الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في كيف يجري ابتذال مفهوم -البرنامج السياسي-

محمد الهجابي

2011 / 10 / 22
مواضيع وابحاث سياسية


الداعي إلى إثارة هذا الموضوع، موضوع "البرنامج السياسي"، هو اقتراب دخول الأحزاب السياسية المغربية إلى الحملة الانتخابية، في إطار الدستور الجديد، لأجل انتخاب أعضاء البرلمان الجديد، والتهييء، في ضوء ذلك، لتشكيل الحكومة الجديدة.
وهذا الداعي حفزني إلى العودة قليلاً إلى الوراء. ذلك أنّه في نقاشاتنا، التي لم تكن تنتهي خلال سبعينات وثمانينات القرن العشرين، لم نكن، نحن مناضلو اتجاه في اليسار الراديكالي المغربي، نملّ من التداول في مفهوم "البرنامج السياسي" وصيغه المتعددة.
كنّا نحاول أن نفهم الفروق الحاصلة بين شتى المفاهيم التي تؤطر لمسألة صياغة مهام سياسية لنضالنا. لم نكن نجازف بمفهوم عفوي أو اعتباطي أو نزوي، أو هكذا كان يبدو لي، في موضوع تحديد مهمات النضال وأهدافه. لم يكن تواضعاً منّا فحسب، ولكن أيضاً اعتباراً لمسألة مفادها أنّ تعين مهام المرحلة وغاياتها ضمن صيغة برنامجية، التعيين الدقيق، هو الذي من شأنه أن يسهم في الحصول على المكاسب والنجاحات.
لذا، كنتَ ترانا نخوض في مفاهيم من قبيل: "الأرضية السياسية"، و"البرنامج السياسي المرحلي"، و"البرنامج السياسي العام"، و"البرنامج السياسي المشترك"، و"نقاط برنامجية"، و"الخطة البرنامجية"، و"برنامج الثورة الوطنية الديموقراطية"، و"البرنامج الاشتراكي".. إلخ، تماماً مثلما كنّا لا نتوانى في خوض نقاش آخر حول الصيغ التنظيمية الحزبية الأنسب: "منظمة شعار"، و"منظمة أهداف"، و"منظمة انتقال" و"حزب ثوري جماهيري"، و"حزب ثوري بروليتاري"، و"حزب سياسي".. وهلمجراً، والغاية هي وضع الإطار التنظيمي الملائم الذي يناسب حجمنا، ولكنّه، في المقام الأول، يتصادى مع الحاجة "الحقيقية" التنظيمية المطابقة لطبيعة المهام السياسية المسطّرة.
لقد ظللنا نقيم تراتبية في الأشكال البرنامجية والتنظيمية الانتقالية في اتجاه الأفضل، لكنّها، في الدرجة الأولى، الأكثر ملامسة لحقيقتنا التنظيمية العيانية، في ضوء تفاعل جدلي لعلاقات النظرية بالاستراتيجية بالتاكتيك.
اتجاهنا الفكري واليساسي الديموقراطي الراديكالي ذاك، كان مختبراً للفكر السياسي أو للثقافة السياسية بامتياز. وكنّا حالمين بالقدر نفسه الذي كنّا فيه متواضعين نرغب باستمرار في الاقتراب أكثر من الواقع.
اليوم، ونحن في بدايات العقد الثاني من القرن العشرين، لم يعد للنقاش هذا حول مفهوم "البرنامج السياسي" من معنى، كما لم يعد هناك من معنى في الإقدام على الإعلان عن تأسيس "حزب سياسي" جديد.
لا يهمني هنا إعادة أجواء النقاش الذي كان يحصل بيننا في "ما مضى" حول مفهوم "البرنامج السياسي"، وأيّ الصيغ الأنسب، ما يهمّني، بالأحرى، هو الإشارة إلى الميوعة التي صارت تطبع المفهوم لدى "الأحزاب السياسية" في راهن حالنا المغربي.
صحيح أنّ شروط السبعينات، والثمانينات حتى، من القرن العشرين، ليست هي الشروط ذاتها لمغرب القرن الواحد والعشرين، وصحيح كذلك أنّ المد الفكري والثقافي السياسي، زمنئذ، لم يكن ليستثني بلداً من البلدان. بيد أنّ العالم تبدلّ بالكامل. نحن اليوم إزاء توسع ديموغرافي عالمي كبير، وأمام تحولات في المؤسسات وفي تكنولوجيا الاقتصاد والمعرفة والإعلام لا مثيل لها في ما سلف. لم تبق للفكر السياسي (أو للفلسفة السياسية) تلك الجاذبية التي كانت تحظى بها لدى مناضلي القرن العشرين يساراً أو يميناً على حد سواء. الآن، انتصرت السياسة، إن صح القول، على الفكر!؟
يحلو للبعض تسمية هذا الطراز الجديد من السياسة ب"البراغماتية السياسية"، أي السياسة التي تمتح شروط ممارستها من الواقع الملموس نفسه. ليست هذه السياسة _ في عرف هؤلاء _ في حاجة إلى تأطير نظري أو فكري أو فلسفي أو ثقافي سياسي. إنّ الواقع هو الذي يملي على الممارسة السياسية مستلزماتها ومحدداتها.
وهكذا، ففي الوقت الذي ما يزال فيه البعض يردّد أقانيم نظرية كالببغاوات، ومن المرجّح أنّه سيبقى يرددها "إلى آخر يوم الدين"؛ أقانيم لم تعد تترجم الحاجة السياسية الراهنة كما تقرها الوقائع الجارية، صار البعض الآخر، من جانبه، لا ينفك يطارد كلّ إعمال للتفكير (من الفكر) ومراجعة وتقويم، مثلما لو كان يطارد الساحرات. والاتجاهان معاً يتفقان على فكرة مؤداها أنّه لا حاجة اليوم إلى فكر سياسي وثقافة سياسية جديدين، بقدر ما أنّ هناك حاجة إلى ممارسة السياسة، ممارستها وفق "أجندات"، وكيفما صادف. والأحكم ممارستها انطلاقاً من حاجة انتهازية ضيقة ووصولية ليس غير، أو تحت ضغط إكراهات الجاري من الأحداث والوقائع. إنّها السياسة السياسوية. السياسة التي تنظر إلى السماء من داخل قعر البئر، فيتحدد نظرها إلى رحابة السماء، بالتالي، تبعاً لحجم سعة فوهة البئر!
ليست السياسة الممارسة من طرف أحزابنا، معظم أحزابنا، ب"السياسة الواقعية"، فللسياسة الواقعية أحكامها. ومن ذلك، إجراء تحليل للواقع ولمعطياته وتقويمها بما يستبق ويتكهن ويحتمل ويخدم التقدم. ومن ثمّة تعيين مهام العمل السياسي وأهدافه بما يعزز المكاسب، ويقوي الموازين في أفق إحراز خطوات ثمينة وجديدة. إنّه التحليل الذي لا يتأخر عن فهم مستجدات الواقع، ولا يقفز عنه إلى الأمام نحو "مجهول سياسي غير محسوب". ليس ما يمارس من قبل أحزابنا ب "سياسة واقعية"، بل هي "سياسة انتهازية". ليست بسياسة تقدّم، وإنّما هي سياسة تخلّف.
إنّ السائد في الممارسة الحزبية، بمغرب اليوم، هو الفساد السياسي. هذا هو المفهوم الدقيق لهذا الضرب من العمل السياسي القائم لدى الطبقة السياسية الحالية.
من هنا، هذا التمييع الحاصل في التعامل مع مفهوم "البرنامج السياسي"، وباقي مفاهيم السياسة كالديموقراطية، والمؤتمر، وهيئات القرار الحزبية، والزعامة، والقيادة، والقوانين التنظيمية، والانتخابات.. إلخ. لقد طال التمييع كلّ المفاهيم المتداولة في المشهد السياسي.
وإذا كان مفهوم "البرنامج السياسي" في العقود القليلة الأخيرة قد بات يرادف، في أغلب الأحيان، مفهوم "البرنامج الانتخابي" في حالة الشروع في التحضير للانتخابات التشريعية بخاصة، ومفهوم "البرنامج الحكومي" في حالة ما إذا جعلت الممارسة السياسية الحزبية تتجه نحو المشاركة في الحكومة، فإنّ "البرنامج السياسي المرحلي"، الذي كان الأكثر تداولاً، إبّان السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، لدى المعارضة تحديداً بحكم السياق السياسي الذي كان يحكم تلك الفترة من تاريخ المغرب الحديث، تراجع إلى الوراء، واستعيض عنه منذ "حكومة التناوب التوافقي"، تعييناً، ب"البرامج" ذات الصلة بمزاولة السلطة إمّا داخل المؤسسة التشريعية، وإمّا داخل السلطة التنفيذية.
لقد غدا مفهوم "البرنامج"، في الخصوصية السياسية الجارية منذ أزيد من العقد، محكوماً بمفهوم "المشاركة" من داخل النظام السياسي القائم، أي من زاوية انتزاع أكبر قدر ممكن من أصوات الناخبين التي، بدورها، تيسّر انتزاع أكبر قدر ممكن من الحقائب الوزارية.
وعلى سبيل المثال، يمكن القول إنّ أغلب قوى اليسار المتنفذة انتقلت من مفهوم "البرنامج السياسي" للمعارضة إلى " البرنامج السياسي" للمشاركة. وهذه الرجّة في مفهوم "البرنامج" لم تصاحبها أو ترفدها رجّة في الثقافة السياسية تمنح للمفهوم إطاره النظري والفكري. افتقاد مفهوم البرنامج لمسوّغاته الفكرية جعل برامج الأحزاب السياسية أقرب إلى تكييف سياسوي لنزوعات نحو انتزاع مقاعد بالبرلمان، ثمّ بالحكومة، منها إلى فهم لحقائق الوضع السياسي، واهتبال إمكاناته الإيجابية للدفع بها في اتجاه التقدّم.
إنّ تحكم هذه النزوعات السياسوية لدى الأحزاب جعل من مقترحاتها "البرنامجية" تكتسي طابع المزاودة دونما تقدير لما إذا كانت المقترحات إيّاها مطابقة لشروط الفترة أو ما إذا كانت قابلة للتنفيذ. من هنا، هذا الانطباع السائد عند المواطنين من أنّ "برامج" الأحزاب السياسية، فضلاً عن أنّها مجرد نسخ مصورة، مع بعض تصرف فيها يختلف من حزب للآخر، إنّما هي عبارة عن شعارات تدغدغ أحاسيس الناس، وتتلاعب بأحولهم المعيشية، وفي أحسن الأحوال عبارة عن "بيانات سياسية" تتذاكى عليهم (من مثل 100 إجراء أو كذا رقم للنهوض ب...؟). وهو انطباع تؤكده، للأسف، الممارسة السياسية اليومية للفاعلين السياسيين.
انتفى ذاك الميسم الاعتباري لمفهوم "البرنامج" لصالح ممارسة سياسية لا تمتثل لمقتضى "البرنامج السياسي" بقدرما تتمثل لمطلق الأهواء والرغبات والمطامح والمصالح السياسية الضيقة الفردية والفئوية. لم يعد "البرنامج السياسي" مقياساً لأهلية الحزب نحو ولوج البرلمان أو الحكومة. ولم يعد البرنامج هو القاعدة التي تنبني عليها التحالفات الحزبية، وإنّما صار همّ التواجد السياسي عند الأحزاب، كيفما اتفق، في مختلف المؤسسات هو الهاجس الحاضر والطاغي. تراجع مفهوم "البرنامج السياسي" لفائدة الشعارات، والبولميك، والمزايدات، والمؤامرات، والكواليس، والحبكات، والهرولة السياسية.. وهو ما يجري اختزاله في اصطلاح " ثقافة السياسية السياسوية"، أو بتعبير آخر: "لغة الخشب". وهو أمر له وطيد الصلة بعملية جارية تتوخى تبخيس العمل السياسي والممارسة الحزبية.
إنّ الفساد السياسي له الوقع الأكبر على وضع الدونية الذي أمست عليه السياسة، والابتذال الذي مسّ مفهوم "البرنامج السياسي"؛ وضع ساهمت فيه الأحزاب والدولة. والتّمييع الذي لحق بمفهوم "البرنامج السياسي" هو، بالأحرى، ناجم عن هذا الفساد الذي أصاب المشهد السياسي ببلادنا.
ولأنّ السياسة أضحت شأناً مباحاً ولجه الفاسدون بتشجيع من الدولة أولاً، وبدعم من لوبيات المال ومبيضيه، ومن محترفي الرشوة والسمسرة، ومن مهربي السلع والمخدرات، وناهبي الثروات الوطنية في البر والبحر والسماء وتحت الأرض.. إلخ، وبتحريض من الأحزاب السياسية التي تنافست بشره على كسبهم والدفع بهم إلى المؤسستين التشريعية والتنفيذية، فإنّ هؤلاء الفاسدون حملوا معهم إلى السياسة جرثومة الفساد والريع، وحرصوا على توسيع مداراتها وفضاءاتها لتعمّ مؤسسات الدولة والمجتمع. ولأنّ الفاسدين (المفسدون) أدركوا أهميّة السياسة في التغطية على ممارسة الفساد وضمان حصانات استشرائه وتأمينه فقد أمطروا بأموالهم الفاسدة خزائن الأحزاب السياسية، وضمنوا، بالتالي، ناطقين باسمهم وممثلين عنهم في أجهزة هذه الأحزاب. يكفي الإلماع إلى حجم قضايا الفساد التي أحيلت على القضاء، والتي شكّل البرلمانيون، وأعضاء البلديات، وحزبيون متنفذون، ووزراء عنصرها الأساس.
إنّ الفساد السياسي نقل إلى السياسة ثقافة لا تعرف من السياسة غير ما يجعلها ضمانة لثبيت مصالح الفاعلين فيها. وكان من النتائج المباشرة لهذا التحول في المنظومة الحزبية وفي الجسم السياسي هو تراجع الثقافة السياسية إلى مستويات من الدونية، أدت إلى تحقير مفاهيم السياسة من قبيل مفهوم "البرنامج السياسي".
وفي الوقت الذي كان المؤمل فيه هو انخراط الأحزاب في المنافسة البرنامجية بناءاً على مقارعة الحجة بالحجة، في إطار من التحاجج المدني، صرنا نشهد وضعاً من التلاسن والتهاوش والتناوش والتهارش بين المكونات الحزبية أخرق، لا يخلو من سفالة وسفاهة فاضحتين.
إن "البرنامج السياسي" هو سياسي في المقام الأول قبل أن يكون مسودات أبواب وفصول وبنود وأرقام وخبراء ووعود. وهو مسؤولية والتزام بوصفه يقرّر في مصير بلاد ومستقبل حيوات بشر لسنوات وسنوات. وإذن، فالحاجة اليوم إلى إعادة الاعتبار لمفهوم "البرنامج السياسي" هو رهين بتحرير السياسة من الدخلاء عليها من ذوي الفساد الإداري والمالي؛ وهي حاجة ذات صلة بتشييد ثقافة سياسية مغايرة بالكامل للحاصل. وهذه مهمة الأحزاب السياسية، تبدأ من اليوم والآن، ما دامت الأحزاب هي المعنيّة بها في المرتبة الأولى.
*محمد الهجابي (روائي مغربي)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو طريف.. كاميرا مراقبة ترصد ما فعلته دببة شاهدت دمى تطفو


.. الرئيس العراقي: نطالب المجتمع الدولي بالضغط لوقف القتال في غ




.. سقوط مزيد من القتلى والجرحى مع تواصل القصف الإسرائيلي على غز


.. أكسيوس: إسرائيل قدمت خطة لمصر لإدارة معبر رفح| #الظهيرة




.. ما -الحكم العسكري- الذي يريد نتنياهو فرضه على غزة في اليوم ا