الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 8 مخاطر على الديموقراطية 7 تيارات الإسلام السياسي والعلمانية 3

عبد المجيد حمدان

2011 / 10 / 17
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


مخاطر على الديموقراطية 7 تيارات الإسلام السياسي والعلمانية (3)
ثنائية النور والظلام :
كنا قد ابتدأنا الحلقة السابقة بالإشارة إلى ثنائية النور والظلام . النور الذي سطع على شرقنا لقرابة خمسة قرون ، والظلام الذي خيم على أوروبا ما يقرب من عشرة قرون . وفي ختام الحلقة أوضحنا كيف آل الحال في شرقنا إلى انطفاء هذا النور ، وإلى حلول ظلام محله ، أشد قتامة من ذاك الذي كان آنذاك يخيم على أوروبا . وأشرنا إلى أن انطفاء النور هذا تم بفعل فاعل ، وهو تيار النقل ، أسلاف تيارات الإسلام السياسي الحالية ، الذين أخذوا على عاتقهم مهمة مواصلة فعل أسلافهم ، بإفشال محاولات قشع الظلمة ، والإبقاء على شرقنا غارقا فيها .
وفي بداية تلك الحلقة ، أجاب الصديق معاوية ، على سؤالي عن فهمه لمضمون الظلام ، الذي كان قد خيم على أوروبا ، بالقول أنه يعني تراجع دور العقل ، لصالح سيادة الفكر القائم على الغيبيات والخرافات وما إلى ذلك . وكنت قد قلت أن ذلك كان نصف الكأس الفارغ ، وهناك نصف مليان ، هو ما سيكون مدار حديثنا في هذه الحلقة . وفي هذه الحلقة ، وكي نتمكن من إلقاء نظرة فاحصة ، على نصف الكأس المليان ، رأينا أن نلجأ لسرد بعض وقائع التاريخ ، المعروفة لقارئ متوسط المعرفة ، نعقبها بسلسلة من الأسئلة ، فمحاولات للإجابة عليها .
ونبدأ بالقول : شهدت نهاية القرن الخامس عشر ، وبداية السادس عشر ، ظاهرة محاكم التفتيش ، التي أطلق حملتها ملوك اسبانيا ، وأوكلوا مهمة تنفيذها للكنيسة الكاثوليكية . استهدفت الحملة تنظيف الأندلس ، التي كانت قد استعيدت من اليد العربية ، من كل مظاهر الثقافة والفكر العربي الإسلامي . لكن سرعان ما امتدت الحملة إلى باقي أجزاء أوروبا الغربية والجنوبية . وشهد القرنان السادس عشر والسابع عشر حملة جنونية ، جرى فيها التفتيش في ضمائر الناس ، ونفذت فيها مذابح وجرائم شديدة البشاعة ، طالت مئات ألوف المواطنين . وكالعادة ، في مثل هذه الفترات ، نال المرأة نصيب كبير من الملاحقات والعقوبات ، فيما عرف بحملات صيد الساحرات . وهكذا كان ، بإطلاق يد الكنيسة في هذه الحملة ، وفرض وتنفيذ العقوبات ا الإجرامية ، أن ازداد الظلام الذي خيم على أوروبا قتامة ، وغدا ليلها أكثر حلكة .
لكن حدث أن رافق ، أو زامن ، ذلك ، جملة من الظواهر الإيجابية . سألت الصديق معاوية : كيف تفسر بروز عدد من نوابغ البشرية في القرنين الخامس والسادس عشر ؟ من هؤلاء ، وعلى سبيل المثال لا الحصر ، وليم شكسبير ( 1564- 1616 ) نابغة المسرح ، والجالس على عرشه حتى يومنا هذا ؟ وليوناردو دافينشي ( 1452 – 1519 ) صاحب الموناليزا ، وأحد أعظم رسامي العالم ، ومايكل أنجيلو (1475 – 1564 ) الرسام والنحات ، الفيزيائي والمهندس والرياضي ...الخ ؟ وكيف تفسر ذلك التطور الهائل في الموسيقى ، الكلاسيكية بسيمفونياتها الرائعة ، وفن الأوبرا ، ناهيك عن الآداب والفلسفة - شهد القرن الثالث عشر ظهور الفيلسوف توما الاكويني ، والقرنين السابع والثامن عشر ظهور كل من الفلاسفة : سبينوزا ، ديكارت وكانط - ؟ رد صديقي : بلا شك سبق ظهور كل واحد من هؤلاء تراكم معرفي كبير في الفرع الذي نبغ فيه . قلت : ذلك صحيح . لكن ذلك يستدعي أسئلة مهمة ، من مثل : ولكن كيف حدث مثل هذا التراكم المعرفي ، بتطوره المتصاعد ، في عصور وصفت بأنها عصور ظلام ؟ يستدعي هذا السؤال حقيقة أن عصور الظلام الثمانية أو التسعة ، التي أعقبت إطفاء نور الحضارة في شرقنا ، لم تشهد أية نتاجات للمعرفة ، ناهيك عن تراكمات لها . فإذا كانت يد الكنيسة الكاثوليكية بتلك القوة ، التي وصلنا الحديث عنها ، فلماذا لم تنجح في إحكام إقفال أبواب المعرفة ، على غرار ما فعلت نظيرتها عندنا – تيار النقل سلف تيارات الإسلام السياسي الحالية - ، التي نجحت في سد أبواب المعرفة سدا محكما ، وأغلقت كافة المنافذ لها ، والذي نتج عنه هذا الجدب المعرفي ، الذي ما زلنا نعاني آثاره حتى يومنا هذا .؟
جامعات أوروبا ؟
ربما تقع في باب المفارقات ، حقيقة أن غرب وجنوب أوروبا ، الذي خضع لنفوذ الكنيسة الكاثوليكية ، وأناخت عليه عصور الظلام ، تبعا لذلك ، كان قد شهد إنشاء ونجاح نظم تعليمية ، تتوجت ببناء وإقامة جامعات في العديد من بلدانها . والمفارقة أن النظم الإسلامية ، وفي عز ظهيرة نور الحضارة الذي سطع على شرقنا ، وفي الأندلس ، فشلت جميعا في إقامة ، ولو نظام تعليمي واحد ، قادر على البقاء والتطور . وهي أيضا ، ويا للمفارقة ، لم تقم أية جامعة ، وحتى بداية القرن العشرين – كانت جامعة القاهرة التي ظهرت فكرة ، فبدء ، إنشائها في العام 1909 ، هي أول جامعة أقيمت في عالمنا العربي ، سبقتها جامعة استنبول بقرن تقريبا - .
وقلت لصديقي : والمراجع – عبر الإنترنيت – لتاريخ نشأة عدد من الجامعات الأوروبية ، تذهله حقيقة عراقة وقدم هذه الجامعات ، وتصدمه حقيقة أن النظم التعليمية ، التي سبقنا الغرب إليها بكثير ، لم تقاوم عوامل الفناء ، ولم تنجح في البقاء ، فقط ، ولكنها نجحت في التطور الذي يشهد عليه ظهور الجامعات . قال صديقي : ولكن كيف كان ذلك ؟ قلت إليك بعض الأمثلة .
تخبرنا موسوعة ويكيبيديا – الموسوعة الحرة – أن جامعة بولونيا – مدينة في إيطاليا – أقيمت قرب نهاية القرن الحادي عشر - 1088 - ، وقامت جامعة أوكسفورد ، أول جامعة ناطقة بالإنجليزية ، في نفس القرن . – الجامعات في ذلك العصر ، كما كل العلوم ، كانت اللاتينية لغتها- . وفي القرن الثالث عشر نشأت جامعات كمبريدج في بريطانيا ، السوربون في باريس وبادوفا في إيطاليا . وفي القرن الرابع عشر نشأت جامعات : بيزا في ايطاليا ، هايدلبرغ في ألمانيا و باغيلونسكي في بولندا ، وتطول القائمة مع المتابعة .
هكذا كان أمرا طبيعيا ظهور نخب المفكرين فيما بعد ، مثل فولتير وجان جاك روسو ومونتسكيو ، الذين ألهمت أفكارهم ثوار فرنسا ، وأن تتطور العلوم والفنون والآداب ، وبينها فن الرواية ، وهي كلها التي وضعت أسس بنيان النهضة الحديثة . وقلت لمعاوية : لعلك ما زلت تذكر ، ولا بد أن القارئ ما زال يذكر هو الآخر ، رائعة تشارلز ديكنز – قصة مدينتين – التي قدم فيها تصويرا حيا ، ناطقا ورائعا ، لأحداث الثورة الفرنسية . والآن لا بد أن يقفز إلى اللسان سؤال : في ظل سيطرة الكنيسة على نظم الحكم في أوروبا – غربها وجنوبها- ، وفي ظل سيادة فكرها الغيبي والخرافي ، كيف نشأت النظم التعليمية ، والجامعات ، ومن تولى إدارتها والإشراف عليها ؟
ونقول : لما كانت الكنيسة هي صاحبة اليد العليا على الحكومات ، وكانت تتولى الحكم مباشرة في بعض أجزاء أوروبا - وسط وشمال إيطاليا ، وغرب فرنسا - كان منطقيا ، أن تكون صاحبة اليد العليا في إقامة وإدارة الجامعات . والمراجع لتاريخ بعض الجامعات التي أشرنا إليها ، يقع على حقيقة أن الكنيسة الكاثوليكية ، هي من قام على إدارة ، ومن تولى الإشراف عليها . كما يصطدم بحقيقة أن القائمين على الإدارة ، وحتى الأساتذة في مختلف الفروع ، هم إما رهبان ، أو قسس أو مطارنة . وأكثر من ذلك فإن الرهبان ، أو رجال الدين يشكلون أكثرية بين النابهين ، أو المبدعين ، بما في ذلك في العلوم والفلسفة . وهكذا تدهمنا الحقيقة التي لا مراء فيها وهي أن كل الفنون والآداب ، وحتى العلوم التي سبقت الإشارة إليها ، ولدت ، نمت وترعرعت في أحضان ، وبرعاية الكنيسة . ويبرز سؤال : أين تكمن المشكلة إذن ؟
حقيقة المشكلة :
يذهب البعض ، في الإجابة على السؤال السابق ، إلى أن المشكلة تكمن في حقيقة احتكار الكنيسة لمنتوج فكر الجامعات . فالكنيسة ، حسب رأيهم ، فرضت اللاتينية لغة للجامعات ، وحالت دون محاولات إدخال اللغات المحلية ، ومنها ما هو مشتق من اللاتينية ، إلى هذه الجامعات . ولما كان رجال الكنيسة ، وبعض علية القوم ، هم وحدهم من يتقن اللاتينية ، أو يتحدث بها ، كان بديهيا أن تقتصر الفائدة من منتوج الجامعات عليهم فقط . وهذا هو المقصود باحتكار الكنيسة لعلم ذلك الزمان . ويدللون على صحة هذا الرأي بحقيقة احتكار الكنيسة لفن دافينشي وأنجيلو والكثيرين غيرهم . كما ويشيرون إلى أن رفض الكنيسة لترجمة الكتاب المقدس إلى اللغات القومية ، ووضعه بالتالي بين يدي العامة ، وإلغاء احتكار الكنيسة لقراءته وتفسيره ، كان أحد أهم العوامل لثورة مارتن لوثر ، التي استهدفت الإصلاح ، ونتج عنها انحسار ظل الكنيسة الكاثوليكية عن وسط وشمال أوروبا ، ونشوء الطائفة البروتستنتية ، وتشعباتها اللاحقة .
لكن ، ورغم صحة ووجاهة الرأي السابق ، فقد شكل أحد عوامل ، أو جوانب المشكلة ، وليس كلها . قلت لصديقي معاوية : تعال نستدعي حادثي محاكمة وإعدام العالم البولندي ، كوبرنيكوس ، حرقا ، ومحاكمة وإذلال العالم الإيطالي غاليليو ، ونستقرئ تلك الأحداث . كان كوبرنيكوس (1473 -1543 ) راهبا وحائزا على الدكتوراه في القانون الكنسي . لكنه في ذات الوقت كان عالما في الفلك وفي العلوم الطبيعية . وهنا ، وقبل أن نكمل ، لابد من الإشارة إلى أن العلوم في ذلك الزمان لم تكن قد وصلت بعد إلى التقسيم أو التصنيف القائم في عصرنا . والدارس في الجامعة ، كما كان الحال في الشرق ، أيام سطوع نور الحضارة ، كان يدرس كل العلوم معا ، ويبحث ، كما يكتب ، فيها كلها . كان يمكن أن يكون شاعرا ورساما وفيلسوفا وطبيبا وفيزيائيا وكيميائيا وفلكيا .....الخ ، معا . ما يهمٌنا هنا أن كوبرنيكوس هو مكتشف ، فصاحب ، نظرية مركزية الشمس ودوران الأرض حولها . ولما كان أن اكتشاف كوبرنيكوس هذا جاء مناقضا لفكرة المركزية في الأديان السماوية ، والقائلة بمركزية الأرض للكون ، ودوران الشمس حولها ، يكون القبول بها ، أو حتى مجرد الإبقاء عليها ، اعترافا ، فقبولا ، بخطأ فكرة الدين هذه ، ومن ثم إصابة كل الفكر الديني في مقتل . من هنا جاءت المحاكمة فالإعدام حرقا .
بعد كوبرنيكوس جاء غاليليو ، وهو عالم فيزيائي ، ومكتشف العديد من قوانينها ، خصوصا تلك المتعلقة بالجاذبية . غاليليو ، ورغم ما حدث لكوبرنيكوس ، جاء ليؤكد على : كروية الأرض ، ودورانها حول نفسها ، فتفسير ظاهرة تعاقب الليل والنهار ، وحيث لا معجزة فيها ولا ما يحزنون ، ومركزية الشمس وثباتها ، ودوران الأرض حولها ، فتفسير ظاهرة الفصول الأربعة . مرة أخرى جاء التصادم شديدا مع الفكر الديني ، وحيث التسليم بصحة هذه القوانين الطبيعية ، يعني القبول بنسف جوانب أساسية في الفكر الديني . وإلى ذلك استندت محاكمة غاليليو ، وإرغامه على التراجع عن نظرية دوران الأرض ، ثم خروجه ذليلا هامسا : ولكنها تدور .
إذن هنا كان لب المشكلة . كانت العلوم الطبيعية تتطور بسرعة . وظهرت بدايات تحولها إلى علوم منفصلة عن بعضها البعض . فيزياء ، كيمياء ، أحياء ، رياضيات ، فلك ، هندسة ....الخ . وكان واضحا للكنيسة أن تطور الفيزياء بالتحديد ، واكتشاف قوانين الطبيعة ، يشكل الخطر الأكبر على الدين وقوانينه المعروفة عن الخلق ، وتفسير مختلف الظواهر المحيطة . وكان أن رأت الكنيسة أن لا مفر من المواجهة ، وكبح ، أو إعاقة تطور هذه العلوم ، أو إبقاءها تحت عباءتها . لكن القائمين على هذه العلوم اندفعوا إلى المقاومة ، ولسان حالهم يحور مقولة المسيح : دعوا ما لقيصر لقيصر لقيصر ، وما لله لله ، إلى قولهم للكنيسة : دعونا ندرس الطبيعة ، نكتشف قوانينها ، ونسخرها لخدمة تقدم الإنسانية ، وتحسين ظروف معيشتها ، وندعكم مع قوانينكم لما وراء الطبيعة ، وتفسيراتكم الدينية للظواهر المختلفة ، وفي مقدمتها الخلق ، والكون ، وسائر الظواهر المتعلقة بهما .
بديهي أن الكنيسة لم تقبل بهذا الرأي ، إذ ظلت ترى خطورة قوانين الطبيعة ، وتطبيقاتها اللاحقة ، على الفكر الديني . وتواصل الصراع ، لتفوز فكرة الفصل ما بين الطبيعة وقوانينها ، الفيزيقا ، وما وراء الطبيعة وقوانينها ، الميتا فيزيقا . وكان هذا الفصل هو ما عرف بالعلمانية في حينه .
هنا قال معاوية : وإذن وقبل أن نبتعد أسأل : ما مدى صحة القول الذي تربينا عليه ، وأجيال كثيرة قبلنا وبعدنا ، والقائل بأن الغرب بنى حضارته وعلومه على العلوم التي أخذها عنا ؟ قلت ذلك صحيح ، ولكنه صحيح جزئيا وليس كليا . لقد حدث أن بعض مخطوطات علمائنا التي نجت ، من الحرق أو الإتلاف ، وجدت طريقها إلى الجامعات التي ذكرنا بعضها . هذه الجامعات لم تحفظها في خزائن زجاجية ، أو أخفتها بعيدا عن العيون ، كي تنجو من الحرق ، بل جرى نسخها ، ووضعها بين أيدي الدارسين والباحثين . وكان أن برز من بين هؤلاء من تجاوز هضم واستيعاب ما فيها ، بل وبنى عليها ، كما أضاف لها ، مكررا فعل علمائنا في الشرق كما سبق وأشرنا . وهكذا شكلت تلك المخطوطات ركنا هاما من أركان نهضة أوروبا العلمية ، في الوقت الذي نمنا في الشرق على أنغام موسيقى النصر الذي حققه تيار النقل ، بالقضاء التام على انتاجات تلك العلوم . ولعل القارئ يتصور حجم قوى الدفع لعلوم علمائنا لو أن أغلبية مخطوطاتهم نجت من الحرق والتدمير ، مقارنا مع فعل القليل القليل الذي نجا من هذه المخطوطات ، ووضعته جامعات أوروبا بين أيدي الباحثين والدارسين .
مرة أخرى دخل معاوية ليقول : بعد هذا التوضيح لنعد مرة أخرى إلى السياق الذي قطعناه لأسأل : وإذن من أين أتت فكرة تعريف العلمانية بأنها فصل الدين عن السياسة ، أو الفصل بين الدين والدولة ؟
الثورة الصناعية :
قلت : للإجابة لنتوقف قليلا عند التالي . أنت ولا شك تعرف أن الثورة الصناعية – في بريطانيا – لعبت دورا مماثلا للثورة البرجوازية الفرنسية ، في نقل أوروبا ، والعالم من بعدها ، إلى عصر الرأسمالية الحالي ، أو ما كان يعرف قبل ذلك بعصر التنوير . والسؤال هو : لأية عوامل استندت، وعلى أية دعائم قامت ، الثورة الصناعية ؟ رد صديقي : استندت ، كما نعرف كلنا ، إلى ما سبقها من انجازات علمية ، وبصورة خاصة في حقول العلوم الطبيعية ، ولا سيما حقلي الفيزياء والرياضيات ، وما أحدثته قوانينها المكتشفة من فتح للأبواب أمام المخترعات ، وإلى تطوير وتقدم علوم الهندسة . وأضاف : من غير المحتمل أن يستطيع مخترع الآلة البخارية مثلا ، فعل ذلك دون معرفة عميقة بقوانين تحولات الطاقة من شكل لآخر . ودون معرفة للعلاقة بين قوى الدفع ، أو التحرك ، وثقل الحمولة ، وقوى الاحتكاك ، ونسب خسارة الطاقة ....الخ .
قلت : كل ذلك صحيح ، ولأن انطلاق عصر الصناعة يعني عدم المراوحة في المكان ، بمعنى بروز الحاجة الماسة لتطوير القائم ، ولتحسين وزيادة الإنتاجية ، ولافتتاح صناعات جديدة ، ولإنتاج سلع جديدة . هكذا كانت الضرورة ماسة ، لإحداث انطلاقات نوعية في العلوم الطبيعية ، ولمزيد من اكتشاف ومعرفة قوانينها . وهكذا بات ضروريا أن تتبنى الصناعة الجديدة مراكز البحث في الجامعات . وأن تنشئ هي بنفسها مراكز بحوث خاصة بها . وأن تغدق المزيد من الاهتمام والرعاية على العلماء . لكن المشكلة تمثلت في أن كل تقدم في علوم الطبيعة ، الفيزياء على نحو خاص ، والأحياء فيما بعد ، ظل يكشف عن قوانين مناقضة ، لقوانين ما وراء الطبيعة ، التي كان الدين صاحبها . وكان بديهيا أن تتصاعد مقاومة الكنيسة ، وأن تحاول ، ليس فقط محاكمة العلماء ، ووقف نشاطهم ، بل ورفض تداول هذه القوانين ، من خلال مصادرة حق نشرها ، وهو ما اصطدم بشدة مع منحى تطوير الصناعة ، ومع مصالح هذه الطبقة الجديدة الصاعدة ، والقوية في ذات الوقت .
ولما كانت الكنيسة لا تملك القوى البشرية ، المنظمة والقادرة على انجاز مهمة وقف تطوير العلوم ، وعلى مصادرة ومنع نشر المكتشفات الحديثة ، وعلى اضطهاد العلماء ، فإنها ظلت تعتمد السلطة الحاكمة ، حليفتها ، بما تملك من مؤسسات وقوى بشرية منظمة وفاعلة للقمع ، للقيام بهذه المهمة . ولما كانت مصالح قوى التحالف – البرجوازية بشرائحها المختلفة ، والصناعية في المقدمة - مع تطوير العلوم ، وحماية العلماء ، وحفزهم على مزيد من الاكتشافات ، كان طبيعيا أن تتصاعد المطالبة ، فالضغط ، بعدم استجابة الحكومات لإملاءات الكنيسة في هذا الشأن . وحتى يتحقق شل يد الكنيسة عن التنكيل بالعلماء ، وبإنتاجهم في علوم الطبيعة ، كان لا بد من توفير الضمان لمنع حدوث ذلك . وتمثل هذا الضمان في فك التحالف بين الطرفين ، السلطة ، أو الحكم ، من جهة ، و الكنيسة ، أو المؤسسة الدينية ، أو الدين ، من الجهة الأخرى . هذا التحالف الذي ظل قائما منذ نشأة الدولة ، في العصور القديمة ، أي لآلاف عدة من السنين . وبديهي أن فك تحالف بهذا التراث الضخم لم يكن ، ولن يكون سهلا ، والمقاومة له ستكون شرسة جدا . لكن النجاح ، وبمهر ضخم ، من التضحيات والدماء ، أنجزته ثورتا البرجوازية في فرنسا والصناعية في بريطانيا .
ولو لم يحدث ذلك ، فإن على المرء أن يتصور ماذا كان يمكن أن يكون عليه رد فعل الكنيسة ، الدين عموما ، تجاه داروين ونظريته عن التطور . هذه النظرية التي قدمت رؤية مناقضة تماما لنظرية الخلق التي تتبناها ، وتطرحها ، الأديان السماوية الثلاثة . وكذلك يمكن تصور موقف وفعل الدين ، تجاه الأبحاث ، والمكتشفات ، المكملة ، والمطورة ، لنظرية داروين . وعموما تجاه علم الجيولوجيا ، ومكتشفاته المختلفة ، والنظريات المفسرة لكيفية حدوث ذلك . ثم النظريات الحديثة عن الكون ، ونشأته ، وتطوره ، بما في ذلك خلق ، أو تشكل ، كواكب ، وحتى عوالم جديدة ، وبما فيها نظرية الانفجار العظيم . ونختم هذه الفقرة بتأكيد حقيقة تقول : أن فك تحالف الدين والدولة ، الكنيسة والسلطة ، كان هو قاطرة الدفع ، هائلة القوة ، لتطور العلوم ، وتقدم الحضارة . كما أن مواصلة رفض هذا الفصل ، الفك ، ومقاومة إحداثه ، لا يعني غير مواصلة رفض العلم ، ووضع العصي في عجلات الصعود على سلم الحضارة .
علوم إدارة الدولة :
من جديد عاد معاوية يسأل : هل اقتصرت دعوات فك التحالف بين الكنيسة والسلطة ، بين الدين والدولة ، على حاجة تطوير الصناعة لتقدم علوم الطبيعة ؟ وهل كانت مثل هذه الحاجة كافية لفك تحالف بهذا الرسوخ ، يعود إلى عمق التاريخ ، أو آلاف عدة من السنين ؟ أجبت: بالطبع لا ، رغم أنه عامل شديد الأهمية . فهناك عوامل تطور الدولة نفسها ، وقبل ذلك استهداف الثورات لنقل أوروبا من مرحلة الإقطاع إلى الرأسمالية . قال : وكيف كان ذلك ؟
عندما قامت الثورة الفرنسية – البرجوازية - لم يقاومها الملك وأسرته كأكبر ملاك للأرض ، وكبار الإقطاعيين فقط . كانت هناك الكنيسة التي ملكت مساحات من الأرض ، توازي ما كان بحوزة العائلة المالكة . وكان الفلاحون في أرضها أقنانا كغيرهم ، توجب على الثورة تحريرهم . وبديهي أن الكنيسة قاومت ذلك وبضراوة . والأمر ذاته تكرر في الثورة الروسية . يعني أن الكنيسة ، ومن اليوم الأول وضعت نفسها في موقف الصدام مع السلطة الجديدة ، بديلا للتحالف الذي كان مميز العلاقة مع السلطة القديمة .
قبل ذلك كانت دعوات المفكرين لفك هذا التحالف قد بدأ صوتها يعلو منذ منتصف القرن الثالث عشر ، وإن اقتصرت في البداية على حض الملك على التحرر من سطوة الكنيسة . لكن ظلت الظروف العامة غير مساعدة على الاستجابة لهذه الدعوات ، حتى كانت الثورتان ، البرجوازية والصناعية . وفي شرقنا ، وعند التطرق لهذا الموضوع ، يتم القفز على حقيقة أن الثورتين المذكورتين أحدثتا سلسلة من القفزات في حياة المجتمعات ، من حيث تنوع متطلباتها . هذا التنوع والتطوير الدائب للاهتمامات والاحتياجات والمطالب ، أوجب تطوير أجهزة الدولة وتشعب مسؤولياتها . كيف ؟
قبل الثورتين – البرجوازية والصناعية - ، اتسم جهاز الدولة ومسؤولياتها تجاه جماهيرها بالمحدودية . قبلها كان عدد مساعدي الملك معدودين على أصابع اليد الواحدة . وكان جهاز الوزارة ، بمعنى تعدد الوزارات والوزراء لم ينشأ بعد . ومثلما كان في الشرق ، ظل الملك يكتفي بوزير واحد ، وكاتب أو مستشار لا أكثر . لكن الوضع الجديد فرض توسعا في مهام ومسؤوليات الدولة ، وتعقيدا يزداد كل يوم في إدارة شؤونها . وباختصار لم يعد ممكنا إدارة الدولة بالمناهج السابقة . تطلب الحال تطوير هذه الإدارة . التطوير الذي أفضى إلى ظهور فرع جديد في العلوم هو فرع الإدارة ، الذي تطور كما نعرف إلى علوم عدة . ثم خلق تعقيد مهمات الدولة ، وعلاقاتها مع الدول الأخرى ، بروز علم آخر هو علم السياسة ، ليتطور بدوره إلى العلوم السياسية . ما يعنينا هنا أن علوم الدين ظلت غير قادرة على مواكبة هذا التطور ونشوء هذه العلوم . وكان استمرار تدخل الدين في السياسة لا يعني غير : أولا إعاقة تطوير هذه العلوم ، وثانيا خلق مصاعب ، وارتكاب أخطاء ، بأضرار فادحة ، خصوصا في الاقتصاد ، وغيره من المجالات البعيدة عن اهتمام رجال الدين ، ليصبح الفصل ضرورة ، بعد أن كان صيحات ، أو دعوات ، يطلقها المثقفون ، ويعارضها الواقع المعاش .
وللتدليل على ما نقول ، نشير إلى أن الامبراطوريات القديمة ، امبراطورية الاسكندر ، الأمبراطورية الرومانية ، الفارسية ....الخ ، ورغم اتساع أراضيها لم تعرف نظام الوزارة ، ولو بشكل قريب مما هو عليه الآن . فالخلافة العربية وفي أوج عصرها الذهبي ، أيام الرشيد ، وحيث كانت تمتد من سور الصين العظيم شرقا ، إلى مياه الأطلسي غربا ، لم تحتج إدارتها لأكثر من وزير واحد ، هو يحيى البرمكي . واليوم تحتاج دولة صغيرة ، بحجم قطاع غزة لأكثر من عشرين وزارة . في لبنان أكثر من ثلاثين وزارة . وفي نظام إدارة الوزارات تنقسم الوزارة الواحدة إلى دوائر عدة ، وكل دائرة إلى فروع ، يرئس كل واحدة موظف كبير أو أكثر . ويشاهد المواطن كيف أن التطور ، واتساع مسؤوليات ومهام الدولة ، يتطلب استحداث المزيد من الوزارات الجديدة كل يوم . ففي فلسطين مثلا هناك أكثر من وزارة جرى استحداثها في العقدين الماضيين ، كوزارة شؤون المرأة ، وزارة البيئة ، وزارة التعليم العالي ، الشؤون المدنية والقروية – الحكم المحلي – التخطيط والتعاون الدولي ، الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ....وهناك اليوم من يطرح فكرة استحداث وزارة تعنى بشؤون المنظمات الأهلية غير الحكومية .
ومع ذلك يلاحظ المتمعن في قراءة التاريخ ، أن الفصل بين سلطة الكنيسة وسلطة الدولة ، لم يحدث بسرعة ، أو نتيجة للصراع التناحري أيام الثورة . لقد استمر دور الكنيسة بعض الوقت ، وليتقلص بالتدريج ، مع تطور علوم الطبيعة ، وتطبيقاتها في الصناعة من جهة ، ومع توسع مهام ومسؤوليات الدولة ، وتطور علمي الإدارة والسياسة ، من جهة أخرى . ولا أظن إلا أن القارئ يتذكر حادثة تتويج نابليون امبراطورا جديدا على فرنسا . كان البرتوكول يقضي بأن يقوم البابا بوضع التاج على رأس الملك ، كرمز لسلطته عليه . وفي تتويج نابليون تلكأ البابا ، ربما بغرض تأكيد معنى هذه الرمزية ، فما كان من نابليون إلا أن أخذ التاج ووضعه على رأسه ، منهيا دور البابا هذا ، مرة وإلى الأبد .
تراجع مظاهر التدين :
هنا عاد معاوية ليسأل :هل أدى فك التحالف – الفصل بين الدين والسياسة بتعبيرات الحاضر – إلى إحداث آثار سلبية على الحالة العامة لتدين الجمهور ، بمعنى إضعاف الحالة الإيمانية ، فابتعاد الناس عن دور العبادة ؟ قلت : الجواب الصحيح ، ولكن المبسط وغير الشافي ، هو لا لتدين الجمهور ، ونعم على مصالح المؤسسة الدينية . لذلك دعنا نتمعن في الأمر قليلا . بداية فرض الوضع الجديد وجوب وقوف السلطة – الدولة – على مسافة واحدة من جميع الأديان والطوائف الدينية المتواجدة في البلد . هذا التوازن أطاح بامتيازات كبيرة كانت مضمونة ومتحققة لطائفة بعينها ، هي الطائفة الأكبر في البلد . من هذه الامتيازات أنه كان يجري تدريس مناهجها في المدارس الحكومية ، في حين كانت مناهج الأديان والطوائف الأخرى مستبعده . وهكذا اقتضى التوازن ، والفرص المتساوية ، إلغاء هذا الامتياز ، بوقف تدريس المناهج الدينية في المدارس الحكومية . ومنها أيضا أن رجال الدين ، للطائفة الكبيرة كانوا يشكلون المرجعية للحاكم ، وهم بوضعهم هذا ، ولصفتهم الدينية ، حازوا على حصانة وضعتهم خارج إطارات المساءلة والمحاسبة . وحمت امتيازاتهم المادية ، أملاك الكنيسة مثلا ومعاملاتها التجارية ، وبنوكها فيما بعد ، من المراقبة ، ومن الضرائب المستحقة ....الخ . والنظام الجديد قلب هذا الوضع بجعل البرلمان مرجعية الحكومة ، ونقل ولاء السلطة من المؤسسة الدينية إلى الجمهور الذي ينتخب البرلمان فالحكومة . والأهم نقل مركز التشريع من يدي المؤسسة الدينية إلى السلطة التشريعية . كما نقل القضاء من بين يدي سلطة المؤسسة الدينية ، إلى الاستقلال التام ، وليشكل هذا الاستقلال الضلع الثالث من مثلث نظام الدولة الحديثة .
هنا قد يتبادر لذهنك ، كما لذهن القارئ ، سؤال : ألم تكن سياسة إلغاء تدريس مناهج الدين ، في المدارس الحكومية ، وفي وسائل الإعلام الحكومية ، هي المسؤولة عما آلت إليه حالة اللاتدين التي تسود أوروبا خصوصا والغرب عموما ؟. وجوابي هو : بالقطع لا . حالة اللاتدين ، في الحقيقة والواقع ، ترجع إلى التطور العاصف الذي تشهده العلوم الطبيعية ، والتي تكشف لنا كل يوم عن قوانين تناقض القوانين والقواعد الدينية . وهذا هو مربط الفرس في كل سياسة ودعاية رجال الدين في شرقنا ، على تنوع منطلقاتهم ، في معارضة الفصل بين الدين والسياسة . ودعنا نؤجل الوقوف على هذه الحقيقة مؤقتا لنقول :
لو أخذنا العربية السعودية كمثال فسنرى التالي . تسخر الدولة كل مؤسساتها الفاعلة ، من المدرسة حتى الإعلام ، بتشعباته المتعددة ، مرورا بالمؤسسة الدينية وتفرعاتها ، لنشر تعاليم المذهب الوهابي خصوصا ، ومذهب السنة عموما . وتجمع الدولة السعودية بين أسلوبي العصا ، وهي غليظة ، والجزرة ، في دعم ونشر مذاهبها المشار إليها . ورغم وجود طائفة شيعية كبيرة الحجم ، موزعة بين شرق السعودية وغربها ، فإن مناهج هذه الطائفة لا تجد لها طريقا إلى ، ولا تحظى بأي دعم من ، مؤسسات الدولة سالفة الذكر . ورغم مرور السنوات ، على المرء أن يسأل : هل تراجع تمسك الشيعة بمذهبهم ؟ وهل يتوسع المذهب الوهابي على حسابهم ؟ بمعنى هل نجح الوهابيون في إغراء ، أو إقناع ، شيعة على ترك تشيعهم والانتقال لاعتناق المذهب الوهابي ؟ على حد علمي ذلك لم يحصل ولا يحصل .
ومالنا نذهب بعيدا . عندنا في فلسطين طوائف عدة . دروز ، بهائيون ، سنة ، إضافة للطوائف المسيحية المتعددة . واحدة فقط ، هي السنة التي تجد مناهجها الطريق إلى المدارس الحكومية ، وإلى الوسائل الإعلامية ، صحافة ، إذاعة وتلفزيون . والسؤال : هل يكتفي ، وهل يعتمد ، رجال الدين السنة على هذه الوسائل وحدها لنشر وتعليم مناهجهم ؟ وهل لو توقف استخدام هذه الوسائل ، سيلحق هذا التوقف ضررا بأصحاب هذا المذهب ؟ والجواب بالقطع لا . والشاهد أمامنا شديد الوضوح والدلالة ، يقدمه حال الطوائف الأخرى ، التي لا تجد مناهجها طريقا ، مهما كان ضيقا ، إلى الوسائل السالفة . ألا يرى الناس حقيقة كاشفة وهي أن أتباع هذه الطوائف ، رغم غياب الوسائل الحكومية عنهم ، أكثر التصاقا بمذاهب طوائفهم قياسا بغيرهم ؟ وإذن وإذا ما عدنا للسؤال الخاص بحالة التدين أو اللاتدين ، نتبين أن المسألة هي مسألة تقدم العلوم الطبيعية ، والضرر الذي تلحقه بمصالح من يصفون أنفسهم بسدنة الدين ، من بين رجال الدين . المسألة هي العداء لتقدم هذه العلوم ، هذا العداء الذي يجري تمويهه بأساليب ووسائل متنوعة . كيف ؟
علمانية تركيا :
قبل الإجابة لنتوقف هنيهة عند علمانية تركيا ، التي تستثير حالة من الجدل في بلدان الربيع عموما ، وفي مصر خصوصا . ونشير إلى حقيقة بسيطة ، وهي أن المتتبع لحالة الجدل هذه ، خصوصا بعد زيارة أردوغان لمصر وتونس ، يرى كم هي محاولات تضليل الجمهور ، بحقيقة العلمانية ، فجة ومكشوفة . وأكتفي للتوضيح بالوقوف على مقال للكاتب الموصوف بالإسلامي المعتدل ، الأستاذ فهمي هويدي ، نشره في الشروق المصرية ، عدد 11 / 10 الجاري تحت عنوان : علمانية تركيا . ورغم المعروف عن هويدي بأنه موسوعة معرفية ، فقد حملت كل جملة في مقاله مغالطة للحقائق المعروفة . ولأن محاولة تفنيد مغالطات هويدي تحتاج لصفحات طويلة ، سأقصر التوقف على بعضها ، للتدليل على حكمنا ، الذي سبقت الإشارة إليه قبل بضعة أسطر . يقول هويدي أنه كان مدعوا إلى ورشة عقدت في اسطنبول حول التحديات الجديدة التي طرحتها الثورات العربية ، وأنه قيل الكثير في الورشة عن العلمانية ، وتوجهات دعم الأوروبيين للعلمانيين والليبراليين المصريين في الانتخابات القادمة ، وبما لم يشأ التعليق عليه . لكنه دعي إلى عشاء حضره عدد من كبار رجال الدولة ، إضافة لقادة الفكر ، بينهم وزير الخارجية داود أوغلو ، ونائب رئيس الحزب عمر جليك ، ومستشار رئيس الوزراء د. إبراهيم كالن . وعلى المائدة جرى حديث غير رسمي ، حاول المسؤولون فيه تبديد ما وصف بسوء الفهم لتصريحات أردوغان عن العلمانية ، في لقائه مع الإعلامية المتميزة ، منى الشاذلي ، والتي سبقت زيارته لمصر .
في هذا اللقاء أدلى هويدي بدلوه ، وحيث وافقه هؤلاء المسؤولون ، كما قال . قال أنه أشار إلى مقال كان قد كتبه عقب زيارة أردوغان لمصر ، أشار فيه إلى أن الديموقراطية ، وليس العلمانية ، هي من حملت أردوغان وحزبه إلى كرسي الحكم ، في حين أن العلمانية حملته للسجن ، لأنه ردد أشعارا لأحد المسلمين المتدينين . ويمضي هويدي في القول بأن العلمانية المطبقة الآن في تركيا ليست هي التي طبقت في ثلاثينات القرن الماضي التي بدأت مخاصمة للدين ورافضة لتعاليمه وتقاليده حتى حظر اسم الإسلام ، وأصبح أداء الجندي أو الضابط للصلوات مبررا لفصله من الجيش . ويقول أن المضيفين وافقوه بهزات من الرأس . وفي الجلسة شرح ، لا فض فوه ، بأن العلمانية صارت مصطلحا فضفاضا يحتمل تأويلات عدة ، منها مثلا أن العلمانية الفرنسية مخاصمة للدين ، في حين أن العلمانية الانجليزية متصالحة مع الدين ، بدليل أن الملكة رأس الكنيسة . وهكذا غدت العلمانية إما أنها تحتمل نفيا للدين ، وإنكارا له ، وإما تصالحا معه واعترافا به ، وعليه يمكن أن تكون بابا لإقصاء الدين كلية أو لإضعافه وتهميشه فقط .
وأنا هنا لا أريد أن أعطي توصيفا ، ليس للكلام السابق فقط ، بل لكل ما ورد في هذه المقالة من مغالطات ، حتى لا أقع في المحظور ، بتسطير عبارات يعف عنها لساني . لكن كثيرا ما تساءلت : هل حقا تصور كاتب مثل الأستاذ هويدي أن القارئ جاهل ، أو فاقد لأهلية استخدام عقله ، حتى يمكن قذف مثل هكذا كلام في وجهه؟ !!! . أو أن نزاهة الكاتب تستغل ضعف معرفة القارئ بحقائق تاريخية ، كالتي جرت في تركيا ، تبيح له أن يبصق في وجهه بمثل هكذا مغالطات ؟!!! . فهل يستطيع الأستاذ هويدي ، ومن هم على شاكلته ، أن يتحفنا بمثال واحد على مخاصمة الدولة الفرنسية للدين ؟ وهل حقا يتصور أن نبلع قولا برئاسة ملكة لا تحكم ، ولا دور لها في سياسة بريطانيا ، لكنيسة ، يعني مصالحة الدولة للدين ؟ ويا ترى ما هو مفهوم المصالحة والمخاصمة عند الأستاذ هويدي في هذه المسألة ؟
لا أعرف لأي موسوعة علمية استند هويدي في وضع العلمانية كنقيض لِ، أو في تعارض مع ، الديموقراطية . هل هو لا يعرف حقيقة أنهما وجهان لعملة واحدة ؟ وهل هو يا ترى يملك من المعلومات عن معاداة علمانية الثلاثينيات التركية للدين ، ما لا يعرفه غيره ؟ مثلا هل أقفلت تركيا المساجد آنذاك ؟ وهل حبست وأعدمت رجال دين ؟ وهل أحرقت المصاحف وكتب الدين الأخرى ؟ وهل وهل كثيرة .
ولكي لا نجيب بصورة مباشرة ، وكي لا يتهمنا الأستاذ هويدي ، ومن هم على شاكلته بالإنحياز لعلمانية تركيا في الثلاثينات ، نعرض للقارئ معلومات تتعمد نزاهة هويدي وأمثاله تجاهلها ، والأدق إخفاءها .
علمانية أتاتورك :
سيعرف أي متصفح لموقع أتاتورك في ويكيبيديا ، أو غيرها من الموسوعات ، أن أتاتورك لم يهبط على كرسي الحكم في تركيا بالبراشوت . هو ناله عن استحقاق . وتقلد منصب رئيس الجمهورية بالانتخاب ، وبموجب نظام ديموقراطي أدخله هو لا غيره ، إلى تركيا . ولم يطلق الأتراك عليه لقب أتاتورك ، أي أبو الأتراك ، لأنه كان ديكتاتورا . وهو لم يدخل إصلاحا على الحكم لم يحظ بمصادقة البرلمان . ولم يحظ بلقب باني تركيا الحديثة ، وأبو الأمة ، وحافظ وحدة الوطن ، لأنه كان معاديا للدين . وهو بالمناسبة لم يكن ملحدا .
حظي على هذه الألقاب لأنه ببساطة كان بطلا قوميا . حمى تركيا من المصير العربي بإحباطه لمخطط سايكس بيكو الذي قسم تركيا ، كما الهلال الخصيب ، بين الدول المنتصرة في الحرب . وبدل الاستسلام للمخطط ، كما فعل العرب ، قاد ما تبقى من الجيش ، وحارب جيوش أربع دول ، اقتسمت تركيا ، ومن ثم أعاد توحيدها . لكنه لم يتوقف عند هذه المأثرة التي حظيت بتأييد التيارات الدينية أيضا . تطلع إلى إعادة بناء الدولة . واقتنع أن إعادة البناء على الأسس القديمة ، أي ترميم النظام السابق ، لا تنهض بتركيا ، لتواجه المخاطر المحيطة . كما لا يمكن له أن يصون لها وحدتها . كما اقتنع أن تخلف تركيا ، وبقاءها في العصور الوسطى ، كان نتاجا طبيعيا للنظام الديني السابق . ولأنه طمح إلى تحديث تركيا ، ودفعها للدخول إلى عصر الحضارة ، ومواكبة الدول العصرية ، رأى لزاما على تركيا ، التحول في الحكم من النظام الديني إلى نظام مدني . أي سعى إلى استبدال النظام القائم ، الذي أنتج كل هذا التخلف لتركيا ، بنظام ديموقراطي علماني . هكذا ألغى الخلافة وأعلن الجمهورية ، وبتفهم ومساندة كاملة من الجماهير التركية .
ولأن النظم لا تبنى بالإعلانات ، ولا بالنوايا الحسنة ، اتخذ الإجراءات ، ونفذ الخطوات التالية . 1-نقل عاصمة الدولة من استنبول ، صعبة الدفاع عنها وحمايتها ، إلى أنقرة ، في حضن الأمة ، وتحت رعايتها . 2- حول التعليم من ديني إلى مدني ، مركزا الاهتمام على العلوم الطبيعية وتدريسها . هنا توجب أخذ تدابير ، وتطبيق نظم ، تحول بين رجال الدين والتدخل في العملية التعليمية . 3- حول اللغة من اعتماد الحروف العربية ، إلى الكتابة بالحروف اللاتينية ، ليزيح ، بهذه الخطوة ،عن كاهل الأجيال الجديدة ، عبء حمل تراث الماضي الثقيل ، والذي لعب دورا كبيرا ، في وصول تركيا إلى الحال الذي كانت عليه . وبتحويل حروف الكتابة بقيت العودة للتراث مقصورة على المعنيين ، من الدارسين والباحثين . ومرة أخرى كان لا بد من اتخاذ تدابير وإجراءات تحول بين رجال الدين ومعارضة هذه الخطوة . 4- ولأن خطوات التحديث ، ومستجدات الحياة ، احتاجت نظاما قانونيا يسايرها ، ولأن النظام القانوني السابق ، والقائم على الشريعة ، كان قاصرا عن المواكبة ، اضطرت الدولة للاستعانة بالقانون السويسري . ومرة أخرى تطلب الأمر كف يد رجال الدين عن محاولات الإعاقة . 5- ولأن هدف التطوير تطلب تحديث مؤسسات الدولة . ولأن نموذج التحديث المطلوب كان قائما في الغرب ، والعديد من مؤسساته لم يعرفها النظام القديم ، ومنها تعدد الوزارات ، واستحداث نظم البلديات ، وغير ذلك الكثير . ولأن إدارة هذه المؤسسات يتطلب منع رجال الدين من التدخل في شؤونها ، وهم ما كان من الممكن أن يسلموا بسلب صلاحياتهم الكثيرة ، كان بديهيا حدوث التصادم مع الدولة . وكان بديهيا أيضا اتخاذ الدولة لمواقف وإجراءات حازمة تحول بين رجال الدين ومثل هذا التدخل . 6- ولما كانت الدولة الناشئة ستحمل كل هذا العبء ، من تركة الماضي الثقيلة ، ولما كان الشعب مقيدا بأغلال التخلف والأمية ، وبالتالي كانت احتمالات التراجع عن الديموقراطية ، وحلم بناء الدولة الحديثة ، واردة ، كان لزاما على القيادة إنشاء ضامن ، حارس ، حافظ ، للحلم الوطني هذا . وكان أن وجدت القيادة ضالتها في الجيش ، الذي طرد الأعداء ، وحال دون تقسيم الوطن ، وحافظ على وحدة الأمة . ولما كان من غير المحتمل تخلي رجال الدين عن دورهم التاريخي داخل الجيش ، الذي استمر قرون طويلة ، كان لا بد من إبعادهم عنه ، وبتدابير وإجراءات شديدة الصرامة . وهذا كله ما وصفه الأستاذ هويدي بمخاصمة الدولة للدين الإسلامي . ولعلنا في ختام هذه الفقرة نسأل : هل ينتوي المطالبون بعودة الخلافة ، العودة باللغة التركية إلى نبذ الحروف اللاتينية ، فالرجوع إلى الكتابة بالحروف العربية ، لكي تستقيم أمور الخلافة ؟ ألم يسألوا أنفسهم مرة لماذا لا يطرح حزب العدالة والتنمية هذه المسألة في برامجه ؟ وليسألوه هل يجرؤ أحد في تركيا على الاقتراب من المساس بسيرة أبي الأتراك ، أتاتورك ؟ وإذا كان قد فعل كل ما طرحه الأستاذ هويدي ، ألا تكون مراجعة مسيرته واجبا ملزما لحزب العدالة والتنمية ؟
هل هو العداء للديموقراطية أم للعلوم الطبيعية ؟
وفي ختام العرض الذي تقدم ، على مدى الحلقات الثلاث السابقة ، يبرز سؤال يقول : بالنظر إلى ما تبرزه أطروحات ومواقف تيارات الإسلام السياسي من العلمانية ، ومن الديموقراطية ، فلأي منهما بالتحديد توجه سهام عدائها ؟. والجواب هي توجهها للاثنتين معا . ومن جديد يبرز السؤال : وإذن كيف ؟
لا تحتاج الإجابة على السؤال الأخير ، في رأينا ، إلى عمليات نبش في أدبيات هذه التيارات . هناك مواقف ، إيراد بعضها أكثر من كاف . ونبدأ مع الديموقراطية .
في سبتمبر أيلول الماضي وقع حادث مع أبناء الدكتور محمد مرسي ، أمين عام حزب الحرية والعدالة – الإخوان - . لم يكن هذا الحادث كاشفا فقط ، وإنما جاء شديد الدلالة . الإبنان ارتكبا مخالفة سير – ركنا سيارتهما في مكان محظور الركون فيه - . تقدم ضابط سير لإزالة المخالفة . فما كان منهما إلا أن اعتديا عليه ، لأنه لم يتعرف على مقامهما السامي . وفي تكرار فج لتصرفات أبناء المسؤولين للعهد البائد . وبلغت وقاحة الولدين حد دفع الضابط إلى البكاء من حدة الإهانة ، وتعاطف المارين الذين حاصروا المعتديين ، وأجبروهما على التوجه لمركز الشرطة . وفي المركز لم يكتف المعتديان بما حدث ، ولكنهما حاولا تلفيق تهمة للضابط بالاعتداء عليهما ، وبالقذف والسب في حق أمهما . وبعد عشر ساعات أجبر الضابط ، بتواطؤ من ضباط كبار ، على التنازل والصلح مع المعتدين .
حتى الآن والأمر عادي . تكرر حدوثه كثيرا في العهد البائد . أما غير العادي فكان أن فرع الحزب في المحافظة ، التي وقع فيها الحادث أصدر بيانا ، يطفح بالكذب والتزوير . برأ البيان أبناء قائد الحزب ، وكال تهما شتى للضابط الذي تجرأ على محاولة إزالة مخالفة ، ارتكبها أبناء الزعيم . ورضي القائد الملهم بما انتهت إليه الحادثة .
قد يقال : أين القضية التي تطرحها الحادثة ؟ والجواب مركب . أولا : كثيرا ما أتحفنا قادة حزب الحرية والعدالة برواية الحكايات عن عدل عمر ، وعدم تفرقته في الحق بين الناس ، ولدرجة أنه لم يكتف بإقامة والي مصر الحد على ابنه ، لارتكابه جرم شرب الخمر ، لشبهة محاباة الوالي لابن الخليفة . أعاد عمر حد ابنه ، وكان مريضا . ورفض عمر توسلاته بأن حده وهو مريض سيقتله . أقام عمر الحد ومات ولده . وكان معنى الإصرار على تكرار إيراد روايات حوادث العدل هذه ، أن الإخوان سيتبعون ذات طريق العدل ، في حال وصولهم للحكم . وقالت الحادثة أن كل تلك الدعاية كانت كذبا في كذب . فليس فقط أن الدكتور مرسي رضي بعدم إحقاق ، وإهانة العدالة ، بل ولم يتحمل زعماء حزب العدالة مجرد فكرة مساواة أبناء الزعيم ، مع خاصة وعامة الناس ، في الامتثال للقانون ، وخرجوا ببيان ، لم يكتف بتضليل العدالة ، بل ذهب إلى حد التلفيق والتزوير المفضوح لوقائع الحادثة . وثانيا : لو وقع هذا الحادث في بلد ذي نظام ديموقراطي ، لترتب على زعيم الحزب هذا الاستقالة فورا من منصبه ، ولهبطت بيانات مساندة أبناء الزعيم ، بشعبية الحزب إلى الحضيض . فهل ذلك ما يسعى إليه حزب العدالة ، الذي لم يكتف بما حدث ، بل وواصل اتهاماته لوسائل الإعلام بما وصفه بتسقط زلات الحزب ؟.هل موقف كهذا يدلل على قبول بالديموقراطية ، أم على عداء متجذر وعميق لها ؟
وعن العداء للعلوم : نذكر القارئ أنه وبعد مرور أكثر من خمسة قرون ، على اكتشاف دوران الأرض ، ورؤية الناس لذلك رأي العين ، بالصور التي زودتنا بها مكوكات ورحلات الفضاء المتعددة ، طلع علينا الشيخ عبد العزيز بن باز ، المفتي لعام السابق للسعودية – توفي العام 99 – بفتوى يخرج فيها من يقول بدوران الأرض من الملة ، لورود آيات في القرآن تقول بثباتها . والطريف أن دور الإفتاء الإسلامية لم تبطل هذه الفتوى . وعلى القارئ أن يحاول تخيل ما المحتمل أن يفعله أئمة الإفتاء هؤلاء ، لو قيض لهم هم محاكمة كلا من كوبرنيكوس وغاليلو ؟ هل كانوا سيكتفون بحرقهما ؟
لكن من يوصفون بالأئمة الآن ، وبتوجيه من الدولة ، تجاوزوا الوقوع في المطبات ، التي توفرها مثل هذه الفتاوى الخرقاء ، باعتماد مناهج تتميز بحدة الذكاء . تقوم هذه المناهج على استخدام علماء ، في العلوم الطبيعية ، بتفسير قوانين الطبيعة لصالح الدين . هؤلاء العلماء الذين لم يوفر لهم علمهم فرص الثراء التي حلموا بها ، اهتبلوا فرص توظيف علومهم في خدمة الدين ، للانقضاض على فرص الثراء الذي طال الحلم بها . هؤلاء اخترعوا شيئا اسمه : الإعجاز العلمي في القرآن ، وملخصه أن كل مكتشفات العلم الحديث ، وردت لها إشارات في القرآن . وجاءت فرصتهم عبر تنطعهم لتوفيق هذه المكتشفات مع الإشارات .
كثيرون عملوا في هذا المجال ، ربما أبرزهم أستاذ علم الجيولوجيا السابق في جامعة القاهرة ، الدكتور زغلول النجار . في طلة له في إحدى الفضائيات ، فسر النجار الآيتين : " والأرض بعد ذلك دحاها " 30 النازعات ، و" والأرض وما طحاها " 6 الشمس ، بالتالي : قال لا فض فوه أن الأرض في البدء كانت كلها ماء . ثار بركان في البقعة التي فيها مكة ، واخذ يقذف حممه لتتكون أرض . ومرة بعد مرة توسعت رقعة الأرض حتى غدت في النهاية على شكلها الحالي . المذيع ، وببلاهة يحسد عليها سأل : هل هذه نظرية صحيحة يا دكتور ؟ أجاب الدكتور : هي صحيحة ومثبتة أيضا .
ومؤخرا طلع علينا الدكتور النجار بفتوى علمية تقول بأن عمر الأرض هو ستة آلاف سنة فقط ، ولتتطابق مع عمر الأرض حسب نظرية الخلق في القرآن والتوراة . ولم يسأل أحد الدكتور زغلول عن موقفه من شهادته للدكتوراة ، والتي نالها على دراسة وتدريس علم يقول بأن عمر الأرض يزيد على خمسمائة مليون سنة ، وأنه ظل يدرس طلابه ولعشرات السنين ، كيفية قياس عمر الصخور ، وليستنتجوا أن الصخور تكونت في أزمان مختلفة ، وأن بعضها يعود لمئات آلاف السنين ، وأخرى لعشرات الآلاف . فهل اقتنع الدكتور الآن بعدم صحة علم الجيولوجيا ، الذي يحمل شهادة الدكتوراة فيه ؟ وهل سيتخلى عن شهادة يحملها في علم كاذب ، أم أنها باب الرزق الذي لا يستغني عنه ؟
أخيرا نكتفي بالواقعة التالية . لاشك يذكر القارئ كيف هلت علينا الفضائيات العربية بالكشف العلمي ، الخاص بماء زمزم ، ليقطع كل شك حول خواصه ، هذه الخواص التي هي مصدر قدسيته . قال الخبر أن عالما يابانيا – لاحظوا يابانيا – وبعد بضع سنوات – خمس – قضاها في مختبره يبحث في خصائص ماء زمزم – لم يقل الخبر أفي اليابان أم في السعودية - توصل إلى اكتشاف الإعجاز التالي : إضافة كمية صغيرة من ماء زمزم – لتر مثلا – إلى أية كمية من ماء آخر – متر مكعب مثلا – فيتحول هذا الماء إلى ماء زمزم . وسبحان الله على هذا الإعجاز ، وما على المؤمنين سوى القبول والتصديق .
وإذا تجرأ واحد يستخدم عقله على السؤال : لما كانت خواص كل ماء صالح للشرب ، تحددها نسب الأملاح والعناصر التي يحويها ، ولما كانت هذه العناصر والمركبات لا تتكاثر بالانقسام كالأميبا ، فكيف إذن تنتقل خواص ماء زمزم إلى الماء العادي الآخر ؟ وللتوضيح أكثر ، إذا كانت نسبة بايكربونات الكالسيوم مثلا هي ملغرام واحد لكل لتر في ماء زمزم ، يكون لدينا ملغرام واحد في اللتر الذي سكبناه في المتر المكعب – ألف لتر - من الماء الآخر الذي يحوي نسبة أقل ، أو أكثر من نفس المركب ، فكيف ستصبح هذه النسبة هي ذاتها في ماء زمزم ؟ هل ينقسم مركب بايكربونات الكالسيوم ، والعناصر والمركبات الأخرى الموجودة في ماء زمزم ، مثل الأميبا أم ماذا يحدث ؟ وهل يتوقف الانقسام عند بلوغ النسبة المطلوبة ، أم ماذا يحدث ؟ أسئلة مثل هذه ستكون بلا شك غبيه . ما على السامع إلا أن يردد : سبحان الله .
والحقيقة أن العالم لم يخطئ . ذلك أن كل المياه العذبة ، أي الصالحة للشرب ، بما فيها ماء زمزم ، متماثلة من حيث التكوين الأساسي . وربما كان الترويج لهذا الاكتشاف العجيب ، وسيلة للتخفف من عبء ذنب تحميل ملايين الحجاج مياها ، يقال أنها من ماء زمزم المقدسة ، في الوقت الذي يعلم فيه القائمون على الحرم المكي أن لا صلة لها بماء زمزم ، لا من قريب أو بعيد .
وبعد : بوصولنا إلى نهاية هذه الحلقة ، نكون قد مهدنا الطريق ، لنقاش برامج تيارات الإسلام السياسي عن التنمية ، والاقتصاد الإسلامي ، بلسم شفاء اقتصاد مصر من علله ، ومن ثم قوانين الشرع الإسلامي الكفيلة بتخليص مصر من آفات الانفلات الأمني التي تعصف بها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا بعد سيطرة إسرائيل على معبر رفح وما موقف القاهرة ؟| المس


.. أوكرانيا تعلن إحباط مخطط لاغتيال زيلينسكي أشرفت عليه روسيا




.. انتفاضة الطلبة ضد الحرب الإسرائيلية في غزة تتمدد في أوروبا


.. ضغوط أمريكية على إسرائيل لإعادة فتح المعابر لإدخال المساعدات




.. قطع الرباط الصليبي الأمامي وعلاجه | #برنامج_التشخيص