الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإصلاح يبدأ من نزع القداسة

محمد عبد المجيد
صحفي/كاتب

(Mohammad Abdelmaguid)

2011 / 10 / 13
حقوق الانسان


عندما نحاولُ الغوصَ في أسبابِ أكثر الخلافاتِ المذهبيةِ والمعتقدات الدينية وتوجّهات الأحزاب وصراع أفراد، ثم ندلف إلىَ عالــَم الكراهية والبغضاء والنزاعات، ومن ثم نتسلل إلىَ أعماق النفوس والقلوب والصدور في محاولة للإطـّلاع علىَ المشهد الداخلي للإنسان فلا ريب في أننا سنعثر علىَ تراكماتٍ لا نهائية من التأليه والتقديس.
القداسةُ هي رفع شخص إلىَ مرتبةٍ تجعله أعلىَ وأرفع وأسمىَ مما هو في حقيقته.
إخفاءٌ تام لكل صور الضعف والوهن والعجز، لهذا كان عجباً في نظر مُشركي قريش أن يرسل اللهُ، عز وجل، رجلا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.
عندما يغترب المرءُ ردحاً طويلا من الزمن يبدأ في صناعة ماضيه، فيحذف منه ويضيف إليه ويتلاعب بذاكرته عن غير وعيٍّ منه، وفي النهاية ينتهي من رسم لوحةٍ لماضيه، طفولته وشبابه، ليست مطابقة تماما للصورة الحقيقيـة، وفور وصول المغترب إلى مرحلة تصديق ماضٍ من صُـنع خياله يصبح على استعداد أن ينافح عنه بكل ما أوتي من قوة.
هناك حالة مشابهة رغم أنها معاكسة تماما وهي تلك التي يقوم آخرون فيها بصناعة ماضي الغير، حذفاً وإضافة ورتقاً وتزييناً وتلويناً رغم أن الفارق الزمنيَّ والمكانيَّ قد يكون عقوداً و .. قروناً.
المجهول هو القوة الدافعة لصناعة القداسة، والإنسان مولع بالبطل المصنوع من قوىَ خيالية أو دينية أو وطنية أو خرافية بحيث يصعب التحقق من صحة مواصفات بطلـِنا!
لو أنك كنت تقيم في الصين الشعبية إبان الثورة الثقافية وقلت لأحد بأن ماوتسي تونج رجل فيه من الضعف والقوة ما يماثل غيره، بل إنه كان يتحرش بالفتيات الصغيرات، وهو كغيره يتألم، ويتلوّع، ويطارد الأرَقُ جفونــَه، ويصيبه إسهالٌ وإمساكٌ، وربما نوبات من البكاء لا يعلم عنها أحد شيئاً.
لو همست بهذا لكانت رصاصة شيوعية أصابت مـَقـْدَمَ رأسك كما كانت تصيب الأسرى الفيتناميين رصاصات سايجونية خلال حرب اليانكي ضد الفقراء الصُفر المدافعين عن وطنهم الأحمر في هانوي.
إذا ارتدى مخبول ملابس رثة، وأطلق لحيته، وحمل بخوراً، وجلس في أرض جدباء خربة بالقرب من ضواحي مدينة كلـْكـُتـّا الهندية، ثم زعم أنه آخر أنبياء الهند فسيبصق عليه الناس في اليوم الأول، ويؤمن به ثلاثة في الأسبوع الرابع، ويصبحون ثلاثين في بداية العام التالي، وبعد عشرين عاما من الصمود وتحمـّل التهكم والصبر على السخرية تعلن الحكومة البريطانية أنها بصدد الموافقة على السماح ببناء معبد في برايتون لتلك الطائفة المضطهـَدة في الهند.
يمكنك أن تطلق شائعة عن فقيه من نسج خيالك يدعى، مثلا، " الهيثم بن البحر" كان يعيش في اليمن، وكان إذا قرأ القرآن الكريم سمع حفيف أوراق الكتابة فيفهم أن سبعين ألفا من الملائكة يكتبون حسناته بسرعة الصوت.
إذا قصصت هذه الحكاية على أشخاص مختلفين عدة مرات في أوقات مختلفة وأماكن متعددة فإنني على يقين من أنك ستقرأ الحكاية بعد عشرين عاماً في كتاب موثـَّق بقلم كاتب مشهود له بالتدقيق والتصحيح والمراجعة، وسيؤكد لك يوم مولد ووفاة " الهيثم بن البحر" الذي اخترعته قريحتك في جلسة مزاج عال.
ما نفرت في حياتي بعد نفوري من الطغاة كما أفعل مع القداسة.
الاحترام والتقدير والمحبة والإعجاب كلها مشاعر تظل في إطار الحس الإنساني الذي لا غبار عليه، أما تنزيه شخص ووضعه في دائرة المعصومين، ثم إحاطته بهالة من القداسة فإن نفسي تشمئز من تلك العلاقة المريضة بين الاستعلاء المصطنع و .. الدونية الموهومة.

تاريخنا كلـُّه مليءٌ بشخصياتٍ خرافيةٍ ألـَّهناها، وعملقناها، ورفعناها فوق رؤوسـِنا، ثم صدَّقنا ما وضعناه على ألسنتــِها!
قابلتُ كثيراً من الحاصلين علىَ أعلىَ الدرجات العلمية لكنهم يتلذذون بمشاعر الدونية نحو شخصيات تاريخية أو دينية أو وطنية كما يشعر الجندي الريفي في أول أيام الخدمة العسكرية وهو يقف أمام قائد المعسكر!
عندما يقف شيخٌ أو قـِسٌّ أو حاخام أمام المؤمنين فإنَّ رهبةَ المجهول في الدين تسري بسرعةٍ عجيبةٍ من المنبر إلىَ فؤاد المتلقي ويبدو كأنه تنويمٌ مغناطيسي، ونفس الأمر ينسحب علىَ العلاقة مع الحاكم أو الزعيم أو الديكتاتور، فسكانُ أديس أبابا كانوا يظنون أنَّ الإمبراطور هيلاسلاسي يراقب أحلامــَهم، وكوابيسـَهم، ويعرف ما يـُخفون في صدورِهم، لذا غاب عن الاثيوبيين أن إمبراطورَهم مشكوك في قدرته على القراءة والكتابة!
هذه الشخصيات التاريخية والوطنية والزعامات الدينية تقوم في حياتـِها ومماتـِها بالسيطرة على عقولـِنا وقلوبـِنا، أو بالأحرى نمنحها نحن مُقًدراتنا!
لو يعلم أيُّ عاقلٍ أنَّ الثقوبَ في الثوب المـُقـَدّس أكثر من المساحات السليمة لنفـَضَ عن نفسـِه عبادةَ الأشخاص.
يتملـَّكني غضبٌ شديدٌ مـَشوبٌ باشفاقٍ عندما أرى الإنسانَ الذي خلقه اللهُ، ونعَّـمـَه، وكـَرَّمَه، ونفخ فيه من روحـِه وقد تحوَّل إلىَ حشرةٍ أو أدنىَ. يــُقــَبـِّل أيدي المـُلوك والشيوخ والعلماء،يطيع رجالا لو رآهم في لحظات ضعفهم للطم وجهه على ما فرط في كرامته وإنسانيته.
يستشهد بآراءٍ وأفكارٍ وحكاياتٍ نقلها له عنعنيون فظن أنها قبسٌ من نور الذِكـْر الحكيم أو تنزيلٌ من التنزيل.
يأكل الدودُ صاحبــَنا الذي لا نعرف عنه إلا القليل، وبعد مئات الأعوام نكاد نركع أمام أقوالـِه، ونتقاتل لنثبت صحتـَها، ونقاتل من يشكك في أي حرفٍ منها.
كلهم رجالٌ مثلــُنا، منهم من مات وشبع موتاً، ومنهم من لم يأخذ حفـَّارُ القبور أجراً علىَ دفنــِه بعد.
لا غضاضة أو اعتراض أو عــِتاب في أن نحترم شيخَ الأزهر وبابا الكنيسة القبطية وبابا الفاتيكان وآيات الله في قُم والنجف وكربلاء وحاخام اليهود وزعماء الدروز والبهائيين والبابيين والأحمديين والسيخ والهندوس والبوذيين .
وجميل أن تكون حريصاً علىَ آراءٍ وأفكار وأعمال ومؤلـَّفات وتراث دين أو معتقد أو مذهب أو زعيم وطني أو قائد ثورة ثقافية أو شيوعية أو مُحرِّر أمة من سيمون بوليفار إلى بسمارك، ومن أتاتورك إلى محمد علي، ومن مارتن لوثر كينج إلى جيفارا، ومن الأئمة الأربعة إلى القدّيسين وكهنة الأديرة ومُفسـّري الكــُتـُب المقدسة والوضعية.
لكن كل الذين نتمنى أنهم من تـُراب الأرض جاءوا وإلى تراب الأرض ودودِه عادوا ينبغي أن يظلوا في دائرة إنسانية بكل ضعفها وقوتها، فقد كانوا يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ويمرضون، ويقضون حاجتهم، وتنبعث منهم روائح كريهة، ويُصابون بالضعف النفسي والجنسي والشره والتخمة والإدمان و .. الزهايمار، ويتلعثمون، وتهاجمهم كوابيس، ويجهشون بالبكاء في الخلوة.
عندما ينصحك المتلذذون بالدونيــّة بطاعة وليّ الأمر مهما كان ظالماً وشريراً ومستبداً فلا تنصت إليهم، فأولو الأمر أيضا أناسٌ ليسوا أعلىَ من أدنانا، أو أقوىَ من أضعفـِنا، أو أذكى من أغبانا!
طريقُ الإصلاح يبدأ من هنا .. من حيث نزع القداسة عن أيّ إنسان ما لم نؤمن أنَّ اللهَ أوحىَ إليه، أو اصطفاه، أو كـَلــَّمـَه، أو نـَزَّل عليه الروحَ الأمين.
عندما تنتقد، وتـُشكـّك، وتتفحص، وتغوص في الأعماق، وتقرأ ما وراء السطور، وتقف على قـَدَم المساواة الإنسانية مع أي شخص في الدنيا فأنت على الصراط المستقيم.
كبارُنا صغارٌ، وعلماؤنا خلقـَهم اللهُ ضــِعافاً، وزعماؤنا التاريخيون أو الذين لم يقم مــَلــَكُ الموت بزيارتـِهم بـَعْدُ لو اطـَّلعتَ عليهم بين جدرانٍ أربعة لبكيتَ على كل لحظة خفضت رأسـَك أمامهم، حُضورا أو غياباً!
حديثي هذا لا ينتقص قيدَ شعرة من أي صورة من صور الاحترام، لكنه دعوةٌ لإعادة تحطيم الأصنام التي في الصدور.

محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 13 أكتوبر 2011
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - القداسة
alexparis59 ( 2011 / 10 / 14 - 08:34 )

دعوة رائعة ياليت مقبلي أيدي الشيوخ والقساوسة وزعماء الأخوان يفهمونها، لقد صادفت هذه القداسة ذات مرة كرهت فيها الشخص الذي دفع الناس لتقديسه عندما كنت طالبة في الجامعة أثناء حرب الاستنزاف وتطوعت في فصائل خدمة الجبهة ضمن مجموعة من طالبات الجامعة أثناء حكم عبد الناصر ولم أكن أعرف أن المجموعة كلها تنتمي للتنظيم الطليعي الذي جعل الشباب الجامعي جواسيس على مجتمعهم وأصدقائهم وحتى أسرهم حماية لكرسي العرش ذي اللصقة الشهيرة التي تعلق بكل من يجلس عليه ولو مؤقتا. المهم ذات يوم أخذني الحوار مع إحدى الزميلات لأسألها لماذا تقدس عبد الناصر بهذا الشكل؟ هل تعرف ماذا كانت إجابتها؟ كانت بالحرف-عبد الناصر صنع القومية العربية، النبي محمد عمل إيه-!!!!!! من يومها كرهت عبد الناصر الذي جعل الشباب يضعه فوق نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، هذا هو التقديس العفن الذي يدفع الناس إلى الكفر بكل مقدس حقيقي ويضع مكان المخ بعض المهلبية


2 - هل حقاً نفهم ما نقرأ ؟
سامى غطاس ( 2011 / 10 / 14 - 10:27 )
استاذى الفاضل
أتفق مع سيادتك تماماً إن سيطرة المٌقدس على حياتنا بشكل مضحِك الى حد البكاء أدت تلقائياً الى إلغاء نعمه العقل التى وهبنا الله إياها . و الأخت المٌعلقة رقم 1 فى رأيي هى خير دليل على الحالة المٌزرية التى وصلنا اليها نحن الناطقين باللغة العربية . فبعد قراءتها لكلماتك افاضت علينا مشكورهة بإنها كرهت عبد الناصر لإنها رأت إن احد اصدقاءها قدسه أكثر من رسول الإسلام ..... و سوألى للأستاذ محمد عبد المجيد
هل فهمت الاٌخت المٌعلقة كلمات مقالك ؟ و هل نقرأ نحن العرب ؟ وإذ قرأنا هل نفهم ما نقرأ ؟
مع الأسف أشٌك ى ذك
رغم تشاؤمى من إمكانية عودة العقل الينا نحن العرب , فليس هناك مفر من الإستمرار.
لك منى كل التحة على مجهودك الكبير.


3 - عبد الناصر والقداسة
محمد عبد المجيد ( 2011 / 10 / 14 - 12:11 )
أخي الأستاذ سامي غطاس
دعني أولا أشكرك على اهتمامــِك الكريم بكتاباتي ، متمنياً أن أكون دائما عند حــُسن ظنك

الكتابة لها ألف مدخل، والقراءة لها آلاف المداخل، والإنسان يقرأ تجاربه، أو يحاول إيصال رسالته حتى لو بدت للآخرين بأنها تناقضات بين القاريء والكاتب

ردود الأخت المعلقة رقم 1 تأتي في غالب الأحوال متطابقة تماما مع الموضوع، بل ومضيفة إليه ما فاتني، ولكن ليس المطلوب من القاريء أن يكون نسخة كربونية من الكاتب
أتفق معك بأن القداسة التي أعنيها هي التأثير الحاضر أو الغائب على المؤثــَّر عليه، خاصة في مجال كهنوتية الفكر الديني ، ولا مانع من طغاة سحروا أعين الناس فاسترهبوها، مثل ستالين وهتلر
أما المثل الذي ضربـَته وهي الكراهية لعبد الناصر لأن زميلة كانت تـُقـَدِّسه فقد كان بعيدا بعض الشيء رغم تجاربي الجيدة جدا مع ردودها
وتقبل محبتي، والله يرعاك
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو


4 - فاااااااااااااااق بين القداسة والاحترام
mostafa ( 2011 / 10 / 14 - 21:38 )
بالنسبة لعلماء الدين فقط مطلوب من كل متحدث ان يملك قدر علمهم ودراستهم ولسوف يفرض نفسه علينا فلا يناقش علماء الهندسة والطب الامثلهم كذالك الدين واللغة لايتحدث فيهما الامن درس وسهر الليلي وانحنت لعلمه هامات الرجال فضلا عن تقواه وورعه وصدق حديثه ان الله يحب فلان فاحبوه ويوضع له القبول في الارض ولا تقديس في الاسلام انما احترام


5 - القداسة
alexparis59 ( 2011 / 10 / 15 - 05:51 )

الأخ رقم 2، بعد التحية ، أشكرك على منح بعض الاهتمام لتعليقي على مقال القدسة وما تكلفه وقتك في الرد عليه ولكنك للأسف لم تقرأه جيدا بشكل يمكنك من فهمه وأعتقد أن كل ما أثارك في كلماتي هو عبارة -كرهت عبد الناصر الذي جعل الشباب يضعه فوق نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام- واتهمتني بأني لا أفهم ما أقرأه ولو تمعنت قليلا في تعليقي لفهمت أني أرد على عبارة جاءت في المقال الأصلي وهي
--الاحترام والتقدير والمحبة والإعجاب كلها مشاعر تظل في إطار الحس الإنساني الذي لا غبار عليه، أما تنزيه شخص ووضعه في دائرة المعصومين، ثم إحاطته بهالة من القداسة فإن نفسي تشمئز من تلك العلاقة المريضة بين الاستعلاء المصطنع و .. الدونية الموهومة--
وهذا ما قصدت التعليق عليه مشيرة لأن هذا الاشمئزاز هو الذي يولد لديك مشاعر الكراهية... ولو تمعنت في قراءة تعليقي أكثر لفهمت أني أتحدث عن مشاعر فتاة في بداية دراستها الجامعية واجهت ليس فقط تنزيه شخص لشخص ولكنها واجهت إحاطة شخص لنفسه بقداسة سرقها ممن يستحقها ونسبها لنفسه وأجبر شبابا غضا على الإيمان بذلك وفهمت ذلك رغم حداثة سنها وتخلف عصرها مقارنة بحاضرنا

اخر الافلام

.. اللاجئون السوريون -يواجهون- أردوغان! | #التاسعة


.. الاعتداءات على اللاجئين السوريين في قيصري بتركيا .. لماذا ال




.. الاعتداءات على اللاجئين السوريين في قيصري بتركيا .. لماذا ال


.. الحكم بالإعدام على الناشطة الإيرانية شريفة محمدي بتهمة الخيا




.. طفل يخترق الحكومة التركية ويسرب وثائق وجوازات سفر ملايين الس