الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ماهية المسرح العراقي المعاصر

سرمد السرمدي

2011 / 10 / 21
الادب والفن


يمثل الهدف الرئيسي لهذه المسرحية توضيح واقعة المقابر الجماعية وتداعياتها في أطار تخيلي يرتكز الى براءة الأطفال من جهة وقتامة المشهد المأساوي لهذه الواقعة على جه الخصوص والعراق في ظل النظام الدكتاتوري على وجه العموم, عرض مسرحية ( الأختيار) الذي قدم مؤخرا من على خشبة مسرح كلية الفنون الجميلة التابعة لجامعة بابل في العراق, وهو للكاتب والمخرج المسرحي العراقي حسن الغبيني.
انطلق العرض المسرحي كتجربة فنية، لا بد من ذاتيتها ابتداء، ولكن هذا من قبل المخرج المسرحي قد يكون لأقصى مدى في باقي العرض لمسرحية واقعة المقابر الجماعية بحيث يتحول الاعتماد على التجربة الذاتية له إلى كلي، وبالذات في صياغة بناتئ فني ذاتي بالضرورة، إما كيفية إن يكون ذلك مؤثرا في ذات العرض المسرحي والمتلقي، هذا يمكن إن يقاس حسب التجربة ذاتها، أي التي بني عليها العمل الفني، ولا يمكن الوقوف عند ذلك فحسب، فمسالة كونها ذاتية أي لا تمثل غير المخرج المسرحي في كونها واقع ذاتي، وكونها ألان إمام اختبار موضوعي بيد أنها أدخلت لعملية تأمل المتلقي، يمكن إن يؤدي لهدم اقوي رابط فني موجود، ونعني، الموضوعية.
إن تضمين مخرج هذا العرض المسرحي اتخذ صفة موضوعية في عرض تجربة ذاتية من خلال الضبط التام ولأعلى النسب للتجربة الفنية، ولكن ليس من المعقول إن تتصف بالموضوعية وهي لا تمت للفعل، وللمتلقي ، بصلة ، وهكذا تجربة ليست ناقصة بالمعنى الحرفي باعتبارها قائمة بذاتها ، ولكنها غير منتجة بالمعنى الدقيق علميا، فهنالك الأساس الضامن للموضوعية وهو غير موجود، ونعني به فاعلية المتلقي.
كان المخرج مهتما ومنصتا للوثيقة وللتجربة، فلم يعتزل العرض المسرحي واقع المتلقي العراقي أكثر مما يشهد هذا العصر ، وكتجربة ناتجة منتجة ، نرى العرض المسرحي على المحك ، في كنه ركنا من أركان حركة التطور الإنساني الفكرية أو مجرد وظيفة تقليدية تقترب من كونها تفقد ماهيتها شيئا فشيئا ، وتتحول لصفة أخرى، إعلامية بالضرورة ، أو دعائية ، أو أسلوب تفكير خرافي بواقع المتلقي العراقي ، على أساس الرفض المادي دون البت في كفة المعنوي المطروح، وليس من شيء يجعل العرض المسرحي في مصاف الفلسفة المثالية السابقة ، إلا كونه يقصد ذات المصير، فحينما تعجز وسيلة تأملية في القضايا المثالية كما حدث مع الفلسفة المذكورة ، أكيد وحسب حركة التغيير المسارعة ، سنا عنها الفكر ، وليس للمسرح من مصير معلوم والطريق ذاتها غير ذات النهاية.
ان فنية التجربة الذاتية في هذا العرض المسرحي تتحقق قعليا من خلال البناء العملي للتجربة ذاتها كعملية، وكما ذكرنا هنالك تلك المساحة الذاتية الفنية للمتلقي التي تضمن ذاتية التجربة له، ومجمل البناء المحال موضوعيا هو اساس ذاتية المخرج المسرحي، وكنتاج موضوعي على اسس رؤية اخراجية لرؤية طرح فني، لا بد والحال فضلا عن ذلك ، ان ينتج معادلة نتائج موضوعية.
اما الجانب الثاني فيتاسس من كون المخرج المسرحي هو بذاته يكون بناء فنيا بحتا يجعل من مجموع المتلقين امام التموضع كخيار طوعي لا ارادي، حيث يحدث ذلك بوضوح نسبة عالية من الذاتية الفنية، رغبة في التمثل الامثل للطرح، ولكن الحاصل هو هدم للبناء لعلمي المرتكز اساسا على كون الذاتية الفنية هي الجوهر الخالص وليس الية الطرح الفني المعتمدة والحال، والحال بذلك تقتضي الى توحد ذاتي في اطار التموضع من قبل المتلقين لمواجهة حد الانصهار في العمل دون وعي بان هكذا توجه هو بالفعل تاسيس لهذا الانصهار الذاتي، وتترتب على هذه العملية نتائج ذاتية بحته بناء على زيف موضوعي للتجربة، وازاحة غير مبررة للحيوية الانسانية في تجربة هذا العرض المسرحي الدرامية ذات الصفة الفنية، ولكي لا تبدو الصورة باسوء مما هي حقيقية، نقول بان التفاعل الذاتي للمتلقي ان لم يجد طريقا لنتائج موضوعية بلا ادنى تموضع مفترض من قبل ذات المخرج المسرحي، فان التجربة اقتربت من ما كان يحدث في عرض مسرحي الواقعة رغما عن كل البناء العلمي المفترض.
ان الفاعلية التي يؤسسها العامل الحيوي الانساني للمتلقي تفرض على البناء العلمي للتجربة الفنية ما لا يمكن اغفاله من الدافع التفاعلي الذي يجر التجربة بمجملها لنطاق العرض المسرحي لواقعة المقابر الجماعية في العراق ، ولذلك فان نسبة الفاعلية تؤسس علاقة طردية مع موضوعية التجربة ذاتها.
يبدوا من المعقول القول بكون الصفة الفنية بمثابة الضمان الوحيد والاساسي الذي يمهد للتجربة موضوعية النتائج، والا فكون البناء العلمي يتخذ من الذوات المكونة للنتاج طريقه للتموضع ليس بالخيار المنطقي ، انما هذه الذوات تحقق فرديتها من خلال المرور بالتجربة على وفق فنية بناء علمي متفاعل.
ان فنية التجربة الذاتية البحتة، لا تاتي من تصورات مخرج مسرحي مجردة عن الواقع الفعلي، وليس مدعاة للاختبار المصدري الذي يتاسس من تجربة مخرج مسرحي ذاتية كفرد واقعي متفاعل مع واقعه ، وكما ان المتلقي، المفروض ، متفاعل مع واقعه، وله من الذاتية ما يملك في ان يجسدها واقعيا فيما قبل وبعد التجربة الفنية، للفنان فضلا عن ذلك ، ولكن لا نقول الفرق بل التميز الفني للفنان كذات انعكاسية للواقع الفعلي ، هي تجعله يلازم فنيته الذاتية حتى في الواقع الفعلي ، ويكون التفاعل في الواقع كفنان ، وفي التجربة الفنية على شكل تصور ذاتي للذاتية بحد ذاتها.

يبدأ العرض المسرحي بخروج عدد من الأطفال من بين الجمهور متجهين صوب خشبة مسرح العلبة التقليدي وعندما يعتلون الخشبة اخيرا يتوقفون عن ترديد الكلمات التالية بعد ان تنخفض الأضاءة:
لو كان الحب كافيا لتغير كل شيء..
يرتدي كل من افراد مجموعة الأطفال فوق ملابسهم الممزقة خيطا حول اجسامهم يحمل عدة صفحات من الورق الأبيض ليحيل المخرج هذه الأضافة على سينوغرافيا المشهد للصفحات التي يمليها الأنسان طوال حياته وتبقى مرتبطة به عند وفاته الا ان الحال هنا يخص اطفالا صغار بعمر الورد فلم يكن لديهم الوقت لملأ هذه الصفحات ولم يستطع أي منهم كتابة قصته عليها, وذلك يتضح من خلال الأستلاب الذي تعرضوا له وهم يعتلون خشبة المسرح أي ان هذه الحركة الأدائية اوضحت كيف ان الأنتقال من اسفل الى اعلى يتطلب جرأة من قبل المخرج ليهاجم بها تلك التابوات المعتمة والتي بالضرورة جرت هؤلاء الصغار ليكون مكانهم في الأسف تحت التراب.
تتجه المجموعة باكملها لتلتقي معا على خشبة المسرح واذا بها تلتقي وجها لوجه مع طفل اخر مسجون في مثلث لعبة بليارد معلق بحبل من الأعلى يتدلى حول رقبك الطفل الذي يرتدي نظارات طبية بناء على ما تعارف عليه المد المعرفي لتصوير المثقف او الأنسان الذي تجرأ ان يفكر بكونه يرتدي نظارات طبية جراء كثرة القراءة او لعوق ما اصابه اثناء حياته البائسة في بلد يشتهر بصنع رصاص اكثر من الكتب.
وحين ينتفض الأطفال المكونين للمجموعة التي خرجت من الأسفل الى الأعلى بأن يرموا عنهم احمالهم من الوراق التي تلفهم وتخنقهم يبدأ مشهدا خاصا بالطفل الكاتب حين يخرج الجميع ويبقى وحده يتساءل:
الكاتب:
انا شاهد عصر... يجب على الناس ان تعرف الحقائق..
ويدخل في صراع مع اثنين من الشخصيات التي تدخل من جانبي اليمين واليسار ترتدي احداها الأبيض والأخرى الأسود في احالة الى الصراع الزلي بين الأنسان والخير والشر الذي يكمن في داخل نفسه وخارجها.
يدخل اليه من جهة اليمين شخصية ترتدي الأسود تحاول ان تزرع اليأس في داخله وتثبت له لا جدوى البحث عن الحقيقة التي يريد الوصول اليها حول ما يحدث من انتهاكات للأنسانية في العراق:
الأسود:
ماذا تريد ان تعرف ومافائدة بحثك
الكاتب:
اريد ان اعرف لماذا .. لماذا كل هذا القتل والبساطيل .. رأيت اطفالا مشوهين وشممت رائحة الدم واحياء يدفنون في مقابر جماعية واهات واهات
الأسود:
انسى هذا البحث.. عليك ان تكتب عن غير هذا الواقع.. فالواقع في مكان اخر وهذا ليس الواقع...
المجموعة تدخل وتردد هذه الجملة مستنكرة:
المجموعة:
الواقع ليس في مكان آخر.. الواقع ليس في مكان آخر..
ويبقى بعد خروج المجموعة من جهة اليسار احدهم الذي بدوره يحاول تذكير الكاتب بدوره ومسئوليته في نقل الحقيقة , وبعده تدخل الشخصيات التي تمثل مآسي الأطفال العراقيين المدفونين منهم في مقابر جماعية والمدفونين احياء في اثار الحروب والظلم والدكتاتورية:
الطفل الأول:
انت يا من هناك.. اياك والكذب.. هذه هي احلامي.. جراء الحروب.. ذهبت في السراب ..انا الآن بلا اب..ولا ام..
الطفل الثاني:
انت يا من هناك.. اياك والكذب.. انظر.. لقد شوعتني القذيفة.. واخذت عمري..انا الآن بلا يد..
الطفل الثالث:
انت يا من هناك.. اياك والكذب.. انظر الي لقد شوهتني القذيفة لقد اكلت عمري.. كنت بعمر الزهور انظر..انا الآن بلا قدم..
الطفل الرابع:
لقد عذبني الطغاة.. قلت لهم لم ارى شيء.. انا مجرد عابر سبيل.. اطفأوا النور في عيني..
الطفل الخامس:
عتيك عتيك عتيك للبيع..
وهكذا يستمر المخرج في ارسال هذه الصور الى خشبة المسرح لتمثل كل بدورها بحالتها الخاصة ذات البعد الذي ترمي اليه المسرحية بشكلها التوثيقي العام لمأساة المقابر الجماعية وتداعياتها من خلال تسليط الضوء على الدفن الحاصل للأحلام قبل الأجساد.
ينهار الكاتب وهو يرى كل هذه الصور امامه, وعنده يدخل طفل اخر من جهة اليمين يجسد دور الميت:
ليس هنالك مستحيل في كل ما رأيت, انظر لي, انظر, انا كنت هناك ورأيت كل شيء , اهي الصدفة التي قادتني هناك ام هو قدري,, رأيتهم يموتون واحدا بعد الآخر.. وبقيت انا وقلت ماذنبي.. قالوا لي انك شاهد عصر... صرخت ولم افعل شيء. انا لست من هؤلاء لكن صرخاتي ذهبت سدى ولقد رموا علينا التراب.. التراب..
المجموعة تدخل من جهة اليسار لتردد :
المجموعة:
لقد انهال علينا التراب..
وبعد خروج الميت والمجموعة ينهار الكاتب اخيرا وتصيبه هستيريا يواجه بهالا الجمهور وهو يتحرك يمينا ويسارا كالمجنون:
الكاتب:
ماذا اقول.. علي ان اكتب كل شيء.. كل شيء..
ان اقول الحقيقة وليكن ما يكن ..
يدخل الأسود ويضربه.
الأسود:
الحقيقة في مكان آخر..
ويدخل الأبيض ليهدأ من روع الكاتب فيقول له:
الأبيض:
انت حر.. انت حر.. لكن لا تنسى انك انسان.. الأنسان كلمة ..
الأسود:
ان قلتها تمت .
الأبيض:
وان صمت تمت.
يدخل الميت من اعلى المسرح ليكون مع الأبيض والأسود مثلثا حول الكاتب:
الميت:
اذن.. قلها ومت.
تدخل المجموعة واحدا تلو الآخر مرددين هذه الجملة ثم يرددها الجميع معا.

على مدى عشرين دقيقة اتخذ المخرج طريقه ليجسد هذا العرض المسرحي الإدانة لمرتكبي جريمة المقابر الجماعية بوصفها احدى جرائم الأبادة الجماعية المدانة دوليا من جهة وبكونها واقعة تخص الشعب العراقي بكل طوائفه ومذاهبه وقومياته من جهة اخرى, ويؤكد في هذا الصدد من خلال خطابه الذي اعتمد الكاتب كمحور للحدث بصفته راوي وضحية في ذات الوقت ان مسئولية احقاق الحق وانصاف ضحايا هذه الجريمة يقع على كل عراقي وكل من مجاله وحسب قدرته, وفي هذا العرض رسالة الى رجالات الفن المسرحي وكافة المثقفين العراقيين للعمل على توثيق هذه الواقعة فنيا وثقافيا كما حدث في هذه المسرحية.
عمل الكاتب المخرج على أن يبين من خلال مسرحيته إن عملية دفن المتوفين تندرج ضمن الطقوس المقدسة التي نصت عليها الشرائع والأديان السماوية وغير السماوية على مر التاريخ حفظا لكرامة بني البشر, كما اوضح كيف يمثل الاعتقال الجماعي دون مذكرة قضائية جريمة يحاسب عليها القانون الجنائي ضمن إطار الاتفاقات الدولية المتعلقة بحقوق الفرد مقابل الأحكام العرفية وممارسات الأجهزة الأمنية والقوات العسكرية في أجواء السلم والحرب على حد سواء, شرح كيف يجسد التعذيب الجسدي والنفسي للمحتجزين بشكل فردي أو جماعي من أبشع الوسائل المتبعة في إتمام عمليات التحقيق مع المتهمين وخاصة عندما لا توجه لهم التهم بالشكل القانوني الأصولي المعمول به في الدول التي ساهمت بصياغة قانون العهد الدولي الخاص بمراقبة أداء الحكومات والدول في توفير كافة الحقوق لمواطنيها, كما ادرج ما يعرض أن عمليات القتل الجماعي لمجموعة من البشر دون محاكمتهم تعتبر من أبشع الجرائم التي ظلت شاخصة لتشهد على مدى تأخر الوعي الإنساني في استيعاب حق الحياة, وأيد اعتبار عمليات دفن البشر في مقابر جماعية من جرائم الإبادة الجماعية التي هي ضد الإنسانية وفق ما نصت عليه المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان, وتجدر الأشارة إلىى انه أكد اعتبار المجتمع الدولي إن جريمة المقابر الجماعية المكتشفة في العراق بعد 2003م هي الدليل الوحيد القاطع الذي بقي ليجسد مدى القمع والإرهاب الذي تعرض له الشعب العراقي في ظل تسلط ذلك النظام مما يفقده الشرعية الوطنية لحكم الشعب العراقي.

الكاتب
سرمد السرمدي
ماجستيرفنون مسرحية,كليةالفنون الجميلة,جامعةبابل,العراق








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي