الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كريم المضمد ( قصة قصيرة )

علي فاهم

2011 / 10 / 15
الادب والفن


كريم المضمد ( قصة قصيرة )
سمرة وجهه أعطت للحيته البيضاء بهاءاً و وقاراً , و هدوئه و سكونه فرض أحترامهُ و تقديرهُ و محبته عند كل من يعرفه و لكن تردي حالته الصحية مؤخراً جعلت مدير المستشفى يفرغه لتصليح مبردات المستشفى و أدامتها قبل دخول موسم الصيف الملتهب على مدينة البصرة , رغم أنه كان من أفضل من يجيد زرق الإبر في التنومة كلها, ولهذا كان يلجأ الى بيته كل من يحتاج زرقة إبرة بلا ألم فلا يوجد من يستطيع منافسة (كريم المضمد) مهنته الفريدة , و لكن لم يمر في بال (كريم) أن تجلب هذه المهنة عليه أصعب ما مر به في حياته ,
الحاج (كريم مهدي شويل ) المعروف في التنومة بكريم المضمد كان قد دخل عقده الخامس في بداية ثمانينات القرن الماضي , في تلك السنوات النازفة بالضحايا و الأجواء فيها مشحونة بالخوف و الرعب , وسط رائحة النخيل المحترق و جذوعه التي عرتها شضايا القنابل كانت مدينة التنومة تسهر على خط الحرب المشتعلة على الحدود القريبة منها , تلك الحرب التي كانت تلتهم الرجال و تهجر العوائل من بيوتها أحالة العراق الى معسكر كبير و حولت البصرة الى ثكنة عسكرية و أستبدلت الوان احلامها الى لون الخاكي و الزيتوني و باتت ميناء يفرغ به أجساد الشباب و تشحن منه جثث القتلى من و الى الحدود الشرقية , اما في داخل مدنها و قراها فكان الخوف يعشعش في البيوت و ينمو كالبردي في اهوارها , كانت مديريات الامن طواحين الموت تلتهم الرجال بسبب و بدونه , و من أشدها قسوة هي مديرية أمن التنومة , عصابة من الجهلة عرفوا بأخلاقهم المنحطة و قسوتهم المفرطة يأتمرون بأوامر ملازم ( محمد ) ينفذون له كل ما يطلب و أكثر, فأي أسم يذكره لهم ملازم محمد (جيبولي ...... ) سرعان ما (ينسحل ) و يحضر بين يديه و لكنه يكون قد تعرض لموجة تسونامي من الضرب المبرح و بشكل قد يصل الشخص سيء الحظ الى حافة الموت قبل الدخول الى غرفة مدير الأمن ليكون التحقيق معه أيسر و أسهل و ليوقع على أعترافاته دون ان يقرئها ليسير بعدها الى حتفه ,
كان كريم المضمد من النوع الذي يتجنب أن يمشي في الشارع الذي تقع فيه دائرة الأمن أو مركز الشرطة أو الفرقة الحزبية , أقنع نفسه بأنه لاعلاقة له بما يحدث فهو في أمان مادام شعاره في الحياة (للحيطان أذان ) , فكان يتجنب أي حديث عن السياسة أو عن أوضاع الناس, يذهب في دربه و يعود في نفس الدرب دون أن يلتفت الى أي حديث أو حادثة وكأنه يعيش وحده فكان يعيش الخوف و ترتجف فرائصه كلما سمع أن فلاناُ أخذه الأمن و يستمع كيف أخذوه من بيته و أشبعوه ضرباً بلا رحمة و أنهم بعد أيام جاءوا الى بيت أهله و أخبروهم بأنه تم إعدام ابنهم الخائن و يطالبوهم بثمن الاطلاقات التي استقرت في جسده و أنهم إذا ما سمعوا من بيتهم بُكاء زوجته أو أنين أبنته أو حنين أمه أو أهات أبيه فإنهم سيأخذون العائلة كلها الى مديرية الأمن ....
كان يصفر لونه و هو يسمع هذه القصص المروعة التي تتكرر في كل يوم و كانت المدينة كلها تعيش في رعب حقيقي من أفعال ملازم محمد مدير الأمن و عصابته ,
و في أحد الأيام تعرض والد هذا الملازم لوعكة صحية فأخذه الى مستشفى التنومة و سارع الأطباء في الكشف عنه و فحصه و الاعتناء به كيف لا و هو والد مدير الامن ملازم محمد , و كانت حالته بسيطة و لكنه يحتاج الى دورة من الإبر و التي تبقيه في المستشفى يومين و لان ملازم محمد كان مشغولاً جداً هذه الايام فلم يستطيع أن يبقي والده في المستشفى و فكر في أن يجلب له من يزرقه الإبرة في البيت , و من لها غير كريم المضمد , في صباح اليوم التالي دخل ملازم محمد مكتبه و أول شيء فكر فيه هو أن يجلب كريم المضمد ليزرق أباه الإبرة لان موعدها في الصبح فصاح على الحرس الواقف في الباب أن يستدعي له (الاولاد ) و هو لقب كان يطلقه على عصابته التي كانت مهمتها جلب الأشخاص المشتبه بهم إليه ,
- نعم سيدي .. أتأمر بشيء ..؟
- جيبولي كريم المضمد من المستشفى .. بسرعة .
- حاضر سيدي تأمر ..
... كان كريم كعادته كل يوم تراه بقميصه الأبيض و و بنطلونه الرمادي العريض و تلك الكوفية البيضاء التي اعتاد ان يلف بها رأسه بطريقته المميزة منهمكاً مع أحدى مبردات المستشفى يحاول أعادتها الى الحياة ,
لم يكن بينه و بين حلول الصاعقة على رأسه الا عندما قال (نعم) على سؤال أحدهم : هل أنت كريم المضمد ؟
لم يستطع أن يفيق من الصدمة الا و هو مرمي في ممر مديرية أمن التنومة كان يحاول بلا جدوى أن يوقف تدفق الدماء من أنفه بواسطة الكوفية التي تحول لونها الى الأحمر و بدأ لتوه بالشعور بالألم يسري في جسمه و في فكه الأعلى و عند تفحصه لإسنانه بلسانه الكبير كان هناك فراغاً كبيراً في مقدمة أسنانه لثلاثةٍ أو أربعةِ أسنان تذكر أنه فقدهما عندما لكمه أحد اولئك الرجال جواباً على سؤاله : ماذا تريدون مني ؟
و قد فقد على أثرها الوعي و لم يعلم بالذي جرى بعدها إلا و هو في هذا الممر المظلم الذي تفوح منه رائحة الرطوبة و عندها بصق كريم كتلة من الدم من فمه على الارض فتفجر في رأسه بركان من الألم , كل جسمه يؤلمه لا توجد خلية في جسمه لا تؤلمه , يا الله ماذا فعلوا بي هولاء السفلة ؟
صدره يؤلمه و ذراعيه و ظهره و قدميه , الدماء تسيل من أنفه و فمه , قميصه الأبيض أصطبغ باللون الأحمر القاني و هو ممزق على جسمه لأكثر من قطعة , حاول تعديل جلسته و الاتكاء على الجدار زحف الى الخلف قليلاً على مؤخرته التي كانت تؤلمه بشكل غريب تذكر كيف إن أحد الرجال كان الوحيد الذي يرتدي الزيتوني و يلبس في قدميه بسطال أسود كان ينتهز كل فرصة ليضربه على مؤخرته , و كأنه مختص في هذا النوع من الضرب الذي يجيده بشكل كبير , حاول أن يستعيد شتات تفكيره لماذا جلبوه الى مديرية الامن مالذي فعله ؟ ... أنه لم يفعل شيئاً يستحق كل هذا ... لابد من وجود خطأ في الموضوع .. و لكن هولاء لا يخطئون .. أيكونوا علموا بموضوع أبن عم فوزية ؟
ستقضي هذه المرأة على حياتي بسبب أبن عمها الذي أعدم لأنه منتمي لحزب الدعوة , ستلاحقني هذه اللعنة و الى ابنائي أبد الابدين أقسم باني ان خرجت حياً من هنا سأطلق فوزية و عشيرتها , أه , أه بدء يراوح في جلسته على الجانب الأخر , أه , و لكن لا أضن أنهم يعلمون بأمر إبن عمها فهو يعيش في بغداد و اعدم قبل عام و أنتهت قصته .
أذن مالذي فعلته و لا ادري ؟؟
كان يمكن للخطأ الذي حدث أثناء جلب كريم الى مديرية الامن أن يصحح بمجرد دخوله على ملازم محمد و سيرضى باعتذار بسيط منه عما بدر من شرطة الامن و سيقبل بسقوط أربعة من أسنانه , فدوة لأبو محمد , و ينتهي كل الالم بمجرد ان يقال له أذهب الى بيتك .. فبقائه على قيد الحياة هي حياة جديدة كتبت له , و لكن شاءت الاقدار أن يستدعى ملازم محمد الى مديرية الامن في المحافظة و بما أنه الوحيد الذي يعلم بسبب أستدعائه فقد عامله الجميع على أنه مذنب , لقد كان السياق المتبع في أمن التنومة أن من يلقى في الممر هو متهم لا يريد ان يعترف , لهذا فأنه يضرب من قبل كل من يمر به فأصبح كريم كانه كيس الملاكمة المرمي على مسطبة الحجر الوحيدة الموجودة في ذلك الممر الطويل الذي تطل عليه ابواب الغرف المغلقة و التي تفتح أبوابها بين الفينة و الأخرى و كأنها أبواب جهنم تخرج منها الشياطين لتذيق جسد كريم أشد أنواع العذاب و كل ألوان الركلات و اللكمات و تسقط على رأسه سيل العبارات البذيئة و الشتائم التي كان يتقزز عند سماعها من بعض الصبية في الشوارع ,
بينما هو ملقى و متكئ على الحائط جاءته لكمة قوية على عينه الصقت وجهه بالأرض مصحوبة بصراخ و زعيق و شتائم وضع كريم يده على عينه فكان الدم يغطيها رفع رأسه ليرى مصدر تلك اللكمة القوية فكان أمامه رجل ضخم الجثة يرتدي البدلة الزيتوني كان كرشه يتدلى أمامه و رأسه الكبير الخالي من الشعر الا قليلات أستقدمها من الجانب الأيسر على الجانب الأيمن و تلك الشوارب الكثيفة تنزل على فمه لتغطيه و عيناه الجاحضتان يتطاير منهما الشرر ,
.. شعندك هنا ولك ..؟ سؤال تمنى كريم أن يعرف أجابته و لكنه لم يحضى بفرصة الحصول على الاجابة فهو لا يعرف سبب أستدعائه الى هذا المكان , فكان جوابه .. ما أدري و الله ..
تقدم عليه ذلك الجسد الكبير و رفعه من قميصه الى أعلى المصطبة و أجلسه : أجلس فوق المصطبة و لا تنزل على الارض .. ماذا سيقول الناس علينا ؟ إن وجدتك على الأرض ستعرف ماذا سيحل بك .. و تركه و أنزوى في أحدى ابواب جهنم المقابلة له , لم تمر دقائق حتى خرج شيطان أخر من باب أخرى رأى كريم جالس على المصطبة الحجرية
- لماذا تجلس على المصطبة شنو عدنة مقهى .. حيوان .. أبن الـ ...... , حاول كريم و هو مازال يضع يده على عينه التي لم يعد يرى بها أن يفهمه أن أحدهم طلب منه الجلوس عليها و هو ذلك السمين الذي دخل في تلك الغرفة .. فانهالت عليه الشتائم و اللكمات و نالت من ذلك السمين الذي عرف أثناء سبه أنه يدعى (عباس الطرن ) و أن هناك مشكلة بينه و بين هذا الشخص الثاني الذي أمر كريم بأن ينزل على الارض و إذا وجده جالس على المصطبة سيشبعه ضرباً حتى يريه نجوم الظهيرة التي يسمع عنها ..
نفذ كريم الأمر بسرعة منسدلاً على الأرض لاعناً اليوم الذي ولدته أمه فيه ,,
لم تمر بضعة دقائق حتى عاد ( عباس الطرن ) ماراً بكريم المضمد فوجده جالساً على الأرض أنتفخت أوداجه و أحمر وجهه و لم يعطي لكريم فرصة توضيح الامر بل لكمه مرة أخرى على عينه المصابة ليعيد النزيف اليها و يسلبها حق الرؤيا حاول كريم أن يقول له أن الرجل الذي يسكن تلك الغرفة المكتوب عليها ( القلم ) هو من أمره بالجلوس على الأرض فكان هذا الكلام مدعاة الى أن يتلقى كريم المسكين سيل أخر من اللكمات و الكلمات البذيئة عرف منها أن ذلك الشخص الأخر يدعى ( جاسم الاكوع ) و هناك مشكلة بينهما كان ضحيتها كريم المضمد , الذي سلم أمره الى الله و تمنى أن يموت في تلك اللحظات التي عاد بها عباس الطرن اليه ليذيقه الوان العذاب و يرفعه الى اعلى المصطبة و يتركه جثة هامدة لا يرى الا نجوم الظهيرة التي وعدوه أن يراها, كان يريد أن يتقيء من شدة الالم عندما سمع صوت من داخل الغرفة التي بجانبه يذكر أسمه و هو يقول : هل جلبتم كريم المضمد ؟ ..
- نعم سيدي جلبناه .. و لكنه رغم التعذيب لم يعترف لحد الان .. و لكنه سيعترف أكيد عندما تستلمه انت سيدي ...
- ولكم يا أعتراف حيوانات ولد الكلب شسويتوا بالرجال ؟
- سيدي أنت كلت جيبوه ... يعني حاله حال البقية ...
- يا أغبياء .. يا قنادر .. يا ... دخلوه..
رفعه بضعة رجال من على الارض و أدخلوه الغرفة حاولوا أن يجعلوه واقفاً على قدميه بلا جدوى فسقط على الارض , أرتسمت على وجه ملازم محمد أبتسامة باهتة حاول فيها مجاملة كريم و التقليل من وقع الكارثة , نظر كريم بعينه الواحدة الى هذا الشخص ذو الجسم الضئيل و الوجه الأصفر منتظر منه أن يبدء بالكلام ليفهم الموضوع نظر الملازم الى رجاله و صرخ فيهم : ماذا فعلتم ..؟
حيوانات ... من قال لكم أن تضربوه هكذا .. بهت الرجال و أرتسمت علامات الاستفهام و الاستغراب على وجوههم .. ما الخطأ ؟ لم يعترض يوماً على ضربهم لاحد بل كان يوبخهم إن أخذتهم رحمة أو تهاونوا في ضرب أي شخص يجلبوه له ...
و لكنك أنت يا سيدي من طلب منا أن نجلبه لك .. و نحن جلبناه كالعادة ...
ما المشكلة ... ؟ حاول ملازم محمد وضع اللوم على رجاله و التخفيف من ثقل المشكلة فصرف رجاله و قال لكريم أنه سيجلب له طبيباً و عليه غسل الدم الذي يغطيه من أعلى رأسه الى أخمص قدميه و سيجلب له قميصاً أخر من مخلفات بعض السجناء الذين أعدموا ..
عرف كريم أن هناك خطأ في الموضوع و أنه لم يفعل ما يستوجب كل هذا الذي جرى عليه كما كان يضن . فسأل الملازم :
- مالذي فعلته لك ... لماذا فعلت بي كل هذا ؟
- صار غلط بالموضع أني ردت منك تضرب ابوي أبرة و ذولة الاغبياء ما افتهموا القصة و صار ما صار .
- يعني كل هذا الي صار علمود أبرة ؟
- اي و الله بس شسوي حظك هيج .
- طاح حظي .
- راح اخابر مدير المستشفى حتى ينطيك اجازة .
- لا .. لا تتعب نفسك أني اكلمه . . هسة وديني لأبوك حتى أضربه .. أبرة .
- خاف ما تكدر ؟
- لا أكدر .. عندي بقت عين أشوف بيهة .
و أخذه الملازم بسيارته الى بيته و هناك ضرب أبوه الابرة و قبل أن يخرج من بيته طلب منه ألا يخبر أحد بما جرى له و هدده أنه اذا سمع من أحد سبب ضربه و ماجرى عليه فسيجلبه الى مديرية الامن و يفعل به أكثر مما حصل له فقال كريم أنه سيقول لمن يسأله أنه تعرض الى التسليب من قبل عصابة من ابناء الشوارع .
و عندما رجع الى بيته لم يستطع الخروج الى الناس لأكثر من شهر , و التزم برواية عصابة التسليب و لكنها لم تنطلي على أحد و لم يصدقها كل من سمعها لانهم عرفوا أنه كان في مديرية الامن و لكنهم لم يعرفوا لماذا كان هناك إلا بعد عدة سنوات .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - قصة مؤثرة ولكنها غير واقعية وتقليد ةلحكايات س
زيد حمدون ( 2011 / 10 / 14 - 23:14 )
مع تقديري للكاتب فان القصة مكررة وبسيناريوهات مختلفة..لايمكن انكار قسوة رجال الامن في زمن صدام المقبور وهناك ايضا اناس خيريين ولازالت اغلب دول وحكومات منطقتنا كذلك مع فارق نسبي..واللوم الكبير كان يقع اولا على قوانين صدام الجائرة وعلى العملاء من وكلاء ومخبري الامن وعلى مستوياتهم المختلفة ..ولم نجد او نسمع ان ملازما له تلك الاوامر الجائرة والسلطة المطلقة كما ورد في الرواية .


2 - قصة واقعية
علي فاهم ( 2011 / 10 / 15 - 12:44 )
أخ زيد حمدون شكرا لمرورك و تعليقك عزيزي القصة مقتبسة عن قصة واقعية حدثت في بداية ثمانينات القرن الماضي و اغلب الاسماء هي حقيقية و منها اسم بطلها و اسم الملازم محمد و رتبته و تاثيره ,
و انا اتصور اننا يجب توثيق ما كان يحدث في ظل النظام الشوفيني البعثي حتى لا يحرف التاريخ و يصبح الجلاد ضحية .

اخر الافلام

.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند


.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في




.. حفيد طه حسين في حوار خاص يكشف أسرار جديدة في حياة عميد الأد


.. فنان إيطالي يقف دقيقة صمت خلال حفله دعما لفلسطين




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز -ديدي- جسدياً على صدي