب، أي المبدأ الأول للحياة.. يحتفل الجسد مستغرقاً ببهجة التوحد مع الجسد الآخر، ويحتفل في الموت.. وبين الاحتفالين يتوسع الحقل الدلالي ويتعقد.. وفي هذا الالتباس المذهل والمخيف تتحوّل المعاني وتزدهر القصائد.
"كنت أريد أن أدخل في موتك/ أن ألمس شيئاً من الحلمة التي تخمد/ في حضرة الموت المبارك/ أن أنزع عنك الحب لا شهوة الحب/ لكنك كنت تحثين الخطى/ نحو ذلك الموت المبارك/ وأنت تحملين وجهي القديم".
يمكن أن نستبدل زاوية النظر، ونقرأ قصائد مجموعة ( ألوان السيدة المتغيرة ) لفاضل السلطاني بعدِّ موضوعتها هي الحب أو الغربة أو المنفى أو الزمن، وهذا ما يجعلنا نقع في كل مرة، مع كل قراءة، على كونٍ جديد من المعاني، ومستويات أخرى من الدلالات، ناهيك عن اكتشاف، وإعادة اكتشاف، البراعة الفنية لبناء الجملة الشعرية ومن ثم إقامة المعمار التشكيلي لكل قصيدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين


.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ




.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي