الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القذافى قتيلا: الجلاد والضحية

عبير ياسين

2011 / 10 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


هل كان علينا أن نسقط من عُلُو شاهق، ونرى دمنا على أيدينا لنُدْرك أننا لسنا ملائكة كما كنا نظن؟ وهل كان علينا أيضاً أن نكشف عن عوراتنا أمام الملأ، كي لا تبقى حقيقتنا عذراء؟ كم كَذَبنا حين قلنا: نحن استثناء! تلك الكلمات التى كتبها الشاعر الفلسطينى الراحل محمود درويش منذ سنوات تحت عنوان أنت الآن غيرك هى الكلمات التى سيطرت على تفكيرى مع مشاهدة ما حدث مع "الزعيم" الليبى الأسبق معمر القذافى -والذى رفض حيا أن يطلق عليه رئيسا- ففى لحظة كنا نتحدث عن جلاد وضحية، وفى اللحظة التالية تشابهت الضحية مع جلادها.

البعض سيرفض تلك الكلمات، سيتوقف قبل أن يكمل القراءة ويحكم بأن ما يلى يندرج ضمن الكلام النظرى، أو دفاع غير مقبول عن الجلاد، وإدانة غير مقبولة للضحية، ولكن علينا أن نتوقف أمام أنفسنا وأن نتساءل بصراحة حول الفارق ما بين الجلاد والضحية، والمعنى النهائى للثورات العربية أن أردناها ثورات بناء. مجرد اقتراب من لحظة شديدة الحساسية ومرتبطة بالكثير من المشاعر المختلطة ولكنه اقتراب وجدته ضرورى لما شعرت به من حزن لما حدث، ولما وجدته فى العديد من التعليقات من تأييد ورفض، وما وجدته فى تعليقات أخرى -جاءت فى مجملها من خارج المنطقة- من إدانة لكل ما هو عربى ويرتبط بالمنطقة لما حدث وشاهده العالم من تناقض واضح بين ما حدث مع القذافى من ناحية، والقيم والأسس التى يفترض أن ندافع عنها، ويفترض أننا نؤمن بها، ونثور من أجلها من ناحية أخرى.

التساؤلات كثيرة بعضها يرتبط بالثورة نفسها حيث يصبح علينا أن نفكر ونحن نحدد موقفنا مما حدث: هل نثور من أجل رفض الظلم أم من أجل دمقرطة الظلم أن جاز القول، بتحويله من ظلم الفرد أو الجماعة الضيقة لظلم المجتمع أو الأغلبية؟ هل نثور من أجل التسامح والبناء أم من أجل الهدم والانتقام؟ هل نثور من أجل بناء أوطان تم أهانتها كثيرا أم نثور لنؤكد أننا وجلادينا أتفقنا على ظلم الأوطان وأهانتها؟

ليس توقفى هنا من أجل الجلاد الذى مارس دوره كجلاد لعقود دون ضمير ودون رادع، ولكن توقفى من أجل الضحية ومن أجلنا، ليس لتغيير ما حدث ولكن للنقاش حوله وحول ما يحمله من معان، وللوقوف فى مواجهة شعور البعض بالحسرة على عدم أتباع نموذج التعامل مع القذافى مع الرئيس المصرى الأسبق محمد حسنى مبارك وكأن ما حدث مع القذافى يصلح كآلية خلاص. أتوقف أمام المشهد لشعورى بأننا فى اللحظة التى نبارك فيها لممارسة الظلم ضد فرد واحد نهدد أنسانيتنا ونهدد أنفسنا والآخرين، فمن يظلم اليوم غيرى يمكن أن يمارس الظلم ضدى، وقبولى بالظلم لغيرى لا يعنى أننى غير معنى بالظلم وبأننى برئ منه، قبولى بالظلم البعيد هو ظلم قريب وأن جاء فى يوم أخر.

لم يكن القذافى -وغيره من محبى السلطة والكراسى- قادرا على تغيير صورة الجلاد حتى اللحظة الأخيرة، كان مصرا على البقاء فى حالة صراع دفع شعبه ثمنها غاليا عبر عقود ممتدة، وعبر شهور الثورة المكثفة والتى لم تبارح الذهن بعد. تلك الصورة المستقرة للقذافى تزامن معها صورة أخرى للثوار والثورة، صورة الضحية الساع للتحرر من جلاده وبناء وطنه على أسس الحرية والعدالة والديمقراطية التى أدان غيابها وثار من أجلها. تلك الصورة المتناقضة هى دوما التى تضع العنصر الانسانى فى المشهد، فعندما نتحول للمقارنة بين الأبيض والأسود، الخير والشر تصبح النفس البشرية أقرب لدعم الخير والوقوف بجانب الضحية، تصبح كل قطرة دم مسآلة من الضحية بمثابة مسمار يدق فى نعش الجلاد مهما طال عمره، تصبح كل آهة ألم بمثابة سهم موجه لجسد الجلاد، سهم يضج مضجعه مهما كان الفراش وثير. عندما نصبح أمام الجلاد والضحية يصبح من الصعب على النفس البشرية السوية ألا تساند الضحية، أو أن تتشكك فى عدم شرعية الجلاد، فقط عندما تتحول الأشياء- أو تبقى- فى مساحة الرماديات يصبح الضمير الانسانى خليط، ويصبح نقاش العقل والفلسفة عامل من عوامل عدم وجود مواقف واضحة وجماعية تدعم الضحية فيضيع الحق أو يؤجل بتؤاطو أو عدم فهم.

الضحية قوتها فى نقاءها، وجمالها فى اختلافها عن قاتلها، وبقاءها فى تحقيق العدالة، ونجاحها يتوقف على مرورها من التحدى الأكبر. والتحدى الأكبر الذى تواجهه الضحية فى لحظة الانتصار أو سقوط الجلاد يتمثل فى قدرتها على تنفيذ القانون واللجوء لقواعد المحاكمة العادلة والصراحة والمكاشفة التى أفتقدتها لعقود بسبب الجلاد. الاختبار الأكبر أن ننتصر انسانيا على الجلاد فيهزم، أن يشعر بانكساره فى قوتنا، ويشعر بحقارة أعماله من نقاء أعمالنا. الاختبار الأكبر أن تتنصر قيمنا التى نتحدث دوما عنها ونحن ضحايا، لا أن نرفع سيف السلطان لذبحه كما فعل معنا.

تختلف القراءات لما حدث فى المشهد الليبى، البعض أيد فكرة القتل واعتبرها حل أمثل لكل ثورة حتى لا تطول إجراءات التقاضى ولا يتزايد أعوان السلطان فى محبسه أو منفاه. البعض قبل أن يشعر الجلاد ولو للحظات أو دقائق ببعض مما أذاقه لشعبه من آلام وآهانة. والبعض رفض الفكرة كليا لأنها تتناقض مع فكرة ثورة- سلمية- حضارية. والبعض وجد فيما حدث ما يؤكد على غياب الثقافة الديمقراطية وعدم نضج المنطقة بما يتناسب مع مفاهيم الحرية فى تكرار لحديث استخدم ويستخدم من كل جلاد لتبرير وجوده وقمعه بوصفها العناصر الأساسية لحماية النظام العام. والبعض ذهب أبعد من ذلك ليرى فيما حدث دليل على همجية مرتبطة بالثقافة السائدة فى المنطقة بما فيها من أبعاد غير ديمقراطية وتتناقض مع مفاهيم الحقوق والحريات وتحمل جذور القمع فى بنيتها الداخلية. تلك القراءات المتنوعة قد تعبر نظريا عن عنصر ايجابى يتمثل فى تعدد وجهات النظر فى التعامل مع ما حدث. ولكن يبقى التساؤل هل التعدد هنا حميد؟ هل يفترض أن نقبل بوسائل غير انسانية فى مسعانا من أجل إعلاء الانسانية؟ هل المفروض أن نقبل بممارسة الآهانة التى عانينا منها ضد الآخرين؟ هل يفترض أن نغيب الكثير من الأخلاق والقيم التى نتحدث عنها ونطالب بها دوما؟ هل يفترض أن نقبل بالوسيلة دون تقييم لها ما دامت تبدو فى اللحظة المعنية حل لمشاكل محتملة؟ هل يمكن أن نقبل هذا لشخص ثم نعود ونرفضه لأنفسنا؟

أجد نفسى أقف فى موقف مختلف عن القراءات السعيدة بما حدث وخاصة ما يتعلق بالطريقة التى أدير بها حادث إلقاء القبض عليه، وطريقة معاملته حتى وفاته والتى لازالت تتراوح بين القتل للضرورة والتصفية المقصودة والقتل بدون نية أو قصد، وما بعد الوفاة من عرض للعامة فى مشهد يتنافى مع حق الموت، مشهد يضع الضحية قريبا من جلاده عندما استخدم قوته وسلطته لممارسة ظلمه. كنت أفضل أن تبقى الضحية نقية، نقاء لا يعنى ضعفا. ولازلت أعتقد أن التحدى لنا فى مصر هو أن نضمن تفعيل القانون ضد من حرمنا منه، وأن ندافع عن القانون وسيادته بشكل مجرد، وأن نرضى بحكمه ما دمنا حققنا شروط نزاهته والثقة فيه. وبالمجمل أجد أن التحدى الأساسى هو أن نكون أكرم من جلادينا، وأكثر اتساقا مع أهداف ثورتنا عندما تطالب بدولة القانون وتدافع عن الحقوق والحريات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فصل جديد من التوتر بين تركيا وإسرائيل.. والعنوان حرب غزة | #


.. تونس.. مساع لمنع وباء زراعي من إتلاف أشجار التين الشوكي | #م




.. رويترز: لمسات أخيرة على اتفاق أمني سعودي أمريكي| #الظهيرة


.. أوضاع كارثية في رفح.. وخوف من اجتياح إسرائيلي مرتقب




.. واشنطن والرياض.. اتفاقية أمنية قد تُستثنى منها إسرائيل |#غرف