الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أبجدية جديدة

على شكشك

2011 / 10 / 31
مواضيع وابحاث سياسية



ليس مجرّدَ قمع، وليس مجر أسر، وليس مجرد عذاب هذا الذي يتعرّضُ له الفلسطيني، هناك حالة خاصة به، حالة تفتقد إلى نظير سابقٍ لها في التاريخ بل في المتخيَّل، حالة خاصة تتغلغل في كلِّ مفردات الحديث عنه وعنها، حتى عندما نتحدث عن جغرافيته نجدنا بتلقائية مضطرين إلى التوكيد والتفصيل لنقول: الفلسطيني أينما كان في الوطن المحتل عام ثمانية وأربعين أو الجزء المحتل عام سبعة وستين ونظراً لأهمية القدس والمؤامرات التي تحاك فيها وعليها فلا بدّ من ذكرها مع التشديد، كأنّ هاجساً يحذرنا من إغفالها فينقضوا عليها كما فعلوا عندما نسينا أل التعريف في قرار اثنين أربعة اثنين وما زلنا نعاني من ذلك النسيان، دون أن ننسى أيضاً مختلف أشتات الشتات،
والافتقار إلى حالة مشابهة يحرم فضاء الوعي من مرجعية يستأنس بها في التعامل معها ويستند عليها وهو يقارع الحرب الشاملة التي تُشَنُّ عليه من كلِّ اتجاه ومن كلِّ حدبٍ وصوب، وهذا يسبغ عليها سمة الفرادة التي تجعل التعامل معها اجتهاداً ينتمي أيضاً إلى جذر الفرادة ولا يصلح للتأسيس عليه لاحقاً لأن فرادتها تعني أيضاً أنها لا تتكرر،
هي ليست مجرد حالة قمعٍ أو أسر، بل ليست أيضاً مجرد حالة احتلال، حتى ولو وصفنا الاحتلال بالاستيطاني الإحلالي ذلك أنّ هذا التوصيف قد يصلح أكاديميا لنعت النمط الاستعماري دون أن يعبر عن الرهق الذي يكابده الفلسطيني منذ بدأ هذا الرهق، والتبعات الكبرى له ليس فقط كمعاناة ولكن أيضاً بوصفه خلخلةً وارتجاجاتٍ وانصهارات وطفرات إنسانية واجتماعية ونفسية وثقافية وغيرها تمسُّ الروح والمزاج والضمير وتمس الوجدان، وتنبت في تربتها براعم لإنسانٍ آخر سيجد لغته التي لن يفهمها حينئذٍ غيرُه، بما أنه هو الوحيد الذي أبجدَها، ولهذا السبب نفسه سيظن العالم من حوله أنه يهذي، حتى الصديق منهم والشقيق، وقد يتراوح الظنُّ منهم بين الإفراط والتفريط، دون أن ينتبه أحد إلى أن الفرقَ فقط هو في الانتباه إلى الأبجدية المختلفة التي يتكلم بها المتكلم المتألم بدون بكاء والمتذمر بلا صراخ، والانتباه إلى أن تلك اللغة هي بصدد كتابة نَصِّها الأول الذي حين يكتمل قد يُفسِّرُ آخرُه أولَه،
فلم يحدثْ أنَّ غازياً قد ورثَ غصباً بيوت السكان الأصليين وملاعقهم وأغطيتهم وآبارهم وشوارعهم وثمار حقولهم ومدارسهم ومستشفياتهم ومطاراتهم وشوارعهم وملابسهم وأسِرَّتهم والصور المعلقة على جدرانهم وشجرة التين التي تطل على الشباك وإشراقة شمس الصباح وإطلالة الجبل ودرابزين الدار والندى في أول الفجر ومحجار القرية واستولى على الذكريات واستذكرها جيداً ليرددها في المحافل الدولية ويضع ختمه على عرَق الجدات وذائقة القرون ومزاج الأكلات الشعبية وتراتيل المساء وبهجة الأزياء واغتصب فيما اغتصب نبض الفرح في حلقات الرقص تماماً كما استولى على البنوك الفلسطينية ولم يفعل إلا ما يفعل المزورون حين يرفعون اسمك ويكتبون اسما آخر، حتى على التاريخ والآثار، وأثاروا الدنيا ومراكز الأبحاث لإبادتك بأثرٍ رجعي، واستثمروا كل شيء .. كلَّ شيء, المال والقوى العظمى وألبوا عليك الأمم، والتفوا على إخوتك ووقفوا بينك وبينك كي لا تراك، وأينما وليت وجهك وجدتهم قد أعدوا لك، حتى صادروا قبابك وزخرفات الجدران وجففوا الماء تحت الأرض وزحفوا رويدا كسرب نمل وحاصروا أسماك البحر ووضعوك على قوائم الاغتيال، بالسف أو بمعاداة السامية أو بشطب اسمك من قائمة المواطنين، أصبح اللاجئون الفلسطينيون جنساً متميزاً له سمات لا تشبه إلا نفسها بما تقطّر فيه جراء اشتباك وتفاعل الهمِّ مع الأمل والحسرة مع الخذلان والأسلاك الشائكة وقهر العدو مع ظلم ذوي القربى وهالات المجد والقمع والأسلاك الشائكة وعربدة القوى العظمى وبجاحة ادعاءات العدو، كأنَّ العدوَّ صدَّق ادعاءاته، كأنه صدّقَ أن هذه الأرض له من دوننا فتمادى فينا حتى العظم، هكذا يُصبح الفلسطيني الفدائي مجرما، والأدهى أنه يتسلل إلى ثقافة القانون الدولي وإلى مزاج أصدقائنا حتى يصل الأمر إلى اعتبار مجرد التصريح بمعاناتنا تهديداً للسلام،
هي أكبر من حالة قمع أو حالة أسرٍ واحتلال، لكنها تهدف إلى التنكيل بنا حتى آخر خلجة إنسانية فينا، هي إبادة من نوعٍ آخر، تراهن على الوقت والمصطلح والتزوير أمام العالم في الوقت الذي تخرج فيه لسانها لنا أن: "موتوا بغيظكم، صحيح أن هذه القدس تشبهكم ولكننا سنستلها حجراً حجرا، وقراراً قرارا، وإن اقتضى الأمر استخدام الفيتو"، وهي تهدف إلى التمثيل بنا كأنها تثأرُ لشيءٍ قديم، كأنها تنتقم من شيءٍ قديمٍ في شخص حالتنا، وهنا ربما تكمن الدوافع وتعبّرُ الحالة التاريخية عن ذاتها حتى رغماً عنها أحيانا، حين تتجاوز النقطة الحرجة التي كانت تضمن ضبط انفعالها وآلياتها، أو لانتشائها بحالتها الجديدة التي فاضت بذاتها وأفضت عنها، أهي تصفية حساباتها مع التاريخ ومع الأنبياء ومع حقيقة الوعد، أهي تناطح سنن الكون التي أنهت ميثاقها وأورثته قوماً آخرين، هي إذن رغم كل ما سبق تُهيِّءُ لذاتها كلَّ شروط فنائها، هي سنن الكون، لهذا كان لابدَّ من كلِّ هذا الظلم وهذا التنكيل، حتى تتشكل فينا هذه الأبجدية الجديدة الجديرة بكتابتنا وكتابتهم من جديد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سرّ الأحذية البرونزية على قناة مالمو المائية | #مراسلو_سكاي


.. أزمة أوكرانيا.. صاروخ أتاكمس | #التاسعة




.. مراسل الجزيرة يرصد التطورات الميدانية في قطاع غزة


.. الجيش الإسرائيلي يكثف هجماته على مخيمات وسط غزة ويستهدف مبنى




.. اعتداء عنيف من الشرطة الأمريكية على طالب متضامن مع غزة بجامع