الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في -النموذج السياسي التركي-

محمد الهجابي

2011 / 10 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


دَيْنُ المَعْنى*
أو في "النموذج السياسي التركي"


أعترف أنّني لا أعرفُ من مبدعي بلد كبير بحجم تركيا غير النّزر القليل من الأسماء، ومن ذلك أذكرُ: ناظم حكمت، ويشار كمال، ونديم غورسل، وأورهان باموك، وإيلف شافاك.. وأعترفُ أنّني أجهلُ أسماء مفكريها وفلاسفتها، في ما خلا الصوفي مولانا جلال الدين الرومي، وحجي بكتاش إيفلي، ويونس إمرئ، وفتح الله غولان.. وليس لدي من مبرّر معقول لهذا الخصاص المهول في معرفتي بالثقافة التركية. ولا أشكّ في أنّ العديد من الأصدقاء ربّما يشاطرني هذا الجانب من اعترافاتي. وهناك آخرون لا يكادوا يعرفون من تركيا سوى: السياحة، وأتاتورك، وحزب العدالة، وكرة القدم، والأكراد، وأدوات التجهيز المنزلي..
بالمقابل، أعترفُ أنّني أعرفُ العديد من أسماء المبدعين العرب المعاصرين، وهم بالمئات. وأعترفُ أنّني أعرفُ الكثير من الفلاسفة والمفكرين العرب المعاصرين من عيار ثقيل، طافت أسماؤهم ببلدان العالم تأليفاً وترجمةً، ومنهم من درّس في أعرق المؤسسات الجامعية الغربية وأشهرها أيضاً. يكفي أن أسوق من هذه الأسماء الآتي: محمد أركون، ومحمد عابد الجابري، وإدوارد سعيد، وعبد الله العروي، وناصر حامد أبوزيد، ومشيل كيلو، وصادق جلال العظم، وناصيف نصار، وهشام شرابي، وحسن حنفي، ومطاع صفدي، وعلي حرب، وعزيز العظمة، وإلياس مرقص، وهشام جعيط، وأنور عبد المالك، وياسن الحافظ، ومحمود أمين العالم، والطيب التيزني، وخليل أحمد خليل، وعلي زيعور، وهادي العلوي، وحسين مروة، وكريم مروة، وأدونيس، وبرهان غليون... وقس على ذلك. أسماء عديدة لها حظوتها الفكرية، ومنزلتها الثقافية، ووضعها الاعتباري.
والآن، بعد هذه الاعترافات، أودّ أن أطرح السؤال التالي:
ما الذي جعل "النموذج التركي" يحظى لدى قسم من سياسيي البلاد العربية، وفي مقدمتهم "السياسيون الإسلاميون" بهذا الاهتمام الكبير، فيما لا يكاد يعرفُ أغلبهم عن "النموذج" غير ما هو سياسي في المواقف، وبعض من رموز السياسة، التي سطع نجمها إبّان العقدين الأخيرين، وبخاصة في عهد حكم "حزب العدالة والتنمية التركي"؟
وهنا، يمكنني أن أتجرّأ فأقول، منذ البداية، إنّ الذي جعل "الأحزاب السياسية الإسلامية" العربية تتجه نحو استلهام "النموذج التركي" في خطابها السياسي الراهن يتمثل، على الأرجح، في عنصرين اثنين أساسيين:
_ العنصر الأول: ليس بالفكر الفلسفي والسياسي هذا الذي دفع بهذه الأحزاب إلى تمجيد "النموذج التركي". لأنّه، بالجزم، لم يسبق أن عرّفتنا هذه الأحزاب على فكر فلسفي وسياسي ينتسبُ إلى تركيا قديماً كان أم حديثاً. ولا شيء يدلّ على أنّ هذه الأحزاب تبني تمجيدها ل"النموذج" إيّاه على خلفية معرفية فكرية وفلسفية ذات خصوصية تركية. ومن المرجّح أنّ "أدبياتها" تخلو من إحالات إلى القاع الفكري لهذا"النموذج". والأحكم، أنّ هذا التمجيد إنّما يأخذ من "النموذج" هذا السياسة فحسبُ، دون الفكر، أي السياسة التي مارسَ الحزب الحاكم في تدبير الاقتصاد، وفي العلاقات الدولية في السنوات الأخيرة بخاصة؛ وهي السياسة التي قامت على ما يصفه البعض ب"الاعتدال"، أو على ما يمكن نعته ب"السياسة البراغماتية النفعية".
وإذن، تنحو الأحزاب السياسية الإسلامية العربية إلى جهة نسخ هذا الطراز من التدبير في "طبخات" محلية. والحاصل أنّ هذا الطراز من السياسة يفرغُ الفعل السياسي من أسسه الفكرية والفلسفية، ولا يصرفه في التداول اليومي سوى بما هو حيّز سياسي حزبي صرف، أي بما هو فعل غير محكوم بإطار ثقافي سياسي. ومن هذا المنطلق، لا تعمل الأحزاب الإسلامية هذه سوى على تكييف ممارستها الحزبية والسياسية تبعاً لاستدعاءات الواقع القائم ليس غير. وفي غياب فكر فلسفي وسياسي حديث وديموقراطي وعقلاني لن تكون سياساتها إلاّ وجهاً من وجوه "السياسة السياسوية" التي لا تنظرُ إلى البعيد، وإنّما تنظرُ إلى القريب. ولا تنظرُ إلى التحوّل العميق في اتجاه المصالحة مع روح العصر، قدر ما تنظرُ إلى التحسين (من الإحسان) البسيط للاقتصاد في غياب منظور اقتصادي مجتمعي متكامل وحديث، ولا تنظرُ إلى القوانين المدنية بوصفها الحكم والفيصل، وإنّما تتوسّلُ بالأخلاق (الأمر والنهي)كعماد في المعاملات.
وليس بخاف أنّ لهذا التصور في التدبير وطيد الصلة بالتصورات التي بشّرت لها، في وقت سابق، النظم الديكتاتورية والتوتاليتارية شرقاً وغرباً.
العنصر الثاني: وفّر "النموذج التركي" مخرجاً سياسياً جاهزاً للأحزاب الإسلامية العربية لكي تتدارك عجزها الفكري والسياسي عن إنتاج نموذج محلي في الدولة والمجتمع؛ نموذج قابل للتطبيق وناجح. تجربة طالبان أدّت إلى الكارثة. تجربة إيران لم تعد تغري. المواقف المتطرفة ل"الإخوان المسلمون" وسّعت من رقعة الظلامية، ولم تنتج سياسة للدولة والمجتمع مؤهلة لاستيعاب حقائق العصر الحديث. تجربة "جبهة الإنقاذ الجزائرية" أفضت إلى الأهوال.. وهلمجراً.
وعليه، كان لا بدّ من منقذ حتّى تجد "الحركة الإسلامية العربية" مسوّغاً للاستمرار. ولقد شكّل "النموذج التركي" منقذاً من حيث لم تكن تحتسبُ. ومن جديد أقولُ: ليس "الفكر السياسي التركي" هو الذي حرّك هذا الإقبال لدى هذه الأحزاب على التجربة التركية في صيغتها الحالية، لأنّنا نقطع بأنّ هذا "الفكر السياسي التركي" ليس من الوارد في أدبياتها وخلفيات تصوّراتها. ومن جديد أقولُ: إنّ "السياسة النفعية" التي طبعت التدبير السياسي لدى النخبة المتنفذة بتركيا اليوم، هو الذي استنفر هذا الإقبال؛ وبكلمة أخرى إنّ ما تبحث عنه الأحزاب الإسلامية العربية في "النموذج التركي" ليس هو الفكر السياسي الذي هو عماد كل سياسة وازنة، وإنّما الذكاء (أو الدهاء) السياسي الذي يجيد اقنتاص الفرص، ويمهر في الركوب على الموجات، ويحسن إدارة "اللعبة السياسية" في حدود ما يمليه "الحس الشعبي المشترك".
ممتنّة إذاً هي هذه الأحزاب ل"حزب العدالة والتنمية التركي" الذي أبطل، إلى حين، ذلكم الصيت السيء الذي صار يلاحق "السياسيون الإسلاميون"، ولا سيما في العقد الأخير.
عود على بدء،
لم تستهو "الأحزاب السياسية الإسلامية" هذه الوفرة من المفكرين العرب المرموقين _ وقد سردت أسماء بعضهم _ الذين طبعوا الفكر العربي المعاصر باجتهادات وكتابات قيّمة وضعت الأسس المعرفية والثقافية والسياسية للبناء الديموقراطي للدولة والمجتمع، بما يفتح الأفق للانخراك في عالم اليوم؛ عالم التقدم والعرفة والتواصل والحداثة.. لم تستهوهم هذه النخبة من المفكرين، فاستعاضوا عنها بتجربة برّانية جاهزة، لا لجاذبية فكرها، ولكن لجاذبية سياستها الآنية. والحال «أنّ لا اجتماع استقام بين قوم بإسقاط جوهره على شرط خارجي، وإنّما بعقل حقائق الجماعة الداخلية في تنوّعها وتعدّدها واختلافها»، و«باعتبار أنّ السلطة من خلق البشر أنفسهم، ومن نتاج الجماعة ذاتها»، وهو أمر ليس نتاج محض سياسة، بل هو نتاج فكر سياسي في المقام الأول. يقول علي حرب (كتاب أوهام النخبة، المركز الثقافي العربي، 1996، ص. 128): «ولا غرابة ففي غياب الأفكار الخلاقة والأجواء الفكرية الخصبة، تتخذ محاولات التغيير طابع الاستبداد من قِبل السياسي، حيث يطغى الأمر على العقل وتحلّ المصادرة محلّ الفكر؛ أو تتخذ طابع التعسف من قِبل المثقف نفسه، حيث تجري قولبة الواقع السيّال على مقاس المقولات الجامدة والنظريات اليابسة، بطريقة تؤدي إلى إنتاج عقليات فاشية أو قيام أنظمة كلانية شمولية».
صفوة القول، لن تنجح الأحزاب الإسلامية العربية في نسخ "النموذج التركي": 1) لأنّ هذا النموذج هو وليد تربة محلية لها تقاليد راسخة في الفصل بين الدين والدولة. 2) لأنّ الشروط الجيوسياسية التي أملت على "حزب العدالة التركي" انتهاج تلك السياسة ليست بالضرورة هي الشروط نفسها بالبلاد العربية. 3) الفئات المتوسطة العربية العريضة لن تسمح بالتطرف لا من جهة "الإسلاميون"، ولا من جهة "اليساريون". ومن يفقه "حقيقة" هذه الفئة سيكسب الرهان. علماً أنّ هذه الفئة حريصةٌ على أن تعيشَ "الحياة الدنيوية" هنا والآن، قبل أيّ "حياة أخروية" مقترحة. حظوظ الاتجاهات الديموقراطية وافرة، في المدى المتوسط على الأرجح، شريطة أن تتغيّر هي الأخرى فكرياً وسياسياً وتنظيمياً. والنصيحة: أن تعود إلى مفكري "الأمة" المتنورين والحداثيين والديموقراطيين، ففي أطروحاتهم محاولات جدّية للإجابة عن تحديات العصر.

__________________
*استعرت العنوان "دَيْنُ المعنى" la dette du sens، من كتاب "أصل العنف والدولة" لكل من مارسيل غوشيه وبيير كلاستر (ترجمة: علي حرب، دار الحداثة، 1985)، ويشير المفهوم إلى أنّ الجماعة تتغرّبُ حالما ترتهنُ بقوى خارجها، تدينُ لها بتماسكها وتوازنها. إذ في انفصال السلطة عن الجماعة، والابتعاد عنها، خطر الانقلاب على الجماعة، وإحلال منطق التسلّط محلّ منطق التفاهم، ومنطق الإكراه محلّ منطق التعاقد؛ والمفهوم إيّاه اشتغل عليه أيضاً المفكر والباحث اللبناني حسن قبيسي في كتابه "رودنسون ونبي الإسلام".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي... ابن لمغربي حارب مع الجيش الفرنسي وبقي في فيتنام


.. مجلة لكسبريس : -الجيش الفرنسي و سيناريوهات الحرب المحتملة-




.. قتيل في غارات إسرائيلية استهدفت بلدة في قضاء صيدا جنوبي لبنا


.. سرايا القدس قصفنا بقذائف الهاون جنود وآليات الاحتلال المتوغل




.. حركة حماس ترد على تصريحات عباس بشأن -توفير الذرائع لإسرائيل-