الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراق... رهين المحبسين.

خالد صبيح

2011 / 10 / 25
مواضيع وابحاث سياسية



السيناريو الليبي بتميزه وفرادته في سياق الربيع العربي الذي ادخل المنطقة العربية إلى التاريخ بدويّ يليق بإرثها التاريخي والحضاري؛ هذا السيناريو أوشك أن يحدث شبيه له في العراق عام 1991 لولا بعض التداخلات والمفارقات. حينذاك إجترحت أقسام من الجيش العراقي، المكلوم من هزيمته في حرب قاسية، انتفاضة وانشقاق مسلح فاق كثيرا انشقاقات جيش العقيد الليبي التي شرخت وحدة القوة لديه؛ وترافق حينها مع هبة الجيش العراقي، تمرد وانتفاض أربعة عشر محافظة سقطت بيسر وسرعة بأيدي المنتفضين، وهي مدن تفوق مساحتها الجغرافية وحجمها الديموغرافي وكذلك أثرها الأمني والسياسي بكثير مدينة بنغازي التي انطلقت منها شرارة الثورة الليبية. لكن الانتفاضة العراقية، وعلى العكس مما انتهت إليه قرينتها الليبية التي تتوجت ثورتها ببسمة النصر المشرقة، قد أخفقت لأكثر من سبب، بعدما غرقت بالدمع والدماء، وأول أسباب إخفاقها هو أن زمن الانتفاضة العراقية كان غير زمن ثورة الشعب الليبي ضد هوجة حكم العقيد. لقد كانت المجتمعات العربية آنذاك تستنيم بعلاقة شبقية مريبة مع الاستبداد السياسي الذي بدا حتى قبل لحظات من سقوط نظام بن علي وهروبه المدوي وكأنه قدر ملازم وصفة محايثة للمجتمع العربي. بمعنى لم تكن هناك أية سابقة تحررية يمكنها أن تحفز الرأي العام للتعاطف وقبول (هفوة) العراقيين القاتلة آنذاك مثلما هو عليه الواقع الآن بعد نسمات الحرية التي نثر ضوعها الربيع العربي، أقول بالإضافة إلى هذا الاستسلام المحزن للاستبداد كان هناك أيضا خوف، لا يخلوا من بعض الانبهار، من البديل الإسلامي المتحفز للانقضاض واستبدال الأدوار ليغرق المنطقة كلها في ظلامية قروسطية تخرجها من التاريخ مرة واحدة والى الأبد. لكن وعلى ارض الميدان فان ما أعاق تطور الانتفاضة العراقية وتحولها إلى أداة تغيير للنظام وإيذان جديد يفتح الآفاق لتغيرات واسعة في المنطقة، كما يحدث الآن، تختصر الطريق وتوفر الوقت لشعوب المنطقة، هو تركيبة العراق الاجتماعية وموقعه الجغرافي القلق والمقلق في آن واحد.

واقعيا كانت حينذاك كل مقدمات ما حصل في ليبيا بعد عشرين عاما متوفرة وبأنصبة اكبر من الإقناع والمعقولية. فحينها انكشف للعالم مدى طغيان واستبداد وغطرسة نظام البعث وصدام حسين ومدى خطورته وقدرته على نثر الشر والآلام التي لاتمنعها حدود ولا تشكمها قيم.( وهل في السياسة ولعبة القوة التي تزدهي بها من قيم؟) . أيضا كانت لدى أمريكا وأتباعها كل المبررات والأغطية السياسية والقانونية والمعنوية للانقضاض على النظام ألبعثي،( وليس كما حدث في الواقعة الليبية حيث عسرت همهمات روسيا والصين وثبة الناتو على حكم العقيد) فهي ( امريكا) كانت قد فرغت للتو من تعبئة كل العالم بما فيهم العرب، الممانعون منهم وغير الممانعين، وراء تسريّها في حرب محسومة لتحرير منبع النعم المسجل دوليا باسم دولة الكويت.

إذن كانت كل موجبات ما وقع في ليبيا بعد عقدين ماثلة في الأرض العراقية في عام 1991. لكن أمريكا، ووراءها كثيرون، امتنعت عن نصرة العراقيين رغم تحريضها لهم على سلطان حكم صدام حسين الدموي. والسبب الأهم لهذا يكمن في (سقطة) العراق الجغرافية التي أوقعته بين حوضين متشددين ومستنفرين طائفيا، هما إيران والسعودية، وفي سقطته التاريخية التي جعلته متعدد الطوائف والأديان والقوميات. هاتان (السقطتان) سببتا له مأزقا تاريخيا سيجعله، مابقي على ارض الجغرافية وصفحة التاريخ، مشدودا لمشيمات خارجية، ومنغمسا في أدران صراعاتها. وليس معنى هذا الكلام أن العراق كان كفزاعة طيور ساكنة في مهب الألعاب الإقليمية تحركه وتهيجه قوى خارجية، بل على العكس فطالما شكل العراق في تاريخه المعاصر مصدر قلق وإخافة لكل جيرانه. ولمن هم وراءهم أحيانا. لكنه لخصوصية تاريخية وجغرافية اكتسبت صفة قدرية في مساراته جعلت تحركه مرهونا بتوازنات تتخطى تخومه.

تحفزت إيران إبان الانتفاضة العراقية لقطف ثمرة أعدت لها سنوات طويلة تسبق في الزمن ثورتها الخمينية وحربها الطويلة مع العراق، تحركها خلطة دسمة من عناصر الإغراء والكراهية، فهناك طموحاتها الإقليمية كدولة ذات نزوع إمبراطوري، حيث يتداخل بانسجام ملفت حسها القومي المفرط مع مذهبيتها المسيسة لدرجة تدفعها دائما للانفجار خارج الحدود؛ نحو مصبات تتماثل معها، وهما وواقعا، مثل العراق بمتنه الطائفي لوجود الشيعة كعنصر عضوي في تركيبته السكانية، ولنشأة إسلام سياسي شيعي فيه تابع بمجمله لها. وكان هذا متكئا على خلفية تاريخية طويلة من الصراع المباشر بين الدولتين والحضارتين: الإيرانية الفارسية، والعراقية العربية، دون أن نغفل هنا الإشارة إلى الجرح النرجسي الكامن في وجدان الإيرانيين من انتصار العرب العسكري والأيدلوجي أيام الفتوحات الإسلامية على إمبراطوريتهم التي كانت تشيخ وتتآكل على حافة أفولها التاريخي والصراعات الدولية آنذاك.( حروب فارس وبيزنطة). ورغم ما يمكن أن يوحي به تصور العقدة النرجسية المزمنة للإيرانيين من العرب وإضمارهم الحقد الدفين لهم من إحالات إلى نظرة عروبية شوفينية استثمرها بفجاجة الإعلام ألبعثي العروبي لكن أمر وجودها وفاعليتها هو، للأسف، حقيقة نفسية وثقافية لدى الإيرانيين إفرادا وكيانا قوميا طامحا.

وفي الجانب الآخر من قطب الطائفية المغرق في رجعيته طفت على السطح المخاوف التقليدية للنظام السعودي من كل ماهو محيط به ويخشى من تسربه إلى مجتمع الجزيرة المفخخ بالمشاكل وبأنواع الكبوتات. وأثرت المخاوف السعودية، ممزوجة بهّم الأنظمة العربية في إبقاء شكل النظام في العراق كما هو لكي لايحدث شرخا في بنية الاستبداد المحكمة، أثرت على مزاج القرار الأمريكي بالامتناع عن دعم انتفاض العراقيين. وقد تجلت المخاوف السعودية ذات النزوع الطائفي وما رافقها من استراتيجيات بصورة أوضح وأكثر ايلاما في ماحدث بعد احتلال الأمريكان للعراق وإسقاطهم نظام صدام حسين في 2003.

ولم تكترث أمريكا، المنتشية بنصرها في حربها الالكترونية على العراق، بما سيعانيه العراقيون طالما أن الأمور ترتبت بطريقة ترضيها، بل إنها فضلت أن تنتهي الأمور إلى هذه المآلات التي ربما فاقت توقعها. فهي قد حققت استعادة لحضورها الدولي اثر انتصار تام في حرب باردة أزعجتها واستنزفتها لعقود طويلة، ونجحت في إعادة ترتيب أوراق المنطقة بما يريحها ويؤمن كل مصالحها وتهيؤاتها. ولا يشك احد حينها بان رغبة أمريكا ومن يتبعها في المنطقة هي في إبقاء نظام صدام حسين مكسورا ومحاصرا ومخصي لكي تتجنب مايمكن أن تحمله لها رياح تغيير النظام العراقي من مجاهل مقلقة إن سمحت للانتفاضة العراقية أن تبلغ مداها النهائي.

ولكن لا يمكن بهذا الصدد تجاوز العطب الذاتي الذي عطل طاقة العراقيين آنذاك على انجاز فعل انتفاضي ناجح. فقد كانت القوى السياسية العراقية، وما تزال، غير ناضجة وغير منسجمة وتلهث كعادتها وراء الأحداث. وما قدمته هذه المعارضة من أداء سياسي وإداري بعد سقوط النظام في عام 2003 يقدم دلالة، بأثر رجعي، لما كان عليه واقع هذه القوى. لكن ذلك ما كان ليكون مثلبة أو سببا لفشل انتفاضة طامحة لإسقاط نظام لو توفرت العوامل الأخرى المساعدة أو المحفزة التي تمت الإشارة إلى بعضها هنا والتي نعم بها الشعب الليبي. وفي حقيقة الأمر إن الواقع الليبي لا يختلف في الكثير من جوانبه السلبية عن الوضع العراقي آنذاك. وان ماوقع في العراق من انهيار للانتفاضة كان يمكن أن يقع في ليبيا لولا الدور الدولي الذي لعبه الناتو ومساحة القبول النفسي لهذا الدور الذي وفره المناخ العام الجديد الذي نشا بعد نجاح ثورات الربيع العربي. وهذا الفارق الزمني والتاريخي بين الانتفاضتين، العراقية والليبية، يلقي ضوءا باهرا على إشكالات الواقع السياسي العراقي المتواشج دون فكاك مع تركيبته الاجتماعية المنسجمة والمتنافرة في آن واحد مع محيطها الإقليمي الفاعل بقوة في سيروراتها السياسية والثقافية. وهكذا، فيما انتصرت الثورة الليبية، اخفق العراقيون، وبينما قتل ثوار ليبيا حاكمها المستبد وسط تهليل عربي وانتشاء شعبي واسع، غدا إعدام صدام حسين لاحقا دافع نقمة وحقد على العراقيين، وفيما اخذ العقيد الليبي في المخيال العربي والوجدان الشعبي وببعض الخطاب الإعلامي لقبه المعنوي المنسجم مع مصيره كطاغية مهزوم ومعدوم، صار صدام حسين بطلا وشهيدا تقام له التماثيل وتسمى باسمه الأماكن، مع انه يفوق كل الآخرين قسوة وغطرسة واستبداد. وفيما ازدري الطغاة العرب جميعا بقيت صورة صدام حسين الدموية القة في نظر بعض العرب وإعلامهم.

هذا وجه من وجوه العقاب العربي للعراقيين. وكما يبدو فان الشعب العراقي لن يأخذ مكانه اللائق والطبيعي في دروب الخطابات الإعلامية والثقافية العربية طالما بقي رهين محبسيه، موقعه الجغرافي، وارث تكوينه التاريخي. وهل يستطيع شعب ما تغيير جغرافيته أو الفرار من تاريخه أو الاختباء من مصيره؟.

وبما أن العراق لا يمكن إلا آن يكون راسخا في جغرافيته، ومنسجما مع تاريخ تكوينه، فسيبقى رهبن ساعة نحسه الأزلية وسيبقى موقع شبهة أبدية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -