الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القوارض لا تعرف الألفة

محمد نوري قادر

2011 / 10 / 31
الادب والفن



1
هكذا عرفته يتلو أناشيد الغرف الآسنة , مضطربا من الحمى , يعكس ظله وما يخفيه , منذ إن سكن المحلة وهو لا يرى ابعد من خطواته , بليد من التخمة التي ترافق التحريض ولم يكن يوما محبا للألفة وما جبلنا عليه ,متخبطا في قراراته متلعثما في كثير الأحيان عيناه لا تفارق القمامة , يحمل الوحل في جلبابه أينما حل , رائحته تزكم الأنف , ولم يبالي كما هو شأنه دائما , كل أصدقائي يجدونه محطة للسخرية في كل الأوقات .
أصدقاءه الذين اختارهم , ومن يقضي معهم بعض الأوقات ,يحملون ما يحمله وهم في وفاق معه علنا , ذلك ما يبدو , وفي الأماكن الأخرى وفي لقاءاتهم المحمومة , يتجنبونه ويبتعدون عنه مسافة شاسعة , ربما إنهم يعرفونه أكثر. في المحلة اختار أن يكون له موطئ قدم فيها فافتتح محلا لبيع الخضار , في بداية عمله كان يتصبب عرقا , ربما كان خجلا منها , ثم اعتاد عليه , يجلبها من (علوه) الخضار منذ الصباح الباكر ويرتبها كيفما يشاء وهو عمل لم يتطلب منه جهدا آخر أو معرفة . حين يجد الوقت الكافي يقوم بوضع الطازج منها في المقدمة ليكسب أنظار ربات البيوت ومن يمر بالقرب منه , يمسك قطعة قماش فقدت نظارتها من الغبار الذي علق فيها وما امتلأت من قذارة يديه الملطخة فيها , يمسحها أحيانا بردائه وباستمرار إذا تطلب منه العمل ذلك وإذا لم تكن قطعة القماش قريبة منه , يضع نظارات على عينيه لتجلب بعض الوقار إليه وهو ما لم يكن معتادا عليه
كنت أراه غير ما هو وغير ما يبدو ,في زمن طفح القبح فيه واشتدّت روائحه , وكنت اشعر بالهلع منه ,وأنا أتبضع منه مضطرا أحيانا في طريقي إلى البيت وهو يحاول التقرب دائما من زبائنه ويختار ما يرضيهم متوددا حضورهم إليه , يرسم بسمة مزيفة ومصطنعة تكشف عن أسنان غمرها التسوس , وهو ينتقل من مكان لآخر , يده تمسح ما يقع نظره , يصغي لكل همسة وحديث
في كل مرة يكون البيت محتاجا إلى شيء اذهب إليه , لم يكن أحدا غيره يبيع الخضار , أتفحصه بشك مرتعدا منه كلما مد يده يصافحني واشعر بشيء يوخز منه يسري في عروقي وتصيبني منه القشعريرة , كنت اشمئز منه , لا اعرف السبب , منذ رأيته أول مرة , ولم استطع التخلص منه ,شعورا يبعث في نفسي التقزز والريبة خاصة عندما أجده بغفلة يرمقني بنظرات فاحصة وذلك ما لا أطيقه , وما يجيده أمثاله ممن عرفناهم كثيرا ومن الغرباء الذين توافدوا , ومن القادمين الموشومين بالرياء والذين ملئوا أزقة المدينة مصحوبين بالغثيان , كلهم متشابهين وكلهم سواء يمتهنون التسكع تحت مظلات فقدت البهجة يعشقها الدخلاء

2
كثيرا ما شاهدت أشخاصا يتشاجرون معه داخل المحل يصاحبه التوبيخ ويلوحون له بأيديهم غضبا , كان يبقى صامتا طوال الوقت , طوال تواجدهم , كأن شيئا لم يحدث , يعود بعدها إلى زبائنه , اشعر فيها بالأسى لما يحصل وبالخجل بنفس الوقت واكتفي بالنظر , وأتابعه فقط , لم أراه يشعر بالحرج , يقوم بحركات مبهمة سببها التوتر , وكثيرا ما يبدو غير مبال . كان ثوبه ما ينطق حضوره وما يغمره حتى أذنيه , كشفه عريه أمام الآخرين بوقت قصير جدا حول تساؤله المريب عن كل ما يجري وما يود أن يعرفه عن الجميع وما أعلنه وجوده , جوفه يصرخ قذارة , يرتدي الخداع , كاشفا قبح ساقيه التي دفعته ورفعت ثيابه وكشفت أعضائه .لكنه يظل يتابع ويتحدث مع الآخرين هامسا بتودد مرارة قلبه وما يدعوه أن يكون مؤاسيا وقريبا من الجميع ,لأنه يقول إن أحدا لم يفهم مبتغاه , متناسيا إن الوجوه التي خدعت مرارا لا تصدق هذا الهذيان والمواعيد الكاذبة والأقدام السيئة التي تخطت خلوتها وقد بح صوتها من الثغاء والأناشيد الرتيبة وهي تحاكي ما فقد توازنه للسادة المبللة سراويلهم أيام المحن .
ثمة أشياء يبصقها المرء لمرارتها وما لا يطيب حضورها , عندما ينكشف الغطاء , أو يتعبه الجري , أو من يراه يطوف حول القمامة .
وفي كل مرة يحدث ذلك أمامي , اصدق حدسي , وابتعد عنه , فأنا أشم رائحة الوحل عن بعد وأسير بعكس اتجاه الريح كي لا ازكم منها واضع منديلا فوق على انفي مبتعدا عنها بقدر ما أستطيع وابصق انفعالي حذرا بوجه الغرباء , لأكون كما تعلمت وعلمتني هذه الفانية التي ممتدة وباء .
3
ابتعدت كثيرا, ربما لاني أخشى الوشاة , تركت خلفي كل ما يقال ولم انظر للوراء , الوشاة ملئوا طريقا نباحا وحجارة , كلهم دمى وأدوات تحركها متى شاءت كلاب الصيد , وما تبتغيه من تطلق على نفسها الجياد في أحلامها الدنيئة , وما هي إلا قطط تتودد أذنابها لتلعق ما وضع في الإناء , تتوسل أماكنها بأخس ثمن لتبقى كما هي في مكانها المعتاد ,تبتسم لنا لتخوننا وتقودنا حيث الهلاك وتفتعل الأزمات . عرفنا أمثالهم الكثير وأصبنا منهم بالتخمة , ولم نجد صعوبة في فرزهم
عرفناهم في المهد , ينشرون الشباك , يصطادون من تعثرت قدماه , وما نحن الا قرابين تقدم للفداء . الوشاة هم الوشاة . سأكون بليدا اذا غفلت عنهم في بلد تسكنه العاهات , لاشيء يتغير في قواميس الرعاع , يتقدمون أيامنا , يزرعون الفخاخ , نقيقهم مزق السكون وعكر المياه .
ابتعدت كثيرا , ومضيت كما أنا اعزف أغاني الصباح على الإيقاع , الإيقاع الذي لا أجد غيره يطرب الأذان , حيث لا أريد من أراه اشعر بالقرف , اطعم طيوري وهي ترفرف بأجنحتها حبا وافرش اعاشاشها الأزهار . ليس هنا فقط ,بل في مكان , إذا قرأت الاوارق وتصفحتها بإمعان لا تجد سوى الصداع وأحزان تطمرها البسمة , تغطيها برهة ,ثم تعود صاخبة بأصداء الانفعالات المقيتة , سببها الوشاة .
4
في يوم قارص من أيام الشتاء , عدت مبكرا , ليس كعادتي , لم اجلب معي ما يحتاجونه , إضافة إلى الوهن الذي يدب مفاصلي , حين اقتربت من محله فوجئت إني لم أجده وفرحت بنفس الوقت .كان أحدا يشغل محله يرتب ما بقي وما بعثره الزبائن في سلال الخضروات ويهش الذباب الذي يتزاحم بكثافة فوقها . أين ذهب صاحبك ؟
لا اعرف , ولا أحدا يعرف , هكذا اختفى بدون أن يعرف احد , ولم يخبر أحدا , حتى عائلته تقول إنها لا تعرف أين رحل ,ربما انتقل إلى مكان آخر, والابتسامة لا تفارق شفتيه , كأنه يريد أن يخبرك ما تعرف ويعرف , ولم أود أن ادخل في موضوع لا شأن لي , بقي يتحدث عنه بما نعرفه ويعرفه الجميع وهو منشغلا بعمله
وقفت انتظر ينتهي حديثه لأودعه . هكذا يحصل دائما عندما يرتفع الموج , لن يمكنك أن تشعر إلا بالأسى لمن لا يجيد فن المصافحة ولا يود أن يعيش كما الآخرين .
لا اعتقد إن شخصا لا يعرف التفاصيل , قلت له , تلك هي ما اختار , وذلك ما يحصل للبائسين . القوارض لا تعرف الألفة . أليس كذلك ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - نعم
علي فهد ياسين ( 2011 / 10 / 31 - 13:32 )
عرفناهم في المهد , ينشرون الشباك , يصطادون من تعثرت قدماه , وما نحن الا قرابين تقدم للفداء . الوشاة هم الوشاة
آهٍ عليك .. كم خَصِبٌ أنت ؟
لك مني وردة شفاه على جبينك

اخر الافلام

.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس