الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجانب الآخر من الحدود

مسعود عكو

2011 / 10 / 26
الادب والفن


استغرقت رحلتي من أوسلو إلى اسطنبول مروراً بكوبنهاجن وزيورخ، ساعات طويلة. لتهبط الطائرة أخيراً في مطار أتاتورك الدولي. اسطنبول إني أراها للمرة الأولى في حياتي، كنت مكتفياً بمشاهدة صورها وسماع الحديث الكثير عنها. تلك المدينة المختصرة لتاريخ طويل من الصراعات، والحضارات، مقدمة ذاتها اليوم مدينة لأمم مختلفة.

إنها بيزنطة، أو القسطنطينية، أو إسلامبول، أو اسطنبول، بالبوسفور، بمساجدها الكثيرة، مشكلة مجمل حضارة العثمانيين الأتراك: السلطان أحمد وآية صوفيا، مسلة تحتمس الثالث، المسجد الجديد، قصر يلدز، البحران الأسود ومرمرة. معالم وأشياء كثيرة لا تعد ولا تحصى.

استمتعت أيام عدة بـمشاهدة معالمها، القديمة والجديدة. وبطيب الشاي التركي في ساحة تقسيم، ورائحة الكاجو الفائحة من جادة الاستقلال. ومطاعمها المشهورة بأشهى وأطيب المأكولات التركية. جمال تركي أخاذ يختصر حضارات الشعوب التي رزحت تحت نير السلطنة العثمانية. أما عذوبة وجمال الموسيقى التركية، لعزاف في الاستقلال فهي تضفي المزيد من الجمال على ليل اسطنبول الساحر. فنانون على الطريقة الغربية في عزف الشوارع، بيد أن العزف بالبزق والباغلمة والجمبش التركي العذب. إنها فعلاً مدينة تتوسط الدرب بين الشرق والغرب، تجمع بين سحر ورونق الشرق وحضارة وانفتاح الغرب.

غادرت اسطنبول فجراً متجهاً إلى العاصمة السياسية للبلاد، أنقرة الصغيرة والنائية، التي حُولت على يد كمال أتاتورك مؤسس جمهورية تركية العلمانية إلى عاصمة للبلاد. ليقطع بذلك الوصل ما بين رمزية إسلام الدولة التركية في عهد السلاطين، وعاصمتها الشهيرة اسطنبول، إلى أنقرة التي بنيت من جديد وما تزال.

تجولت في أماكن عدة برفقة بعض الأصدقاء الكرد في أنقرة، زرت فيها ضريح مصطفى كمال أتاتورك، وعصمت إينينو، أبرز معالم أنقرة وتركية العلمانية. وشاهدت الجنود حراس الضريح، الواقفين لساعات دون حراك، مستغرباً جداً من هذا الصمت والهدوء. لربما هيبة أتاتورك تفرض ذاتها على حراسه الكثر. متحف خاص به، على مساحة واسعة ترى من كل نقاط أنقرة.

طرت من مطار أنقرة الدولي، باتجاه آمد أو ديار بكر، العاصمة الافتراضية لكردستان. آمد مدينة أمة، تاريخ أشهر من كل الآثار والأوابد. إنها ديار بكر الفاتنة بسورها التاريخي وأسواقها القديمة. مدينة اتخذت في تاريخها الكردي والتركي عظمة لا يستهان بها. بوصفها مهداً للثورات الكردية ضد العثمانيين والحكومات التركية، ومركزاً لنشاطات المعارضة الكردية ضد حكومات تركية متعاقبة اغتصبت، وما تزال حقوق الشعب الكردي، المشكل ِقرابة ثلث سكان تركية المناهز عدده سبعين مليون نسمة.

ذكرني هدير نهر دجلة، والجبال المحيطة بها، بالكرد المقاتلين لنيل حقوقهم المشروعة، في تلك المساحة الكبيرة من كردستان الشمالية متذكراً الكثير من العظماء الكرد: الشيخ سعيد بيران، السيد رضا الديرسمي، عبد الله أوجلان، يلماز غوني، ابن الأزرق الفارقي، بديع الزمان النورسي، بديع الزمان الجزيري، وعظيم الشعراء الكرد أحمد الخاني،

استقليت من ديار بكر حافلة باتجاه نصيبين الواقعة على الحدود مع سورية، إذ من المفترض أن ألتقي أبي وأمي بعد فراق طويل. مررنا بماردين، وقلعتها الشهيرة التي لم يبقى منها إلا بضعة أحجار. المدينة التي تغنى بها الكثيرون من المطربين الكرد، على الرغم من عدم مشاهدتهم لها، إنها مدينة جميلة قديمة يتم تحديثها باستمرار. لطالما كنت أرى أضواءها من الجانب السوري حينما كنا نسافر من قامشلو إلى عامودا أو الدرباسية. بجانب الشريط الحدودي المليء بالأسلاك الشائكة والألغام وحراس الحدود الأتراك.

بدأ قلبي يخفق بسرعة، مشاهداً عامودا من بعيد، بصومعتها وهوائي بريدها، وجامعها القديم. أشياء كثيرة بدت لي واضحة من المدينة، اشتياقي لإحداهن دفعني لهذه الرؤية الجميلة. اقترب أكثر من الحدود بمحاذاة الطريق السوري الواصل بين قامشلو وعامودا والدرباسية ورأس العين. أرى سيارات سورية تعبر جيئة وذهاباً. إنها سورية التي ما عاد يمكنني رؤيتها إلا من الجانب الآخر من الحدود.

وباقترابنا أكثر باتجاه نصيبين، وإذ بقامشلو كعروس في أوج أناقتها، واضحة تماماً أرى كل شيء فيها. قامشلو التي ولدت فيها وكبرت تاركاً إياها. قامشلو الجميلة كما كانت دوماً ولكنها حزينة كما كل أيامها.

وصلت نصيبين مساءً، وطلبت من مضيفي أن يأخذنا إلى الحدود ونقطة العبور بين البلدين. لأول مرة أرى القابي "الباب بالتركية" الذي طالما تمنيت أن أعبره من سورية باتجاه تركية، ولكن منع السفر الذي عوقبت به حتى خروجي من سورية منعني من تحقيق هذه الأمنية. أنا الآن في الجانب الأخر من الحدود، تمنيت العبور إلى الجانب الأول منه، إلى مدينتي وبيتي، حيث يفصلني عنه دقائق عدة سيراً على الأقدام. لكن كيف؟ لا يمكنني تجاوز كل تلك الموانع.

كانت رحلة جميلة جداً، من اسطنبول إلى أنقرة إلى ديار بكر إلى ماردين إلى نصيبين. ولكن الأجمل فيها كلها أني التقيت أبي وأمي وأخوتي وبعض أقاربي هناك. استمتعت بصحبتهم في زيارة مناطق أثرية وتاريخية في كردستان الشمالية. زرنا سجن دارا الشهير، ومنبع نهر جقجق، وجزيرة بوتان مهد الشعر والعشق الكردي، وقبر أعظم حبيبين في الميثيولوجيا الكردية "مم وزين" وقبر الشاعر الصوفي العظيم "ملا أحمد الجزيري" وضريح سيدنا "نوح" عليه السلام، وأماكن أخرى نسيت أسماء البعض منها.

عدت أدراجي إلى ديار بكر ومن ثم إلى اسطنبول، استعيد في مخيلتي شريط الحدود الفاصل بيني وبين وطني. شريط مليء بالألغام والعسكر، آن الأوان أن يقطع. عدت إلى بلادي الجديدة في أقصى شمال القارة الأوروبية، ناظراً من نافذة الطائرة، أسأل نفسي هل سأعود مجدداً إلى هذه الديار، راجعاً إلى داري في قامشلو، تمنيت من الله قرب تحقق حلمي بالعودة لا أن يكون بعيداً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس


.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن




.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات


.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته




.. كلمة أخيرة - قصة نجاح سيدة مصرية.. شيرين قدرت تخطي صعوبات ال