الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميات جندي فرنسي في أفغانستان وإشكالية حضور الآخر

ماهر اختيار

2011 / 10 / 13
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم



يُطرح الكثير من التساؤلات، في هذه المرحلة، حول مشروعية طلب تدخل عسكري من دول غربية أملاً في تحرير الشعوب المستَغلة، هي تساؤلات نابعة من ترددٍ حيال حضور هذا الآخر وما يُولد اختلافه ثقافةً وتاريخاً من قلقٍ وشعورٍ بمعانقة عدمٍ لا يفتأ يلوح في الأفق. ولعل الدعوة لتدخل دول الغرب في شؤون داخلية تمثل قضية شائكة لأن هذه الدول، بتجسيدها لحضارة الآخر، تتدخل حاملةً، في كثير من الأحيان، حقيبة ״الذات״ والمتضمنة مبادئ واستراتجيات اقتصادية وسياسية يتوجب على الشعوب المستغَلة إتباعها متحولة بذلك إلى ״موضوع״. وقبل تقديم قراءتنا لتجربة هذا الجندي الفرنسي الذي عمل على تصوير حضوره العسكري - بوصفه ״الآخر״ - في بعض قرى أفغانستان، دعونا نستعرض بشكل موجزٍ وجهة نظر فيلسوف ومؤرخ فرنسيين تحدثا عن حضور هذا الآخر ليس فقط في علاقة الأفراد فيما بينهم، وإنما في علاقة الحضارات أيضاً. ففي كتابه الوجود والعدم، شرح سارتر هذه العلاقة واصفاً بأن (الغير هو الإمكانية الدائمة لإحالتي لموضوع مرئي). يجد الإنسان نفسه إذاً مهدداً عند حضور هذا الآخر الذي يُقيد حريته ويُحوله لموضوع، وبسبب حضور هذا الآخر، يجد الإنسان ذاته قد تلاشت وتحولت من وجودٍ فعلي إلى عدمٍ لحظي، وأحياناً إلى عدمٍ أبدي. وأضاف سارتر أن الآخر يستطيع (أن يتعالى على إمكانياتي بإمكانياته الخاصة، فأراها تفر بعيداً عني مصطحبة معها الأشياء والموضوعات التي كانت قبل ظهور الآخر متمركزة حولي. فالغير موت لإمكانياتي بحيث لم أعد سيداً للموقف بظهور الآخر). هي وجهة نظر تحاول القول بأن حضور الآخر هو تقييد لحرية الذات وتحجيم للإمكانيات التي تمتلكها. فيما اعتبر المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل بأنه خلال الأزمات الاقتصادية تبدو (حضارة الآخر بوصفها شيطان)، وهي، في التعريف العام، منافسٌ عنيدٌ يريد فرض منتجاته على الحضارات الأخرى. فرغم ما تتضمنه الحضارة من ثقافةٍ وتاريخٍ وفنونٍ، تجد نفسها في صراعٍ دائمٍ مع جيرانها؛ هو صراع يُبنى على تأكيد ״الذات״ في محاولةٍ لتغييب منتجات الحضارات الأخرى. فلا تبحث الحضارة فقط عن جبال جغرافية تحمي حدودها وإنما تتردد، على المدى الطويل، في تقبل حضور ثقافة ״الآخر״ داخل مجتمعها، لأنه حضور يهدد وجودها ويسبب تغييباً لبناها المتجذرة في غياهب التاريخ. إذاً قضية حضور الآخر قضية شائكة وذلك لتجسدها في علاقة الأفراد والحضارات على حد سواء، فيبقى الآخر حاملاً لصفة الغير، ليس بسبب اختلافه وحسب، بل لأنه يعمل على تكريس حرية ״الذات״ من خلال تقييد حرية ״الموضوع״.
هذه المقدمة النظرية هي تمهيد لمناقشة جانباً من جوانب قضية التدخل الأجنبي التي تشغل مساحةً هامةً في ذهن وتأمل المواطن العربي خلال هذه اللحظات التاريخية التي تعصف بكيان عدة مجتمعات عربية، هي لحظات قد تنفض عنها غبار الاستبداد والظلم والحكم ذا البعد الأيديولوجي الواحد، لكن الإطلاع على تجربة مجتمعٍ عايش التدخل الأجنبي قد يضيء لنا بعض النقاط الغامضة. سنحاول، عبر هذه السطور، ترجمة بعضاً مما ورد في برنامج وثائقي1 عُرض على قناة فرانس2 محاولين تقديم قراءة ممكنة قد تكون هامة في بعض جوانبها. إذ قام جندي فرنسي خلال خدمته العسكرية في أفغانستان على تصوير جزءاً من يومياته، ومن خلال مشاهدتنا لهذا العمل الوثائقي نستنتج ما يلي:
أولاً: الخوف من انعدام الذات وانتقالها لعدم أبدي يمثل دافعاً أساسياً في ردود فعل هؤلاء الجنود، فخلال لقطات تعرض اشتباكاً مسلحاً بينهم وبين عناصر من طالبان، يُطلق الفرنسيون الرصاص الحي باتجاه القرية التي يُفترض فيها وجود هذه العناصر المعادية لهم، فيقول أحد الجنود الفرنسيين، هل ترون أحداً؟ فيجيب من يطلق النار لا ولكن كأنني ألاحظ شيئاً يتحرك. إذاً مجرد تحرك هدف ما دون تحديد هويته يكون هذا الهدف عرضة لإطلاق النار. ويعلق الجندي الفرنسي صراحة على هذه التجربة بالقول إن (إطلاق النار يمنحنا الأمان رغم عدم وضوح الهدف وتمييزه). هي جملة تتضمن الكثير من المواقف، إذ يبدو أن إطلاق النار لا يهدف إلى تحرير السكان المحليين من عناصر طالبان المُستبِدة، وإنما يعبر عن رغبة الذات في البقاء على قيد الحياة محاولةً التخلص من الآخر - بأية وسيلة كانت - لأنه يهدد وجودها. في سياق هذه العملية العسكرية، تأتي طائرة أمريكية لتساند الجنود الفرنسيين، وبطبيعة الحال تكون المساندة، كما يعرضها فيديو الجندي، عبر إلقاء قنابل على المنطقة التي يتواجد فيها عناصر مفترضين من طالبان. لقد أدهش منظر إلقاء عدداً كبيراً من القنابل هؤلاء الجنود لدرجة أخذوا يعلقون على هول هذا المنظر بالقول: (لم يعد هناك من قرية، لقد تحولت إلى حطام، والناس تحولوا إلى لحم شواء). ويعقب الجندي الفرنسي، بعد ذلك، كان المنظر مميزاً، فريداً من نوعه، هو لا يشبه الألعاب النارية، فمشهد النار والدخان مترافقان مع أصوات القنابل ورائحة الموت التي تصبغ وجود طالبان بعدم أبدي يحدث مرة واحدة، وليس متاحاً مشاهدته مرة أخرى. إذاً الخوف هو من يدفع هؤلاء الجنود لإطلاق الرصاص، والرغبة بالبقاء على قيد الحياة تدفعهم للبحث عن حريتهم قبل حرية السكان المحليين، حرية احتفظوا بها بفضل قنابل الطائرة الأمريكية.
ثانياً: يعلق الجندي الفرنسي على لقطات لجنود فرنسيين وأفغان يقومون بجولة استطلاعية في الجبال بالقول، (لم نستطع بناء الثقة بيننا، لا بل إن الثقة معدومة لأن الجنود الفرنسيين يخشون من انتماء أحدٍ من هؤلاء الجنود الأفغان خفيةً لحركة طالبان). الخوف نابعٌ إذاً من أن يقوم هذا المتخفي بقتل الجنود الفرنسيين بحجة إطلاق الرصاص بطريق الخطأ. في الواقع، يعبر خوف الجندي الفرنسي عن موقف معظم الغرب تجاه شعوب العالم الثالث، إذ تُعتبر هذه الشعوب كريمة وعاطفية ولكنها جاهلة، والغرب وُجد من أجل تلقينها طرق الديمقراطية وأهمية التعايش بسلام مع الآخر، مع الإقرار بصعوبة المهمة وذلك للفارق الحضاري بينهم. إن التدخل العسكري لا يبني ثقة بين دعاة الديمقراطية وبين الشعب المستَغل، إذ تستمر النظرة الدونية مكرسةً فكرة المركز والأطراف. هناك صعوبة في بناء الثقة عن طريق التدخل العسكري، لأن هذا التدخل يقوم على فرض الرأي وتقييد حرية الموضوع انتصاراً للذات التي تزهو بمركزيتها وتفوقها على مر العصور.
ثالثاً: يَعرض الجندي الفرنسي لقطات لجولة روتينية يقوم بها الجنود في بعض أحياء قرى أفغانستان. يحاول الجنود الفرنسيون التقاط بعض الصور مع أطفال الحي، ومع تردد هؤلاء في الاقتراب منهم يعلق الجندي قائلاً :( من الصعب التقرب من طفل وأنت تحمل السلاح، ومن الصعب رسم الابتسامات على وجوه غريبة عن أهل القرية. فكيف يمكن لك التقرب من طفل وسلاحك في وضع الاستعداد لإطلاق الرصاص الحي نحو أي هدف مشكوك في أمره). في الواقع، إن السكان يعلمون أن حضور التدخل العسكري في قريتهم هو حضور من أجل التخلص من احد طرفي النزاع وإجباره على العبور إلى عدم أبدي. فالقرويون يجدون أنفسهم، بالنتيجة، بين آخرين اثنين: أحدهما يمثل جماعة طالبان التي تهدد السكان المحليين وتقتل من يتعامل مع القوات الأجنبية، والثاني هو الآخر الأجنبي الذي يصادر حرية القرويين عبر فرض النصائح وضرورة إتباع تعليمات المركز الذي هو أكثر خبرةً ومعرفةً وأعرق تاريخاً وثقافةً. فهؤلاء الأطفال ينتمون لفئة تخشى على أناها المهددة من طرفيين متصارعين يجسدان معاً الآخر.
رابعاً: ختم الجندي الفرنسي فيلمه الوثائقي بجملة خلطت المعايير وجسدت زئبقية قواعد القاتل والمقتول محولةً القاتل إلى ضحية والضحية الأفغانية إلى مجرد موضوعٍ يُناقش في مقاهينا، فقد قال: ( لقد أطلقت النار باتجاه أهداف خلال ستة أشهر، لا أعرف إن أصبت أحداً أو إن قتلت فرداً أو أفراد، ولا أريد ولا أتمنى أن أعرف). هنا تتلون المعايير لدرجة تجعل من الصعب تحديد من هو القاتل ومن هو الضحية، فهل هذا الجندي ضحية سياسة دول الغرب؟ أم هو إمكانية قاتل؟ أم هو فرد حريص على ذاته من عدم يلوح في الأفق في كل لحظة؟ إن هذا الالتباس نابعٌ من ضبابية قضية التدخل الخارجي وما يتولد عنها من نتائج نسبية في ثمارها السلبية والايجابية بالنسبة للسكان المحليين وبالنسبة للأجنبي أيضاً.
انتهى العرض الوثائقي لجزء من يوميات هذا الجندي الفرنسي ولكن ما تزال قضية التدخل الخارجي تثير الكثير من النقاش بين مؤيد ومعارض، بين متشائم بأن التخلص من قيود الاستبداد ومن استمرارية الحاكم العربي لسنوات في عرشه لا يتم إلا عبر تدخل دول المركز. مع العلم المُسبق بأن هذه الدول كانت قد أيدت هذا الحاكم أو ذاك وساندت بقائه رغم نظامه الدكتاتوري، فتبدو دول المركز وكأنها تمتلك القدرة على تعيين أو إقالة حكام دول الأطراف. في حين يرفض آخرون هذا الرأي قائلين بأن العاقل يكتسب خبرة ومعرفة محاولاً عدم الوقوع في أخطاء الماضي، فالاعتماد على دول المركز هو خيانة للشعب وخنوع مرة أخرى لمطالب هذا الغرب ولمصالحه التي لا تستقيم غالباً مع مصالح ومصير الشعوب العربية. في واقع الأمر إن إرادة التحرر من استبداد الحاكم لا يجب أن تقود الشعوب إلى الارتهان لاستبداد من نوعٍ أخر يبدو في ظاهره معاصر، مؤنسن، يدعو لتطبيق الديمقراطية ولاحترام الإنسان والبيئة والحيوان، ولكن في جوهره – وبوصفه نابع من حضارة الآخر، حضارة تسعى اقتصادياً لتحقيق مصالح شعبها قبل الاهتمام بمصالح الشعوب الأخرى - استبداداً يتضمن الأوامر والإملاءات وفرض سياسة تنسجم مع رؤية ضيقة للأشياء.
في النهاية يمكن القول: ربما تكون الحالة الأفغانية حالة خاصة لها ظروفها وشروطها المختلفة عن الدول الأخرى، لكن قراءة العلاقة المعقدة بين الذات والآخر، وكيف يتحول المواطن الأفغاني لموضوع مرتبط بما يراه الآخر صحيحاً، ومقيداً بالحرية التي يوفرها له هذا الآخر، تعكس أحياناً وضع مجتمعات أخرى في طريقها للولوج في هذه العلاقة المعقدة. ما نريد قوله بمعنى ما هو: إن فضل طائرات الناتو في انتصار ثوار ليبيا على مستبد استمر في حكمه أربعة عقود لا يخفي حقيقة أن الغرب قد انتهز هذه الفرصة لعقد طائفة من الصفقات الاقتصادية مبدلاً استبداد هذا الحاكم باستبداد شركات عابرة للقارات، تلك التي ستجسد الآخر بامتياز عبر منتجاتها واستغلالها لذوات الشعب الليبي، ربما لعدة عقود أخر.
1- infrarouge, « c’est pas le pied la guerre », http://tvnews.over-blog.com/article-bientot-sur-france-2-documentaire-exceptionnel-c-est-pas-le-pied-la-guerre-83337760.html.
ماهر اختيار








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحدي اللهجة السودانية والسعودية مع اوسا وفهد سال ??????????


.. جديد.. رغدة تتحدث عن علاقتها برضا الوهابي ????




.. الصفدي: لن نكون ساحة للصراع بين إيران وإسرائيل.. لماذا الإصر


.. فرصة أخيرة قبل اجتياح رفح.. إسرائيل تبلغ مصر حول صفقة مع حما




.. لبنان..سباق بين التهدئة والتصعيد ووزير الخارجية الفرنسي يبحث