الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سوريّة سوريا .. أين سوريا من هذا؟!نقاش مع مقالة ياسين الحاج صالح -سوريا غير المتطابقة مع ذاتها-

علي الشهابي

2004 / 12 / 15
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


يلفت السيد ياسين الانتباه إلى عدم ارتباط كل الأحزاب السياسية التي قامت في سوريا الحالية بسوريّتها. وبالتالي فهي نتاج هزيمة كل المشاريع السياسية التي طمحت إلى جعلها تكويناً مغايراً لما باتت عليه. فطالما أن كل مشاريع جعلها جزءاً من منظومة اشتراكية أو أمة إسلامية أو أمة عربية أو سورية (بالمعنى القومي السوري) باءت بالفشل، لذا لا مناص من التفكير بحقيقة سوريتها وسوريتنا فيها. وهو يرى أن التأسيس لهذه السورية إنما يتم بمعاكسة اتجاه الفكر القومي الذي كان من "منظور العروبة المطلقة يرى أن سوريا قطر من أقطار الأمة العربية". وبأننا "لعلنا اليوم أميل إلى اعتبار العروبة عنصراً من عناصر الوطنية السورية". وهذا الميل للاعتبار يعتبره "محتوى الانعطافة الفكرية التي يجدر بالفكر السياسي في سوريا أن ينكب عليها، والتي يمكن أن تمنحه صلابة وسداداً تنقصانه اليوم بجلاء".

كل ما هو واقعي صحيح، وكل ما هو صحيح واقعي:

هذه الانعطافة الفكرية الدافعة باتجاه "سورنة سوريا" بالشكل الذي يطرحها فيه، سأكتفي بنقدها سلبياً على أمل أن يقوم هو بنقدها الإيجابي. وأعتقد بأنه سيصل إلى نتائج مغايرة، قليلاً أو كثيراً، لأن منطق البحث يختلف عن منطق الكتابة الصحفية. فمنطق البحث من الطبيعي أن يغلب فيه "كل ما هو صحيح واقعي" أما منطق الصحافة فيغلب عليه "كل ما هو واقعي صحيح"، وهاتان مقولة واحدة تتكامل في تناقض ها.

أولاً إن سوريا الحالية، التي لم يطمح أي تيار سياسي فيها لأن تكون بهذا الشكل، تحققت برغم أنف تلك المشاريع السياسية لا بفضلها. وثانياً إنها ما عادت قادرة على استمرار العيش مع هذه التهويمات الماضوية من شيوعية وإسلامية وقومية عربية أو سورية القوميين السوريين. وثالثاً من البديهي أنه لا يفيد التأمل في إيجابية هذه الحال أو سلبيتها طالما أنها باتت واقعها، وواقعنا فيها. كل هذا صحيح بصحة الواقع لا الفكر، ومع ذلك فهو صحيح لأن "كل ما هو واقعي صحيح". لكن المشكلة أن السيد ياسين يحاول أن يرفع هذا الواقعي الصحيح إلى مرتبة النظرية في الوقت الذي لا يمكن للواقع القائم أن يصير نظرية ذاته، بل لابد للفكر من الانطلاق من هذا الواقع لاستنباط نظريته التي يصير بها الصحيح نظرياً صحيحاً واقعياً.

فالواقعي الصحيح في سوريا الحالية، عند السيد ياسين وغيره، أنها بلد متخلف اقتصادياً وهي أقرب إلى الانفتاح الاجتماعي منه إلى الانغلاق. وتتعايش فيها أغلبية عربية ساحقة مع أقليات قومية أبرزها الكردية، وأغلبية إسلامية ساحقة مع أقلية مسيحية وأخرى يهودية لا تكاد تذكر. من هذا الواقع نراه يستنتج ضرورة تفعيل هذه المكونات بطريقة تبعد سوريا عن السعي إلى أي مشروع قومي، عربي أو كردي، أو أي مشروع من النمط الإسلامي أو الشيوعي.

لكن العناصر الأساسية لهذه الحال قائمة في سوريا منذ أكثر من نصف قرن ، فما الذي يدعو السيد ياسين الآن إلى دعوة ما يدعو إليه؟

بديهي أن دعوته تنطلق من واقع سوريا في ظل انعكاس التغيرات الدولية والإقليمية فيها وعليها، ولكن كيف يرى شكل هذا الانعكاس؟ سأوضح هذا السؤال: الصحيح في الشكل الراهن للعالم أنه مختلف عما كان عليه أثناء الحرب الباردة، وأنه بات يتعولم بشكل مباشر. هذا الواقع يتبدى للفكر بأشكال مختلفة، وبالتالي تختلف رؤية البشر لكيفية تحقيق إنسانيتهم فيه. يراها البعض تتحقق في الوقوف في وجه العولمة، والبعض الآخر بتأييدها كلياً، وبين هذين تتذرر المواقف. والبعض يرى أن الحاصل هو تحالف مسيحي ـ يهودي للإجهاز على الإسلام، مع العروبة أو بدونها. كل رؤية من هذه الرؤى تدفع إلى نمط مختلف من الفعل، وبالتالي تتعاكس الأفعال لنعيش هذه الحال من الشلل السياسي. بكل هذه الخلطة الفكرية لرؤية العالم الواقعي، وبالقفز عنها، نرى السيد ياسين يدعو إلى تشكيل تكوين سوري جديد يعيد تكوين كل مواطني سوريا الحاليين، هذا الذي سيقضي على عناصرهم القومية عبر تمثلها إيجابياً في هذا التكوين. ما هو دليل السيد ياسين الذي سيفعل فعله في جعل هذا الواقعي الصحيح صحيحاً واقعياً؟

البيّنة على من ادّعى، والدليل على من أنكر:

هذه ليست أبسط مبادئ القضاء فحسب، بل أبسط مبادئ الدليل العقلي. فكل من يدّعي بادعاء عليه تأييده بالشواهد المبينة لصحة ادعائه، وبغير هذا لن يأخذ أحد ادعاءه على محمل الجد. وبالمقابل، فإن إبراز البيّنات على صحة الادعاء تفسح المجال أمام كل من ينكر صحته على تقديم دليله العقلي على هذا الإنكار. والحاصل أن السيد ياسين، على امتداد مقالته، لا يقدّم أي دليل يدل على ضرورة سورنة سوريا. وفي ظل غياب هذا الدليل يمكن القول: مع أن قلة قليلة مازالت تعتبر أن الشيوعية لم تسقط كحركة سياسية، بل سقطت كأنظمة شمولية، وأخرى تعتبر أن المشروع القومي لم يسقط بل إن التجمعات الاقتصادية التي يولدها مناخ العولمة قد تحققه في ظل توفر كذا وكذا، إلا أنني والسيد ياسين على الأقل موقنين بسقوط هذين المشروعين. وبهذه الحال ينطبق على السيد ياسين في دعوته قول المثل إنه "يقطع حلاوة على قد أسنانه"، أي على قد أسنان مشروعنا الاشتراكي القومي نحن الذين كنا شيوعيين وقوميين عرباً. لا بل إنه يقطعها بطريقة يحرم فيها القوميين الأكراد والإسلاميين في سوريا حتى من أن يشموا رائحتها:

فبعدما أسقطت الحياة هذين المشروعين، بات يطالب القوميين الأكراد في سوريا والإسلاميين السوريين بالكف عن برامجهم لينخرطوا في هذا التكوين السوري، دون أن يبين نظرياً صحة ادعائه بأن استمرار هذه المشاريع سيفعل فعله في تخليف سوريا. إذ لولا قناعته بالفعل التخليفي لهذه المشاريع، وبأن انتظار الحياة نقضها سيجر في أعقابه الويلات، لما دعا أطرافها إلى التخلي عنها. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه بأي حق يدعوها إلى التخلي عن مشاريعها، أي عن ذاتها؟

لو لم تكن النخب السياسية، المرتكزة على الحوامل الاجتماعية لهذين المشروعين، مقتنعة بصحتهما النظرية لسقطا واقعياً. وبديهي أن هذه النخب لم ولن تتخلى عنهما لمجرد أن السيد ياسين دعا. صحيح أنها لا تناقشه، ولكن قد يكون أحد أهم الأسباب لأنها لا تأبه بما يقول. فأين بيّنة السيد ياسين على سقوط مشاريعهم التي ستدفعهم إما إلى التخلي عنها أو تجبرهم على تقديم الدليل على أن هذه المشاريع لم تسقط؟ هذا الأخذ والرد ضروري ليتسنى للمجتمع ككل أن يحكم على صحة أو عدم صحة هذا السقوط. والحكم النهائي في هذا الموضوع هو حكم المجتمع، طالما أنه أو جزءاً منه هو الحامل لهذه البرامج.

قد أكون أكثر قناعة من السيد ياسين بتهافت هذين المشروعين، ولكني لست المطلوب إقناعه. بل لابد من إرساء الأساس النظري الذي يمهد الطريق أمام توضيح الهزيمة الفعلية لهذين المشروعين على أرض الواقع. فبهذا الأساس النظري يمكن أن تقتنع إحدى هذه النخب أو بعضها بالدور التخليفي لمثل هذه المشاريع، وهذا قليل الأهمية من زاوية الفعل الدافع باتجاه تكريس هزيمتهما على ما أعتقد. فالأهم أن هذا الأساس النظري سيرسي الأساس لفعل سياسي يرتكز على حوامل اجتماعية في سوريا تحمل هذا المشروع السياسي المناقض لهذين المشروعين. هذا الفعل السياسي، الذي يعزز حوامله الاجتماعية ويتعزز بها، هو وحده الذي يسحب البساط من تحت أقدام النخب السياسية الحاملة لهذين المشروعين عبر إضعاف حواملهما الاجتماعية، جراء استقطابها لصالح هذا الفعل السياسي المؤسس منهجياً بالاتجاه المعاكس لهذين المشروعين.

بشديد الاختصار، إن سقوط المشروع القومي العربي لا يمكن أن يقنع الأنتلجنتسيا الكردية بسقوط مشروعها القومي إلا إذا تعزز بالدليل. وبدون هذا الدليل ستظل تقول، ومن حقها أن تظل تقول "إن شجرة لا تصنع غابة". وسقوط الحركة الشيوعية لا يمكن أن يقنع الإسلاميين بسقوط مشروعهم. فإذا كان غيرهم قد اقتنع بصحة مشروعهم جرّاء هذا السقوط، فما بالك بهم؟! من هنا على السيد ياسين أن يبين ـ لا أن يقرر ـ إن كانت الحياة قد أسقطت كل المشاريع القومية، أم أنها أسقطت فقط المشروعين القوميين العربي والكردي، وكذا الحال بالنسبة للمشروع الإسلامي. وبعدها يمكنه الحديث عن ماهية السورنة، وكلي يقين بأنها ستختلف عما هي عليه عنده الآن، هذا إن لم تنتقض.

السورنة:

أما بخصوص السورنة، فأعتقد أن هذه الدعوة لتشكيل ما يمكن تسميته قومية جديدة، لابد أن ترتكز على معاينة قابلية الحياة لتوليد مثل هذه القومية. صحيح أن المواطنين السوريين لم يبدؤوا بالعيش مع بعضهم منذ بداية دعوة السيد ياسين، بل إنهم يعيشون تاريخياً معاً، لكن تفعيل هذه العناصر لتكوين تكوين سوري قائم بذاته، بغض النظر عن مواصفاته، في ظل العولمة المباشرة أراه طوباوياً للأسباب التالية:

1ـ تغير مفهوم الوطن، وبالتالي ما عادت الوطنية تفعل فعلها في دمج العناصر المتنافرة باتجاه تشكيل قومية جديدة أو ما يشبهها. لنلاحظ أن السيد ياسين يرسمها بطريقة يحذّر فيها من أن تحيد ميليمتراً واحداً عن مسارها، لأن هذا الانحراف سيقلبها رأساً على عقب.

2ـ ميل الحياة باتجاه ترسيخ الفردية بمحتوىً إنسانيٍ عام يتجاوز المفهوم القومي، فمصطلح "مواطن" بات بعيداً جداً عن ارتباطه بالوطن والوطنية بمعناهما التقليدي.

3ـ والأهم من هذا وذاك أن تشكيل هذا التكوين السوري، المتمحور على ذاته، أي غير الساعي باتجاه الاندماج مع أحد، لابد أن يقوم في صلبه امتلاك سوريا لإمكانات التطور الاقتصادي الذاتي الساعي لتحقيق ذاته في تناقضه مع اقتصاديات الأمم الأخرى المنافسة لها، لأن هذا التناقض هو الأهم في تفعيل دمج العناصر المتنافرة داخل حدود الدولة الواحدة. فأين هذا من سوريا..وأين سوريا من هذا؟! علي الشهابي12/12 2004








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 200 يوم على حرب غزة.. ماذا جرى في «مفاوضات الهدنة»؟| #الظهير


.. مخاوف من اتساع الحرب.. تصاعد التوتر بين حزب الله وإسرائيل| #




.. في غضون أسبوع.. نتنياهو يخشى -أمر- الجنائية الدولية باعتقاله


.. هل تشعل فرنسا حربا نووية لمواجهة موسكو؟ | #الظهيرة




.. متحدث الخارجية القطرية لهآرتس: الاتفاق بحاجة لمزيد من التناز