الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدولة الجلاد

نادية الشربيني

2011 / 10 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


عندما تأمن من المحاسبة، لا ترتكب جريمة التعذيب فقط، بل تطور أداءك فيها وتستخدم من الأدوات والوسائل ما بجعلك تخط بيدك أمر استيراد لأدوات تعذيب تدفع من جيوب ضحاياك الحاليين والمستقبليين، وتخرج على الشعب معلنا استياءك منهم لأدائهم السيء الذي اضطرك لدهسهم وقنصهم. عندما تأمن من المحاسبة، ترتكب جرائمك في أي وقت من نهار وليل وتفاجيء ضحاياك بقدر مذهل من التبجح والصلف. عندما يخضع القانون لقوة السلطة ويصبح من بيده سلطة تنفيذ القانون قادرا على الخروج عليه في أي وقت وبأية كيفية، تتحول العلاقة بين الدولة والمواطن إلى علاقة بين جلاد وضحية. ولذلك فإن خالد سعيد ما زال يعذب حتى الموت بيننا، بالأمس كان اسمه سيد واليوم مايكل ومينا وعصام ومعتز، وغيرهم كثير ممن ستختلف أسماؤهم ومشاربهم وسيبقى ذكراهم نقيا في قلوب الأنقياء ومجرد اسم ضحية في ذاكرة الجلاد. ستحمل الذاكرة المصرية هذه الأسماء وستنقل وجع فراقهم عبر الزمان، وسيختفي اسم جلاديهم إلى حيث يلقي التاريخ عادة بأسماء القتلة والمجرمين، كما تنبأ عمر المختار ذات يوم لجلاديه.

من قتل عصام عطا في سجن طرة؟ ومن اطلق الرصاص على وكيل النيابة الشاب على طريق جمصة؟ ومن عذب خالد سعيد خارج سايبر في أحد أحياء الإسكندرية؟ ومن قتل الصبي الفقير في أحد أقسام الدلتا؟ ومن قتل سواق التوكتوك أمام قسم بولاق؟ ومن قتل مايكل وهو مشارك في مسيرة سلمية؟ ومن اطلق الرصاص على معتز أنور سليمان في الشيخ زايد؟

اختلفت الأماكن والقتل واحد، اختلفت الأسباب والقاتل واحد: الدولة. الدولة حين تتمد فوق ومن تحت المواطن وتتحول إلى تهديد عشوائي بالقتل مثل الروليت الروسي، إن أفلت اليوم من الرصاصة الفارغة، فقد لا تفلت غدا. ولا شفاعة لك كمواطن صالح، فصلاحك واحترامك للقانون لا علاقة لهما بحكم الإعدام الصادر ضدك مسبقا. وكيل النيابة الشاب قتل عبثا وبلا سبب لأن الدولة قررت أن ترسل لمواطنيها فرق الموت والترويع وارادت أن تحقق ضربات موجعة على امتداد جغرافي واسع، بحيث يدرك الجميع أنه لا أحد في مأمن، وأن الخنوع قد يجعلك باقيا على قيد الحياة، لكن مدة حياتك خاضعة لتقدير الدولة. إن الجلاد اصدر حكما بالإعدام على معتز سليمان لأنه خرق مبدأ الخنوع. تمسك بأحقيته بالمرور بسيارته فمات برصاصة في الظهر. لا وقت لدى الجلاد لمبارزة شريفة، فهو قد رمى الأخلاق ظهرا من زمن طويل، وأصبح المواطن يعيش في دولة مجردة من الأخلاق الحاكمة. ولنعود بالذاكرة إلى حادث وقع قبل الثورة حين احتج أب مسافر مع أسرته إلى شرم الشيخ على المعاملة المهينة التي تعرض لها من قبل رجال الأمن، لقد قرر أن يتحدى مبدأ الخنوع، فكان لابد من معاقبته في نفس مكان تجرئه على تحدي جلاده. عوقب على الفور رغم أنه ينتمي إلى طبقة تكاد تكون محصنة، معظم الوقت على الأقل، من ضربات الجلاد العشوائية، إلا أن الجلاد، الذي هو دائما من الجبن بحيث أنه ينتقي ضحاياه من المهمشين والضعفاء وقليلي الحيلة أو تعسي الحظ، لا يتورع عن مد يده الغليظة وهز حالة الأمان الهش التي يتمتع بها من لهم مكانة اجتماعية أو سندا من سلطة ما قد توفر لهم ما يشبه درع حماية غير مرئي. فالدولة الجلاد تحتاج، من وقت لآخر، إلى إرسال رسائل فزع لبعض من هؤلاء في طبقاتهم المحصنة، كي يعرفوا أنها ربهم الأعلى في كل الأحوال.

الدولة الجلاد لا تجدد خلاياها، فتتجمد ويتخطاها الزمن مهما طال وقت بقائها. وهي متكلسة الأطراف وتعتمد على قوة عددية لا تقوم على ايمان أو أيدولوجية، لذلك سرعان ما يفر هؤلاء كفئران حين تبدأ المركب في الغرق. العيسوي أعلن زورا أن الداخلية توفيت يوم 28 يناير. لقد تفتت البناء الواهي لأمن مبارك وتشردت أطرافه بفعل القوى النورانية الطاهرة التي خرجت من جموع الثائرين في الثورة المصرية، لكن الكيان الخرافي للأمن انتقل لتنفيذ خطة البقاء على قيد الحياة، فأطلق الصف الثالث من جنوده، آخر خط دفاع وهو جيش المخبرين والبلطجية ومعتادي الإجرام والمأجورين وتركهم يعبثون بالأمن، كي يبدو وكأن انسحابه من مواقعه قد كشف ظهر مصر فوقعت فريسة للخارجين على القانون. وخلع قناع أمن الدولة السيء الذكر والسيرة الأسود التاريخ ولبس قناع الأمن الوطني. دخل الجلاد إلى الحمام كي يتخفى فوضع باروكة على رأسه وركب ذقنا وغير ملابسه وخرج قائلا إنه واحد آخر. وبينما يحرك أدواته القديمة من خلف الستار أعاد إنتاج نفسه. لم يكن تجديدا حقيقيا ولا حتى في طرق البطش والترويع، بل اعتمد نفس طرقه البالية، فخلاياه قديمة متكلسة غير صالحة للتأقلم مع أي جديد.
تحت الدولة الجلاد لا مجال لديمقراطية من أي نوع. فالجلاد لا يفسح المجال للشعب كي يشاركه فيما يفعل. فمن غير المعقول أن يشارك الضحية الجلاد في سلطانه. لذلك فليس أمام الجلاد سوى الانفراد بالسلطة مستخدما حلقات من السلطات التابعة كلحقات حماية أكثرها أهمية هو اللصيق به. وهنا تنشأ طبقة الجلادين-الضحايا، وهم يكونون من الحلقات المنفذة لسياسة الجلاد، البعيدة نسبيا عن مركز السلطة. ويمكن التضحية بهم أحيانا، فيتحولون من جلاد-ضحية إلى ضحية. ولنا في الكموني، منفذ مذبحة عيد الميلاد، وخنوفة، البلطجي المنتحر، مثالا جيدا. فالأول ينتمي إلى حلقة الأدوات الباطشة غير الرسمية للدولة الجلاد، وهي تحركهم من وراء ستار وتلعب بهم كأوراق تسوية فيما بعد، والثاني ينتمي إلى نفس ميليشيا الشوارع التي ينتمي إليها الكموني، وقد قرر التمرد على أسياده لسبب ما، فما كان من أسياده إلا أن اضطروا لإعلان خبر انتحاره في زنزانته.

استمرار الدولة الجلاد يشكل نزفا اجتماعيا واقتصاديا خطيرا لمقدرات مصر. فهناك ميزانية مهولة ترصد لتمكين أدوات الدولة الجلاد من قوة بشرية ومعدات وجمع معلومات، وهناك إزهاق دائم للأرواح وانتهاك دائم للحريات. كما أن استمرارها يحول الثقافة السائدة بين عموم الناس إلى العنف والفوضى وعدم احترام القوانين وعدم الإيمان بجدوى النظام. إن استمرار الدولة الجلاد إعلان صريح عن فشل الثورة المصرية. أقولها وفي القلب وجع وفي العين دمعة لأن الثورة المصرية كلها ما قامت إلا للقضاء على الدولة الجلاد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جيش الاحتلال الإسرائيلي يكثف غاراته على مدينة رفح


.. مظاهرات في القدس وتل أبيب وحيفا عقب إعلان حركة حماس الموافقة




.. مراسل الجزيرة: شهداء ومصابون في قصف إسرائيلي على منازل لعدد


.. اجتياح رفح.. هل هي عملية محدودة؟




.. اعتراض القبة الحديدية صواريخ فوق سديروت بغلاف غزة