الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثورات وأمراض اليسار العربي الخلقية والمكتسبة [1/2]

مصطفى مجدي الجمال

2011 / 10 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


هناك حديث كثير عن أزمة اليسار في البلدان العربية جميعًا، كجزء بالطبع من الأزمة الكبرى التي عانت منها كل القوى والأحزاب اليسارية في العالم منذ انهيار الاتحاد السوفيتي. ولكن جاء تغيير مهم، بالتصدي للعولمة "المتوحشة" من خلال مناسبات احتجاجية على المستوى العالمي (مثل المنتدى الاجتماعي العالمي والمنتديات الإقليمية والوطنية). أضف إلى هذا ما يشهده العقد الحالي من انتصارات انتخابية متكررة وكبيرة لقوى اليسار ويسار الوسط في أمريكا اللاتينية.
وقد يرجع تردي اليسار العربي إلى أسباب كثيرة تتشابه مع أسباب تراجع اليسار في معظم أنحاء العالم، ولكن من المؤكد أن هناك أسبابًا تخصه هو بالذات، يمكن القول إن معظمها بنيوي وليس ظرفيًا أو راجعًا لعوامل خارجية فقط.
ومن الملاحظ لمن يتتبع أدبيات اليسار العربي على مدى نصف قرن مضى وأكثر أن تعبير الأزمة لا يفارق معظم الكتابات، فهناك أزمات فكرية وسياسية وتنظيمية عديدة ومتداخلة. غير أن الأزمة التي مر بها اليسار العربي في الحقبة الأخيرة ولا تزال مستمرة بدرجات متباينة تختلف تاريخيًا وموضوعيًا عن كل الأزمات السابقة، لأنها هذه المرة أزمة وجود. فاليسار بالصور التقليدية التي نعرفها منذ قرابة المائة عام مهدد هذه المرة بالفناء وليس مجرد التفكك أو التراجع أو الارتباك أو الانقطاع عن النمو والتفاعل مع ما هو جديد أو شحوب واختفاء الرؤية المستقبلية.

جاءت الثورات العربية الأخيرة على اليسار وهو في أزمته تلك.. وقبل أن نناقش الوضع الجديد لا بد من التفصيل فيما يتعلق بتوصيفها.. إننا لا نهتم هنا بأسباب الأزمة بقدر ما نهتم بتناول معالمها، والطرق التي يفهم بها اليساريون أزمتهم، وتصوراتهم للخروج منها.

أولاً: هناك أولاً أزمة اليسار العربي مع تاريخه. وبديهي أنه من غير الممكن تقديم الجديد ما لم تكن هناك رغبة حقيقية في تعامل كل فصيل يساري مع تاريخه الخاص بطريقة نقدية موضوعية. فلا بد من التخلي عن النزعات التبريرية والتمجيدية، وبالمقابل لا بد من الإقلاع عن الميول السادية التي لا ترى في الآخرين سوى تحريفيين أو تصفويين أو مغامرين.. إلى آخر القاموس المعروف.
وحتى يتسنى أن يتم هذا التناول النقدي للذات يجب أن تكون هناك عمليات توثيق علمية تجمع الأوراق وشهادات الأحياء من الكوادر القديمة، وأن يتم أيضًا توفير هذه المادة التاريخية الخام للباحثين والمهتمين.

ثانيًا: أدى انهيار المنظومة الاشتراكية إلى إثارة تساؤل كبير عن المرجعية النظرية الماركسية التقليدية، وهل لا تزال صالحة كما هي للخروج باليسار من أزمته؟ أم أنها تحتاج إلى تناول آخر يبقي على المنهج الماركسي (المادي الجدلي) في التحليل، ويستفيد من تطبيقات هذا المنهج في أزمان سابقة ومواقع أخرى، دون إضفاء قدسية عليها، ومن ثم التخلص من الولع باجتهادات "السلف" (مثل اللينينية والستالينية والماوية والجيفارية..). وبالأحرى يصبح على اليسار العربي إثبات قدرته على التعامل بندية مع الاجتهادات الأخرى، وأن يضطلع بنقد النماذج الأخرى من زاوية مدى ملاءمتها للظروف المحلية والسياق الزمني (خاصة فيما يتعلق بقضايا مثل دكتاتورية الأغلبية، الرسالة التاريخية للطبقة العاملة، إمكانية الثورة الاشتراكية في بلد واحد، "اشتراكية السوق"، دور الحزب الطليعي..). وبالتالي فإن الإبداع النظري، والإمعان في دراسة الواقع المحلي، سيمثلان محكين مهمين لإمكانية نهوض اليسار من عثراته.

ثالثًا: أصبح على اليساريين العرب أن يعددوا مستويات التحليل السياسي، فالبعض كان يتناول المستوى العالمي فقط والبعض الآخر يتناول المستوى المحلي/ الوطني فقط، وبالطبع كان الماركسيون القوميون يركزون بشكل مغالى فيه على المستوى العربي. وقد غابت الآن المنظومة الهرمية التي كان يقف على رأسها الحزب الشيوعي السوفيتي، ولكن هناك آفاقًا بدأت في التفتح للتعاون بين القوى اليسارية على صعيد عالمي، ومن واجب اليساريين العرب أن يتفاعلوا معها، كما أن من واجبهم أيضًا أن يبنوا أطرًا مماثلة على المستوى القومي.

رابعًا: نظرًا للقداسة التي كان اليساريون العرب، مثل غيرهم، يضفونها على مرجعيتهم النظرية، كان لا بد أن تصبح ظاهرة التشرذم والانقسامات المتوالية ظاهرة عامة. وقد ازدادت الظاهرة بروزًا بفعل انسداد قنوات الديمقراطية الداخلية في الأحزاب اليسارية، فلم يكن هناك أمام المختلفين من بديل سوى الانقسام والبحث عن بداية جديدة في أشكال أخرى. وغالبًا ما تصور كل فصيل يساري أن بإمكانه أن ينمو "نموًا ذاتيًا" بفضل صحة مُدّعاة لخطه السياسي وحركية متصورة لأعضائه، الأمر الذي سيجبر الآخرين على الالتحاق بهذا الفصيل في نهاية المطاف. وكانت بعض التنظيمات تدخل في عمليات توحيد مع الفصائل الأخرى ليس بنية الوحدة وإنما بنية تدمير المنظمات الأخرى، حتى أن بعض عمليات التوحيد (مثل الوحدة الشهيرة للمنظمات اليسارية المصرية عام 1958 التي لم تدم إلا لأشهر قليلة) كانت تنتهي سريعًا إلى المزيد من الانقسامات.
وكان من نتائج هذا الوضع الانقسامي، إلى جانب الإحباط الذي صاحب انهيار المنظومة الاشتراكية، أن أصبح الماركسيون الأفراد غير المنتمين لأي تنظيم ("الفرط": المنفرطون) يمثلون الثقل الأكبر داخل الحركة اليسارية. وتعاني التنظيمات اليسارية القائمة معاناة كبيرة في محاولة تنظيم هذه الأعداد الكبيرة المتناثرة، حتى أن الكثيرين منهم أصبحوا عصيين على التنظيم، ولا يريدون تكرار تجارب مجهضة أو فاشلة.

خامسًا: أصبحت الأحزاب والجماعات اليسارية في العقدين الأخيرين في وضعية مهمشة بالنسبة للحياة السياسية العربية، لأسباب عديدة لا داعي لتكرارها. فإلى جانب التناقص العددي هناك القصور النوعي، بمعنى نخبوية الجسم المنظم وغير المنظم لليسار العربي، حيث يتركز أساسًا في أوساط المثقفين والمهنيين والطلاب، ويتراجع بشكل كبير التواجد اليساري وسط الطبقات العاملة وينعدم تمامًا وسط الفلاحين. ولا شك أن هذه العزلة الجماهيرية تجعل القيادات اليسارية غير قادرة على تصحيح مواقفها في ضوء التجاوب الجماهيري، كما أنها بهذا الوضع تفقد القشرة الجماهيرية الصلبة التي تستطيع حمايتها من البطش.

سادسًا: تتهرب معظم القوى اليسارية من الإجابة عن تساؤل كبير مفروض عليها، ويقصد به الاختيار بين الإصلاح والثورة. حيث يكتفي هؤلاء بالحديث عن التكامل بين الجانبين، وعن تنوع أشكال النضال وأساليبه. ولكن لا توجد إجابات واضحة عن دور الديمقراطية في تحقيق البرنامج "الثوري"، بمعنى هل يتم النظر إلى الديمقراطية كمنجز إنساني وكاختيار استراتيجي و"نهائي" يجب على الجميع احترامه أم كمجرد وسيلة للتوعية والتنظيم في فترات الضعف؟
ويضاف إلى هذا ضرورة الاختيار الواضح بين السرية والعلنية. صحيح أن السرية فُرضت فرضًا على كثير من القوى اليسارية العربية، ولكن لا بد من الاعتراف أن هذه السرية كان لها أمراضها في ظل النهج الستاليني في تنظيم الحياة الحزبية الداخلية، فضلاً عن استحالة الاحتفاظ بالأسرار في عصر التكنولوجيا وثورة الاتصالات، وظهور إمكانات جديدة للتأثير في الرأي العام غير الوسائل التقليدية (منشورات سرية فقيرة، اتصالات شخصية سرية..).

سابعًا: تواجه الأحزاب اليسارية منذ وقت طويل مشكلة غياب الإطار الجبهوي الذي يمكن أن تنشط في سياقه، لأسباب كثيرة منها قصور التطور الديمقراطي، وقصر النظر السياسي المرتبط بتخلف الوعي الثقافي عمومًا.. ومن ثم فإن القوى اليسارية الأكثر وعيًا هي تلك التي اهتمت ببناء الجبهة في ذات الوقت الذي تبني حزبها الخاص. بينما نظر البعض إلى بناء الجبهة على نحو ميكانيكي ينتظر انتهاء جميع القوى من بلورة أحزابها قبل التفكير في الجبهة. ولم يفرق الكثيرون بين الجبهة الناجزة وبين العمل الجبهوي التنسيقي في مواقف سياسية محددة. وعمومًا لم ينظر الكل للجبهة كعملية متعددة المستويات والحلقات والمراحل.
وفي قلب قضية بناء الجبهة تنشأ مشكلة بناء التحالف اليساري. فمن المفارقة أن تحالف الجماعات اليسارية مع بعضها أصعب من تحالف جماعة ما مع النظام "الوطني" مثلاً! كما أن الشقة الواضحة بين اليسارين القومي (الناصري، البعثي..) واليسار الماركسي (بما فيه الماركسي القومي) تضيع على الجانبين إمكانيات كبيرة للعمل المشترك وتعظيم المكاسب السياسية.

ثامنًا: يبدو أن الكثير من القوى اليسارية تخطئ في تحديد العلاقة السليمة بين حلقات النضال المختلفة (النضال الوطني والقومي- الديمقراطي- الاجتماعي والاقتصادي- التنويري والتثقيفي) فيتم التركيز على إحداها بشكل يهمل أو يجور على ما عداها، وذلك بدعوى أن التركيز على "الحلقة الرئيسية" سيقود حتمًا إلى تتابع كل الحلقات.
ومن أوضح الأمثلة تصور بعض اليساريين أن الديمقراطية الليبرالية هي الطريق الوحيد لتحقيق بقية البرنامج الحزبي، فأصبح من الممكن أن يتجاوب قطاع من اليساريين العراقيين مع الاحتلال الأمريكي للعراق بدعوى الدمقرطة، وأن ينجذب فريق من اليساريين اللبنانيين إلى التحالف مع كتلة الحريري بدعوى السيادة..الخ.
وبالمقابل هناك قطاعات يسارية لا ترى من النضال السياسي سوى جانبه الاجتماعي، أو تكتفي بدور المبشر بالاشتراكية ولا تشترك في نضالات ديمقراطية ملموسة من أجل تحقيق المطالب الاجتماعية والاقتصادية. وهلم جرا.

تاسعًا: فرضت طبيعة العصر والعولمة الليبرالية أن تتبلور حركات اجتماعية واحتجاجية كثيرة، تتسم نضالاتها بالقضايا الجزئية أو الوقتية (المطالب الفئوية- البيئة- السلام- المرأة- المعاقين- حقوق الإنسان...)، ومن ثم فإنها تتسم بالطابع التنظيمي الفضفاض والأفقي، وليس لديها برنامج سياسي شامل. ورغم أن الأحزاب اليسارية العربية القائمة قد تتجاوب إيجابيًا مع تلك الحركات، إلا أنها لم تستطع بعد- بسبب القصور السياسي والتنظيمي- أن تدمج هذه النضالات الجزئية في مسار نضال عام يحدث في النهاية تغييرًا شاملاً.
ومن الظواهر الملحوظة أيضًا في العقدين الأخيرين أن الكثير من اليساريين الماركسيين والقوميين ذوي التجارب السياسية السابقة الفاشلة قد اندفعوا بقوة للعمل في مجال المنظمات الأهلية، وخاصة التنموية والحقوقية، على أمل أن يحقق لها هذا اتصالاً مباشرًا بالجمهور. وفي مقابل هذا "المكسب" المأمول لم يجد أولئك اليساريون حرجًا في السعي من أجل التمويل الأجنبي الذي لا يرتفع كله فوق مستوى الشبهات (بالمعايير الوطنية وليس اليسارية فقط)، كما أدى هذا إلى تزايد الطابع الاحترافي للعاملين في المنظمات الأهلية، أما العلاقة بالجمهور فقد ثبت في النهاية أنها علاقة بجمهور من المستفيدين بالخدمات المقدمة وليست علاقة بجمهور على استعداد للتنظيم أو الانضواء تحت برنامج للتغيير.

عاشرًا: في ظل تصاعد نفوذ الإسلام السياسي، بل وحتى استفحال خطر الصراعات المذهبية والطائفية في الوطن العربي، لا يبدو أن لليساريين رؤية موحدة للتعامل مع هاتين الظاهرتين. فرغم أن لليسار دورًا معروفًا في التنوير الثقافي، نجد أن يساريين كثيرين قد يندفعون ضد التيارات الإسلامية (جميعًا ودون تمييز بين قيادات وقواعد اجتماعية) وحتى قد يلصقون بها تهمة "الفاشية".. بينما نجد آخرين لا يترددون حتى في الإقبال على التحالف مع تلك الاتجاهات بدعوى هذه القضية الوطنية أو تلك.

حادي عشر: هناك فئات في المجتمع لا يتوقع أن تجد أصواتًا حقيقية في التعبير عنها سوى في اليسار.. مثل المرأة التي تعاني من القهر المزدوج للدولة ولمنظومة القيم الاجتماعية السائدة. وهناك أيضًا جحافل العاطلين والمهمشين الذين لم يجد اليسار حتى الآن وسيلة للاقتراب منهم.. وقبل كل هؤلاء هناك الشباب.. ولكن الملاحظ أن نسبة الشباب في المنظمات اليسارية أصبحت بالغة الهزال.. ولا نجد من اليسار حتى الآن محاولات جادة ومدروسة لتجديد دماءه، رغم تزايد دور الشباب في الحركات الاحتجاجية وأنشطة التدوين على الشبكة العنكبوتية.

.... ثم انفجرت الثورات العربية على أيدي جماعات شبابية ذات مناحي ليبرالية ووطنية وإسلامية ويسارية أيضًا مختلفة.. وبسرعة جدًا.. وتفاعل اليسار العربي معها بصور مختلفة تأثرت بأمراضه الخلقية والمكتسبة.. بغض النظر عن بطولات وتضحيات الأفراد اليساريين.. وأنوي في مقال قادم أن أتناول هذا الجانب..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان الآن مع صلاح شرارة:


.. السودان الآن مع صلاح شرارة: جهود أفريقية لجمع البرهان وحميدت




.. اليمن.. عارضة أزياء في السجن بسبب الحجاب! • فرانس 24


.. سيناريوهات للحرب العالمية الثالثة فات الأوان على وقفها.. فأي




.. ارتفاع عدد ضحايا استهدف منزل في بيت لاهيا إلى 15 قتيلا| #الظ