الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صدفة - قصة قصيرة

جمال القواسمي

2011 / 10 / 29
الادب والفن


التقاها صدفة هذه المرَّة. في بادئ الأمر لم يعرفها لأنَّها كانت - وهذا الأمر الجديد- مُحجَّبة. لكن وجهها أشعل جذوة الدفنة في قلبه. أحبها منذُ أن رآها قبل ست سنوات. كُلَّما حاول أن يبادرها، يباعد ما بينهما القدر. مرة تسافر إلى امريكا لدى إخوتها الأغنياء، مرة يخطبها احد معارفه، مرة تُحبُّه ابنة عمه فيتَّخذ قراراً حاسماً بقتل حبِّه في قلبه، ومرات أخرى غيرها.
التقته صدفةً هذه المرة. في البدء لم تعرفه لأنَّه - وهذا الأمر الجديد - كان مُلتحياً. هزَّت نظراته المتلهِّفة الضائعة كيانها وجعلت الزمن يسير ثانية. أحبته منذ ست سنوات. الفتاة العربية لا تبادر. هكذا العُرف، هكذا طبيعة المرأة. تُلمِّح له، تحمرُّ وجنتاها، تصغي إليه. ولا يتصافحان أبداً. كم تخيَّلت أنَّها ستصافحه كلما تراه ثلاث مرات وتدَّعي انها نسيت أنها صافحته.
كانت تعاتبه: "ولا حتى تلفون؟!" كان يعاتبها: "بدري؟!" لكنها تعرف خجله وفقره، وهو يعرف حساسيتها وغناها. ثم يلتقيان صدفةً بعد ست سنوات. يتظاهران إنهما لم يرَ احدهما الآخر. بعد بضعة أمتار يقفان، كلٌّ منهما يُدير ظهره للآخر. لا يسمعان ضجة السيارات، ولا زعيق البشر، ولا يحمِّصهما قيظ الظهيرة. يستديران، تلتقي العيون، يبتسمان، يضحكان، ولا يتصافحان: إنَّهُ ملتحٍ، وهي مُحجَّبة. هي تقول في نفسها: "لماذا لم يصافحني حتى الآن؟" هو يقول بينه وبين نفسه: "لماذا لم تمد يدها لأسلِّم عليها؟" مسَّى عليها، فقالت: "يسعد مساك!" ثم يضمُّهما صمتٌ يليه أسئلة عن العمل والأصدقاء.
يقول:"لا بأس!"تقول:"الحمد لله!"
ثم يضمُّهما صمتٌ، ثم تسأله: "سمعنا انَّك خطبت.. مبروك!" يقترب منها خطوة. "إبنة عمي فسخت الخطبة.. قسمة ونصيب!" تجيب بهزة رأس لا معنى لها، ويضمُّهما صمت. يدنو منها خطوتين ويقول: "كدت اتصل بك قبل أسبوع!" تقترب منه خطوة وتعاتبه: "لماذا لم تفعل؟ اخص عليك!" يقترب منها خطوة ويقول وخدَّاه كوردتين جوريَّتين: "قبل ست سنوات وأسبوع بالضبط تعارفنا!" تغرورق دمعة في عينيها، تُخفِض عينيها الى الأرض لئلا يراها تبكي، تقترب منه خطوتين وتقول: "نعم، أذكر.." كم يودُّ لو صافحها. يدنو خطوتين منها، يتلعثم: "أنا.." تقترب منه خطوتين وتقاطعه دون ان تنظر إليه بصوت مرتعش: "أنت ماذا؟" أراد أن يقول لها انَّه يحبها ويريد أن يرافقها في مشوار حياتها ولم يستطع. اقترب منها خطوتين وقال: "أنا فقير!" اقتربت منه خطوتين وقالت: "الفقر ليس عيباً!" دنا منها خطوتين وقال: "وأنت غنية!" اقتربت منه خطوتين وقالت: "الإنسان غني بنبل مشاعره وصدقها!" قال: "بيننا مسافات كبيرة!" تسأله: "لماذا لا نجسرها بمصافحة؟!" يقترب منها خطوتين. يقترب منها خطوتين. مدَّ يده، كانت ترتعش. يدها كانت متخشِّبة ثابتة في الهواء. حضن يدها بيده، تشبَّثت الفتاة بيده. لقد انتظرت هذه اللحظة منذ ست سنوات. بكت فرحاً وضحكت، وكذلك بكى هو وضحك. سألها: "أين ذاهبة وأنت بهذا الحجاب والمنديل؟" أجابته بسؤال آخر: "وأنت، أين تذهب بهذه اللحية والمسبحة والقسمات المشدودة؟" انكرَّت ضحكاتهما تباعاً لأنَّ كلٌّ منهما عرف بفطرته اين يذهب الآخر: فقد قرَّرا مساء الأمس أن يذهبا إلى حفلة تنكرية.في خضم ضجة السيارات، وزعيق الباعة، خلع الرجل لحيته المُستعارة، وخلعت المرأة حجابها عن رأسها. كان كلاهما زوجين تزوَّجا منذُ ست سنوات، وتعاهدا منذئذ على ان يلتقيا كل يوم وكأنَّهما يلتقيان للمرة الأولى وبطريقة مختلفة جديدة غير مطروقة حتى يبقى الحبُّ عالماً سحريا تتجدَّد معجزته كل يوم. خلال ست سنين، وجد في زوجته ما يقارب الألفي امرأة، وهي وجدت في زوجها ما يقارب الألفي رجل. كلَّ يوم ينبثق الحبُّ من جديد بمحض الصدفة فيملأ العالم بأسره، تماماً مثلما تنزع المرأة بكلتها الآن عن شعرها فينسرح هامياً كالشلال على كتفها كأنَّها تلقي حجراً على صفحة بحيرة هائلة تأخذ دوائرها تتَّسع، تتَّسع، تتَّسع وتشمل الكون كلَّه. لكن ما الذي يجعل الناس يشتمونهما بشتائم مقذعة، ويبصقون عليهما نظرات مقرفة رغم إنهما لم يغمرا العالم إلا بالحب ولم يلوِّنا الحياة إلا بالصدفة الجميلة؟!
29/01/1995

جمال القواسمي قاص فلسطيني يعيش في القدس، من مواليد 1966، عمل سابقاً في الترجمة والتعليم؛ له ثلاث مجموعات قصصية: جاي معك 1990، شامة في السماء 1997، هزائم صغيرة، 1998.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثل الباكستاني إحسان خان يدعم فلسطين بفعالية للأزياء


.. كلمة أخيرة - سامي مغاوري يروي ذكرياته وبداياته الفنية | اللق




.. -مندوب الليل-..حياة الليل في الرياض كما لم تظهر من قبل على ش


.. -إيقاعات الحرية-.. احتفال عالمي بموسيقى الجاز




.. موسيقى الجاز.. جسر لنشر السلام وتقريب الثقافات بين الشعوب