الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رماد الذاكرة: شعرنة تاريخ الخوف

سعد محمد رحيم

2011 / 10 / 23
الادب والفن


تبدو قصائد مجموعة الشاعر كاظم الواسطي ( رماد الذاكرة/ دار ميزوبوتاميا ـ بغداد ـ 2011 )، للوهلة الأولى، شديدة الذاتية، إلاّ أنها، في العمق، تنهض وتنمو على خلفية من معضلات وتحولات تاريخية.. إن الذات فيها تحيا في فضاء ملتبس وهائج لا تستطيع التنصل منه أو التنكر له. ولذا جاءت القصائد وكأنها تجسيد فني لتاريخ الكفاح الإنساني في عالم يعج بالقسوة والألم.. ففي كل قصيدة نستطيع سماع صوت الجماعة وكأنه يصدر من وراء ستار مثل أنغام كورال مصاحب لصوت الشاعر.. صوت الكورال هذا خافت وخائف لكنه مفعم بالرجاء. يظهر في حالات مختلفة كما لو أنه يؤكد مع الصوت الظاهر علاقة تعاطف وتعاضد حيناً وعلاقة تضاد/ طباق ومشاكسة حيناً آخر.. ربما هو انطباع شخصي أن أشعر بأن هذا المقطع المحكي بضمير الـ ( نحن ) تردده مجموعة منشدين:
"معاً/ نحتسي المرَّ خمرة/ وتلك مشيئة أن نبقي الليل/ طعماً/ يسود المذاق/ عادة للسكون/ وشرط بقاء".
ثم يعقب ذاك مقطع آخر محكي، هذه المرة، بضمير المخاطب، وهنا يتغير الانطباع، فالشاعر لابد من أنه يخاطب نفسه:
"تطاولت أنت بحب جديد/ فكن شاخصاً/ بلا حركة/ وإذ تستطيل قليلاً/ بأيد خفية/ تثقبك الطلقة".
ينفصل الشاعر عن ذاته ويخاطبها مباشرة، وهو يراها وقد تشظت، تناثرت بين الأسئلة الحادة، والأجوبة المرتبكة الناقصة.. "أي كاظم/ تعال، ما دمت وحيداً هذي الليلة/ نرى ما فينا/ أحزاننا، ما تهشم منا". كما لو أن الذات التي يناجيها هي في حالة استعادة موجعة لأصداء سنواتها الضائعة، وتصفية حساب مع تاريخها، فتراها تطيل النظر إلى أعماقها الغارقة في الأسى والحنين. "ما الذي جنيته من تلك المشاوير/ ومحطات العذاب/ حقائبك معبأة بأصوات الغائبين/ وضجيج الأحياء".
يحيل الشاعر تجربته الخاصة بكل ما تختزن من لوعة وحب وعذاب وإحباط وأمل إلى صور وخيلات شعرية.. يستعير هذا النوع من القصائد ممكنات السرد وأفقه حيث الجمل الشعرية تتواتر وكأن بعضها يولِّد بعضاً.
"نحن الرجال المؤجلين إلى إشعار آخر/ أقسمنا أيضاً/ أن ندفع فاتورة الهواء/ قريباً من حاجز الجوع/ نكدس مواجع الأمس/ في سلال اليوم المثقوبة/ وأن يكون لنا/ صخب الدهماء/ غذاء". هنا يفضي الانكسار والهزيمة إلى العدمية.. إلى نوع من جلد الذات.. إن طبقة رقيقة من المازوكية تغلف سطح هذه القصيدة وسطوح قصائد أُخر:
هذه القصائد كُتبت تحت طائلة التوجس.. إنها كلمات تسعى إلى أن تكون مراوغة، مخاتلة.. يفترض الشاعر أنه موضع تهديد.. إن هناك من يتربص به وبأشعاره، لذا كانت هذه الأشعار تميل حيناً نحو الإبهام والقتامة. وقد تفتقد، حيناً آخر، عنصري الإشراق والوضوح، لكنها تعوض ذلك بشيء من قوة التعبير والزخم العاطفي.. وقد تغدو أحياناً أقل سلاسة وكأن في حلقها غصة.. إن تدفق الجمل يُعترض فجأة بكلمات غير متوقعة، تجريدية.
"هو/ وجه بلا فضاء/ استقر خائفاً/ على حافة ليست له/ من فرط النسيان/ أو الإهمال/ ربما/ فقدت الأشياء ذاكرة الشكل/ والوجه/ مهدد أبداً/ بمساحة فارغة". وثمة مناطق كثيرة للصمت في هذه المجموعة: "بح صوت المنشدين في غياهب الخرس".
ما يسعى إليه الشاعر هو مقاومة النسيان.. أن تبقى الذاكرة حية، مترعة بالتفاصيل.. أنْ تظل الفرصة سانحة دوماً لتأريخ التجربة؛ تجربة الذات في محيط تعوزه شروط الكرامة الإنسانية. أو لنقل أنها ابتغت شعرنة تاريخ الخوف؛ أن تشعل جذوة الجمال تحت رماد الذاكرة نكاية بالقبح:
"خلسة/ يقضمون تفاحة المزرعة/ يحتسون من أباريق/ ليست لهم/ خمرةً ألفت شفاهنا/ واليوم عنوة/ يدخلون مخادع البراءة/ يفتشون الوسائد/ يطاردون أحلاماً فقدوها/ في عتمة النهب ونضوب/ الروح/ وفي كل خطوة لهم/ يُكسر غصن/ وتُتلف وردة".
لا أدري لماذا اختار الشاعر ترتيب قصائد مجموعته بحسب تواريخ كتابتها ( 1986 ـ 2002 ).. لعله ارتأى أن يضحي بالتناغم الشكلي لكلية قصائده، ( على وفق ترتيب آخر يقوم على أساس تناسق الموضوعات مثلاً ) من أجل عرض سيرته الشعرية في منعطفاتها وانتقالاتها عبر محطات الزمان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين


.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ




.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي