الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بغداد .. سبية الصمت !

سهيل حيدر

2011 / 10 / 17
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


وأنا أتطلع الى جانبي الطريق .. لم أكن أصدق حينها بأنني على مشارف العاصمة بغداد ، حيث امتدت أمامي بيوت انعدمت فيها الالوان ، وبدت كمعسكرات ترتفع من أعالي سطوحها رايات سوداء وخضراء ، بدت على الكثير منها آثار تقلبات الطقس ، فصارت عبارة عن خرق ينثر الريح ذيول اطرافها الممزقة ، لتوحي الى جانب صور اولياء الله الملتصقة قسرا على الجدران ، تخيلات مما كان يجري في معركة الطف . . العسكر بكامل معداتهم القتالية يعترضون الطريق العام ويتوزعون على مسافات قصيرة جدا بين مجموعة واخرى ، يتابعون بنظراتهم المتعبة قوافل السيارات ، ومع كل مجموعة شخص يتحرك بخطى التدريب الميداني على المسير ، حاملا بيده جهاز للسونار باحثا من خلاله عن اي شيء قد يعكر الامن العام .
الصور المعلقة على أي شيء يصلح للعرض ، تجعل من اليسر جدا معرفة ميزان القوى في البلاد .. فهذا الذي تبدو صورته غالبة الظهور هو الحاكم الفعلي وهو المؤثر وهو المقرر في النهاية إن قدر للعبة السياسة ان تقترب من نهاياتها .. تقدم الباص مسرعا في لحظة ومتوقفا في لحظات ، غير أنني لا زلت وكأنني مقبل على زيارة بلد آخر غير العراق ، ومدينة اخرى غير عاصمته بغداد .. لم تصل لذهني ولا ذاكرتي أية ملامح من شأنها أن تعيد لي طرفا واحدا مما كنت التصق به واحفظه عن ظهر قلب .. أيمكن ان تتغير المدن وبهذه السرعة ؟ .. ترى كيف كان الحال عندما انطلقت بواكير ما يسمونه بالتحرير في عام 2003 ؟ .. أهكذا هي مقتضيات إزاحة صدام حسين وبناء نظام جديد ؟ .. أهكذا تفعل شرائع الاستهانة بوطن ما من قبل ابنائه حينما تطفو نزعات الطمع فوق كل شيء لتمحو ما أمامها من نزعات ؟ .. أية كذبة قميئة تلك التي يسمونها بالوطنيه ؟ .. وهل أكثر مما أراه الان من ركام وليس وطن ، ليصلح شهادة صادقة أمام أي قضاء منصف ، كي يثبت زيف ما سمعناه وتعلمناه من معاني قيل لنا بأنها ساميه ؟ .
لم تغادرني ملامح الخوف وأنا أدنو من عربة بائع متجول :
- من فضلك .. أنا في الباب الشرقي الآن .. ولكني فقدت ساحة التحرير ، هل لك ان تدلني عليها ؟ .
- إنها هناك ، أمامك ..
- آه .. نعم ، لقد لاح لي نصب الحريه .. اشكرك .
لم يكن النصب الذي انتزع من مصممه الخالد جواد سليم روحه قبل ان يرى حفل افتتاحه ، غير أن يكون شاهدا وحيدا على أن بغداد كانت هنا .. وقفت قبالة النصب أتحسس بنظري تفاصيله ، وثمة خرطوم حديدي يرتفع من مقدمة عربة آليه ، يمتطيه شخصان يحاولان الوصول الى لوحة النصب بهدف تنظيفه على ما يبدو .. حديقة ألأمه لا زالت تمتد تحت النصب ، وملامح الانكسار بادية عليها .. ثمة آليات عسكرية تتمركز في المكان ، وعدد من كاميرات التلفزيون توزعت في الساحة ، يحاول العاملون عليها اصطياد من يختارونه من المارة لاجراء حوار معهم كل في شأن ..
لم تستطع مخيلتي احتواء ذلك الارتداد العنيف نحو طيات الماضي البعيد ، يوم كانت ساحة التحرير منطلقا للفرح والحزن والثورة واشياء اخرى يجمعها كلها انفتاح في النفس وأمان من تقلبات المصير .. كنا في عهد مضى ، تنتهي بنا محافل عيش أوقات الفراغ الى هذه الساحة بعد أن تنزاح عنا رواسب التعب ، وتمضي من نفوسنا وأجسادنا تبعات التعاطي بالسياسة وكي نتخلص من آهات العشق الجميل .. شارع السعدون ، والذي كان يستقبل أول الغروب جحافل السمار لينفض بهم في أواخر الليل الى معاقلهم عبر ساحة التحرير ، وجدته خاويا يعمه صمت لم يعتد عليه .. فقد كان من قبل ينطق بكوكتيل صاخب من كافة انواع موسيقى وغناء العالم ، وتحتفل فيه كرات الفاكهة الملونة داخل زجاجات بيع العصير ، وتنتشر على أرصفته خرز وجرائد ومشبكات شعر الصبايا .. وجدته لا ينطق بغير الصمت ، ينام مبكرا حسب ما قاله لي بائع السندويج وأنا التمس منه بان يشبع رغبتي بمعرفة لحظة صحوة ذلك الشارع .

- أرجوك ان تخبرني أين تمثال السعدون ؟ .. سألت من شربت الشاي من عربته .
- سر في الشارع قدما وستعثر عليه .
لم تفارقني صورة أولياء الله في أي زاوية من زوايا الشارع .. إنهم يشيرون علي بان أكون حازما في مقايضة فرحي بحزن الفضاء المحيط ، ويدفعون بي الى حيث السعدون غائبا منذ أن شحذ اللصوص قواهم لسرقته وسرقة شارعه وتاريخه .. درت في مكاني لألمح جوانب التمثال الشاخص أمامي .. من هذا ياترى ؟ .. خفت للوهلة الاولى من أن تظهر شخصيتي على لوح متابعة استخبارتية تخيلتها تقوم بمتابعتي .. ولكنني لابد لي من التأكد :
- لطفا .. تمثال من هذا ؟ ..
- من أين انت يا أخ .
- أنا مهاجر قديم نسيت معالم البلد ..
- هذا تمثال السعدون .
- انه ليس السعدون الذي اعرفه ؟
- لا فرق .. لا فرق .. فالسعدون القديم اطول بقليل من هذا الذي تراه ، لا فرق
- واين ذهب التمثال القديم ؟ .
- لقد سرقوه .. سرقوه .. أفهمت ؟
- فهمت .
ليتني استطيع ان احضى بلحظات قليلة سيدي معالي رئيس الوزراء أجلس فيها الى جانبك قبل ان تطلق على جسدك رصاصة الرحمة احتجاجا على مناكفة الانكليز لشعبك وبلدك .. ليتني سيدي عبد المحسن السعدون ، وبقدرة قادر ، اتمكن من موقعي هذا أن اخبرك بان الشعب استهان بتمثالك وذكراك ليجعل من مادته خردة باعها في الاسواق .. لقد دمعت عينا جلالة الملك وانت تغادر آخر حفلة اقامها جلالته في قصره العامر حين علم منك بان الانكليز لا يريدون لحكومتك الموقره ان تستقر لتؤسس لأركان عراق يتمتع بشيء من السياده .. كنت سيدي رئيس الوزراء تحمل على اكتافك هموم شعب لا تدري بانه سيبيعك خردة في زمن يعقب موتك الابدي ، وأنا الان تفصلني عن موتك انتحارا عام 1929 حفنة من السنين لم تنل بلدك خلالها الراحه .. فسلام عليك وانت تشخص على بوابة حي البتاوين الذي احتضنك في رحم بغداد .. وسلام على السعدون شارعا سيغادر صمته يوما ولا محالة ، لينطق بالحب والموسيقى والثورة ، وستعود كرات العصائر الملونة ترقص بفرح على ارصفته من جديد .
وجدتني الف بجسدي الى الخلف خشية أن تطالني نظرات غير حميدة ، تاركا رغبتي بالتوغل اكثر لأرى ما فعلوه بدور السينما الكبرى في منتصف الشارع .. ولتتجسد أمامي تلك اللحظات التي ساقتني فيها يوما مراهقتي الفكرية لأن اتحدى قرارات السلطة العليا بمنع انخراط العسكريين في صفوف حزب اخر غير حزب البعث ، فتوجهت للقاء بمسؤولي في احد الاحزاب اليسارية للارتباط به رغم كوني ضمن خدمة الاحتياط في الجيش العراقي .. كان ذلك غير بعيد عن موطيء قدمي غير أنني تراجعت وكأن اللحظة هي ذاتها قبل اكثر من عشرين عام ..
المتسولون .. نساء ورجال ، بالغوا في استعطافي مع غيري من الماره ، إنهم يصرخون .. يرفعون برؤوسهم الى اعلى هامات الماره .. يتضرعون بخبث .. والبعض منهم يعرض عاهته بسخاء كي يحصل على مراده .. أحدهم كان فخذه لا زال عاريا وهو يعد نقوده باهتمام بالغ .. وثمة امرأة يظهر شعرها الحليق كما يحلق الرجال رؤوسهم بدأت تناديني بصوت تزاحمه شحرجة مرعبه .. لم ارى نساء سافرات في الشوارع عدا واحدة منذ أن دخلت مدينة بغداد ، حتى أنني شعرت بخطاي تتسارع خلف تلك المرأة علني أعثر على ميزة بعينها تجعلها بهذه الشجاعه .. من المحتمل انها مسيحية ، وإلا لما تركوها تمرح على راحتها تشق عصى الطاعه ..
هل لي أن امتد بخطاي لاسافر بهما الى حيث شارع الرشيد ؟ .. إنني المح من موقعي عدد قليل من السيارات ينعطف ناحية اليمين ليلج الرشيد .
- انفجارات في منطقة الوشاش .. القتلى بالعشرات ..
سمعتها خافتة من احدهم وهو يمر بسرعه ، كان يحدث صاحبه وكأن الأمر لا يتعدى حديثا عن اصطدام حافلتين صغيرتين .. تخيلت بأن اثنين ممن اراهم في صور الاولياء قد انفجرت بينهم معركة .. لابد لي في حالة كهذه أن اتحرك لمغادرة المكان قبل أن تدخل بقية الصور في النزاع ، حينها قد يحترق السعدون ، ويفر الرشيد من مخبئه في إحدى الشقق العتيقه .
هذه هي دجله .. أراها من فوق جسر الجمهورية وقد غزتها أحراش لم تكن تخشاها فانقلبت الى الغزو هي الاخرى لتحتل نصف النهر العظيم .. لا اعرف لماذا لم اشعر حينها بذات الرهبة التي كنت اتوقعها لو قدر لي ان تطال قدمي ضفاف دجلة .. بدا لي المنظر عادي جدا وكأنني قبالة نهر من تلك الانهار التي اراها عبر البرامج التلفزيونية الوثائقية .. وكانت بغداد تطل علي من فوق الجسر صامتة هي الاخرى ولا يكسر صمتها غير ضجيج السيارات المسرعة خوفا من مفاجئات الموت غيله .
بغداد .. تلك التي اجتمعت فيها وعلى جنباتها دهور وعصور .. وناخت عند بواباتها قوافل البوادي وتجارات الدنيا .. بغداد عاصمة الشعر والفن .. أضحت تعالج صمتها بصمت .. وراحت شواخص سيرتها الذاتية تختفي رويدا رويدا معلنة موت شعب بأكمله تحت وطأة الخوف من المجهول .. لا أحد الان في العراق يعلم ماذا سيحدث عند منتصف يومه الاخر ، فترى الجميع يسابق الجميع لبلوغ اللاموت ، وتوفير قوت العيال المسمرين على شرفات صبرهم الى ما لا نهايه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تشخيص بؤس واقع مزري
سامر عنكاوي ( 2011 / 10 / 17 - 10:53 )
شكرا اخي سهيل حيدر كنت رائعا ومقال مؤثر معبر, الاتي ادهى وامر ما دام الغيب يتحكم بالبشر والاموات التي بالصور تتحكم بالاحياء, انه الموت اتي من كل جانب من كل زاوية وعلى قولة المجنون القذافي من كل زنكة ومن كل شخص, انه الغزو صديقي للمدن العراقية كان بدويا زمن الديكتاتورية القومية واصبح قرويا زمن الديكتاتورية الطائفية الدينية والاثنين وجهين لعملة واحدة الفرق ان الديكتاتوية الدينية اشد وطاة لانها الهية منزلة ثابتة لا تتغير ولا تتطور ولا تتبدل ويمنع منعا باتا الحوار فيها وللمخالف السيف البتار لقطع الرقاب والادبار الانسانية, تعبنا وهرمنا ونحن نتكلم ونكتب ونحاور, الديني لا يسمع ولا اذن له ولا عيون ليرى, فهو حجر صخر جلمود وقف على خدمة الله ونفسه, والجنة والحوريات والغلمان والخمر مرامه وطز بالانسان اينما كان


2 - صرخه من بغداد السبيه
اياد بابان ( 2011 / 10 / 17 - 14:23 )
مقاله كلوحه تراجيديه رائعه فيها من التباريح التي تستحظر كل ألام الماضي لتختلط بتراب الوطن وعشق ناسه . لقد جعلوا من العراق كقطع الدومينو يبعثروها كما يشاؤون . انه ثمن عدم التطويع والرضوخ فعراقنا كالفرس الاصيل لم يستطيع ان يمتطيه المحتل وصنيعته من القرقوزات الذين اصبحوا سياسيين بين ليله وضحاها . مهما فعلوا فلابد للعراق ان ينهض . وسيبقى نصب الحريه شامخا نظيفا بمعانيه وتبقى الهويه الوطنيه للسعدون ولكل المناضلين ايقونه ترعب سراق خبز الشعب والعملاء .سلمت يداك ودام مدادك استاذ سهيل . لك خالص الموده


3 - الوطن هو ألإنسان ، والذئاب تعرف ذلك
الحكيم البابلي ( 2011 / 10 / 19 - 02:03 )
صديقي العزيز سهيل حيدر
صدقني ... رغم ركام السنين ، لم تزل جروحنا خضراء ندية ممكن ان تنكؤها أية كلمة صادقة تحمل في طياتها ذكرى من ربوع ذلك الوطن المثخن الجراح
الحق يا صاحبي ان الشوارع والساحات والأشجار والتماثيل والنهر والجسور وكل معالم المدينة مهمة لذاكرتنا وأشواقنا وأذواقنا ومزاجنا وصوامعنا الفكرية العتيقة الحبيبة، ولكن أهم منها هو العراقي ، إنسان وطننا ، ذلك السومري البابلي الآشوري النبطي المندائي العربي الكردي التركماني الأيزيدي
وكم بودي لو تحكي لنا بتفصيل وإسهاب ودقة ونزاهة أنت معروف بها عن المناخ النفسي لذلك العراقي !! ، وكم تبقى من أصالته عبر عاتيات الزمن وتقلباته اللئيمة وتفرد ضباع وكواسر الداخل والخارج به
صدقني لو سلم الإنسان من التغيير النفسي والإجتماعي السلبي المفروض عليه قسراً .. فالحياة بخير . عشر سنوات غير عجاف كفيلة ببناء وطن متواضع ، فكل شيئ ممكن تداركه وإصلاحه وتعويضه نوعاً ما
لوحده الإنسان وأصالته هو الذي يصعب تعويضه
لهذا اطلب منك صديقي أن تقدم لنا دراسة وافية عن الإنسان العراقي ، وهل سيصمد أكثر ؟ فحسب علمي وقناعاتي ارى إن الطريق لا يزال طويلا
كل المحبة

اخر الافلام

.. روسيا والصين.. تحالف لإقامة -عدالة عالمية- والتصدي لهيمنة ال


.. مجلس النواب الأمريكي يصوت بالأغلبية على مشروع قانون يمنع تجم




.. وصول جندي إسرائيلي مصاب إلى أحد مستشفيات حيفا شمال إسرائيل


.. ماذا تعرف عن صاروخ -إس 5- الروسي الذي أطلقه حزب الله تجاه مس




.. إسرائيل تخطط لإرسال مزيد من الجنود إلى رفح