الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دروسٌ منَ الانتخاباتِ التونُسيةِ

محمد الهجابي

2011 / 11 / 1
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي


تضعني الانتخابات التي جرت مؤخراً بتونس قصد تشكيل المجلس التأسيسي أمام دروس فكرية وسياسية كثيرة، أجمل بعضاً منها، ممّا يبدو لي أساسياً، في التالي:
1) ثمّة رغبة كبيرة لدى القسم الواسع من الشعب التونسي في استكمال مراحل ثورته بإقامة مؤسسات دولة يقوم منطق اشتغالها على نقيض المنطق الذي تحكّم في سياسة نظام بنعلي. ولقد ترجم هذه الرغبة ذلكم الاستنفار الرحيب الذي سجّل لدى الفاعلين السياسيين، ولدى المواطنين لأجل المشاركة في التصويت؛ وهو ما فاق التوقعات بحسب التونسيين أنفسهم.
والرغبة حاصلة في إرساء قواعد لعبة ديموقراطية تنبني على الاحتكام إلى صناديق الاقتراع. فعلى رغم فوز الحزب الإسلامي، حزب النهضة التونسي، فإنّ أغلب القوى السياسية المشاركة أقرّت بنجاح هذا الاستحقاق بناءاً على عملية انتخابية اتسمت بأكثر ما يمكن من النزاهة والشفافية، ومن هذه القوى الحزب الديموقراطي التقدمي الذي اعترف بهزيمته.
والظاهر أنّ هناك مصلحة بين جلّ القوى المتبارية في عدم الرجوع إلى حياة النظام السابق. ومن هنا، هذا الاتفاق الضمني حول شعارات تهمّ الحق في الاختلاف، والتعدّدية الحزبية، وحرية الرأي.
2) ليس بالضرورة من يطلق شرارة الثورة، ومن يعمدها بدمائه وتضحياته، والأمر هنا يرتبط بشباب تونس، مثلما قد يصدق على شباب باقي البلدان، هو من يقطف ثمارها، على الأقل في البداية. ذلك أنّ هناك فرقاً فارزاً بين المتواجد في الشارع لأجل إجبار المتنفذ في السلطة على استكمال مهمات الثورة، أو الإصلاح، وبين المشارك في التصويت أثناء عملية الاقتراع.
في الغالب، يمثل الشباب نبض الشارع، فيما يمثل الكهول، وإلى جانبهم الشيوخ، نبض صناديق الاقتراع. يجنح الشباب إلى اعتماد الشارع أداة الضغط، ويميل الكهول والشيوخ إلى التوسل بالاقتراع وسيلة للتعبير عن الرأي (وكثير من الشباب يهمل حتى الحصول على بطاقة التصويت! وهو أمر له دلالته). ثمّ إنّ المرء يكون أحياناً "ثورياً" في الشارع، لكنّه "متحفظٌ" و"متعقّلٌ"، أو منصرف إلى "أهواء" أخرى، أثناء ما يكون في طريقه إلى مكتب التصويت، أو هو في مخدع التصويت. ومعنى ذلك، أنّه ليس من المحقّق أنّ الرأي الصادح في الشارع هو الرأي نفسه الطالع من صناديق الاقتراع. ليس لهذا التقدير من صلة، بالضرورة، بمسألة صراع الأجيال، فميزان التحليل وزاوية النظر قد يختلفان من مقام الشباب إلى مقام الكهول (ولا سيما كهول الطبقة المتوسطة). ثمّ لا ننس أنّ من القوى السياسية من يمهرُ في تحريك الشارع، ومن القوى السياسية من لا يجيدُ سوى حصد أصوات الصناديق (حكاية حبات الزيتون والشوكة)، وهي بذلك، لا تعدو أن تكونَ ماكينات (آلات) انتخابية طاحنة فحسب. هذا فضلاً عن أنّ أصوات "المتحضّرون" ليست، بالضرورة، هي أصوات "الهامش" و"الضاحية".
ولربّما السؤال الذي تطرحه "التجربة التونسية" هو التالي: كيف يمكن تحويل الكتلة الغاضبة، أو الثائرة إن شئت، إلى كتلة ناخبة ومنسجمة وضاغطة؟ الذي يملك من قوى اليسار سرّ الجواب عن السؤال إيّاه لا محالة سيملك القدرة على تحسين أوضاعه السياسية.
3) لا شكّ أنّ الطبقة المتوسطة لعبت الدور الأساس في ترجيح الكفّة لفائدة حزب النهضة التونسي. فلأسباب اقتصادية عرفت هذه الطبقة اتساعاً اجتماعياً لا يستهان به في المجتمع العربي خلال العقود الأخيرة؛ وهي طبقة لا تزال غير مستعدّة بما يلزم، أو غير مقتنعة بما يكفي، للتضحية بمصالحها الآنية في المدى القصير، وربّما في المدى المتوسط أيضاً، لصالح مصالح تتوخى البعيد الذي هو في حكم المفترض أو المقترح أو المتصوّر أو هو محضُ مشروع ليس إلاّ. وعليه، هناك لدى هذه الطبقة ميلٌ إلى التنظيمات السياسية ذات "السياسة المعتدلة". ولا غرو، فقد بات كسب الطبقة المتوسطة عاملاً أساس في أيّ تغيير منشود؛ قد لا تكون رقماً يعتدّ به في الشارع، بيد أنّها رقمٌ انتخابي رئيسٌ في المعادلة السياسية كما في صناديق الاقتراع.
وبالعودة إلى فسيفساء أصوات التونسيين، فمعظم أحزاب الوسط من جهة اليسار أو اليمين تحصّلت على "ثقة" الناخب التونسي. ولعلّ في هذا، إلى جانب ما سبق، نوعاً من جبر خواطر مختلف قوى الوسط استحضاراً لأحوالها وتجربتها إبّان نظام بنعلي، وقد يكون في ذلك رغبة في منح الفرصة للجميع في هذه المرحلة السياسية الانتقالية بالضبط. ثمّ ألا يكون تعبيراً عن الوعي الشعبي كما هو حاصل في " حقيقته" لا كما قد يوهمنا به "الشارع"؟
4) لا بدّ إذن، من الإقرار بأنّ عناصر الفكر الحداثي والديموقراطي والعلماني قد تراجعت في العقود الأخيرة داخل المجتمعات العربية. ومع أنّ هذه العناصر لم تكن أصلاً راسخة، والأرجح أنّها لم تكن غائبة بالكامل، فإنّه من الممكن القول إنّ نسبة مهمّة من البلدان العربية، ولا سيما المطلة منها على البحر الأبيض المتوسط، احتفظت منذ استقلالها عن الاستعمار الأجنبي الفرنسي والبريطاني بخاصة، إلى غاية أواسط الثمانينات من القرن العشرين، بقدر لا بأس به من أصداء لهذا الفكر الحداثي.
إنّ التراجع حصل بسبب أمرين اثنين رئيسيين، أولهما: تصلّب "الدولة الوطنية" إلى حدّ التحجّر وسيادة الرأي الواحد هو، في الغالب، رأي الحزب الحاكم أو الطبقة السياسية المتنفذة، ممّا أعدم التعدّد والاختلاف، وبالتالي عطّل من إمكانات التطور نحو الديموقراطية الشاملة. ثانيهما: اكتساب المدّ الإسلاموي لخطوات سياسية متقدمة ساعدت على تحقّقها طبيعة "الدولة الوطنية"، وكذا عجز قوى اليسار والديموقراطية على مراجعة فكرها وسياستها وتنظيمها. إذ ظلّت متخلفة بكثير عمّا كان مطلوباً منها في شروط ما جرى بالبلاد التي كانت محسوبة على "المعسكر الاشتراكي" غداة 1989، وفي شروط تحولات همّت قوى اليسار بالغرب الأوروبي.
من هنا، فإنّ "الوعي الديموقراطي" بكلّ تمظهراته لدى عموم "الجماهير" لم يقطع مع "الوعي المتأخر" كي يعانق روح فكرة الحداثة التي وجدت لها مواطن جديدة بأمريكا اللاتينية وأروبا الشرقية على وجه الخصوص. ردّة الفعل "السلبية" لدى الجماهير العربية، في حيّز مهم منها، هي من غياب شبه الكامل لتفاعل القوى الديموقراطية، واليسار منها بخاصة، مع التحولات الجديدة الجارية؛ هذه القوى لم تكن في مستوى "تفسير ما جرى" من قبل أثناء الزلزال الفكري والسياسي الذي لحق ب"المعسكر الشرقي"، ولم تستطع اليوم تحليل أزمتها الذاتية، والخروج منها في ظل الجاري من وقائع بالبلاد العربية.
إنّ الوعي الشعبي العربي القائم، الساعة، هو وعيٌ لم يستقر بعد على حال. ولا يزال، في إجماله، يبحث عن أجوبة لإشكالات السياسة و"الهوية" والاجتماع. وتمثل الطبقة المتوسطة بؤرة مدار هذا الوعي الشعبي. وعيٌ يريد "الاعتدال". ويرغب في الجمع بين "التقدم" و"التقليد". لا يريد أن يضيّع الأول لصالح الثاني، ولا يرغب في التشبث بالثاني على حساب الأول. وهذا من الحلول التي قد تنفع في المدى القريب، لكنّها لن تصمد في المدى المتوسط والبعيد. وبالتأكيد، لا يملك "الاتجاه السياسي الإسلامي" القائم مخارج فكرية وسياسية للوضع قابلة لإنجاز التحوّل الديموقراطي الحداثي.
وإلى ذلك الحين، أرى من الواجب، شأني في ذلك شأن العديد من الأصدقاء، طرح السؤالين الآتيين: هل ستفوّتُ قوى الديموقراطية الفرصة من جديد بعد أن فوّتتها قبل العقدين من الزمن؟ ألم تحنْ لحظة التفكير جدّياً في التحرر من دوغمائياتها والتخلص من أصنامها، وتدشين ربيع حزبي خاص بها، ربيع ديموقراطي داخلي، يمسّ كامل عمارتها، في أفق دولة ومجتمع ديموقراطيين؟
*محمد الهجابي (روائي وكاتب من المغرب)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حيوان راكون يقتحم ملعب كرة قدم أثناء مباراة قبل أن يتم الإمس


.. قتلى ومصابون وخسائر مادية في يوم حافل بالتصعيد بين إسرائيل و




.. عاجل | أولى شحنات المساعدات تتجه نحو شاطئ غزة عبر الرصيف الع


.. محاولة اغتيال ناشط ا?يطالي يدعم غزة




.. مراسل الجزيرة يرصد آخر التطورات الميدانية في قطاع غزة