الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من هو فارس عودة ؟؟

عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

(Abdel Ghani Salameh)

2011 / 11 / 1
القضية الفلسطينية


ظل الزعيم الراحل ياسر عرفات في أيامه الأخيرة يردد اسم "فارس عودة" في كل لقاء مع الصحافة أو مع الجماهير التي كانت تؤم المقاطعة، كان عرفات فخورا ومزهّوا بهذا الفتى إلى أبعد حد، كان يريد من خلاله إيصال رسالة إلى جماهير الأمة وزعاماتها، ويقدّمه كرمز للتضحية والشجاعة، ونموذج في المقاومة، كان يريده صورة جديدة للفلسطيني المقاوم، خلافا لأي صورة أخرى.

عرفات في أيامه الأخيرة ظل متقد الذهن، ولكنه كان يستحضر روح الشهيد، ورغم ذلك في تكراره هذا الشعار لم يكن صوفيا بقدر ما كان سياسيا وبامتياز، فلماذا يتخذ زعيمٌ بحجم ياسر عرفات من هذا الفتى رمزية للنضال، وهو القائد الذي خاض غمار الحروب واختبر ميادين الوغى، الذي كانت يومياته هي التاريخ المعاصر للقضية الفلسطينية ؟!

فارس عودة ابن الخامسة عشر، طفل عادي .. يحب الفلافل والدجاج المحمر، ويكره الواجبات المدرسية، يرمي حقيبته فور وصوله البيت، لينطلق بعدها في الشوارع، يملؤها مرحا وصخبا، لم يعرف بلداً غير غزة، أقصى أمانيه كانت أن يشتغل عاملا بأجرٍ يكفيه بناء غرفة إضافية، أما أبوه فكان يريده أستاذ "وكالة"، ومع ذلك كان من الممكن أن يصبح طيارا أو محاسبا في شركة كبرى، كان مشاكسا ومسالما في نفس الوقت، ولكنه كان يخبّئ في شرايينه دماء كنعانية، كان قلبه يخفق نبضاً فلسطينياً خالصاً، أما أغنيته المفضلة فهي "لو كسروا عظامي مش خايف لو هدوا البيت مش خايف"، في هذا الخريف سيكون قد مضى على رحيله أحد عشر عاما كاملة، وطوال هذه الفترة والسؤال الذي يلح علي: هل كانت مصادفة أن يكون اسمه فارس ؟؟
"
فارس" لمن لا يعرفه هو ذاك الفتى الذي نشرت صورته أشهر صحف العالم، وهو يتصدى للدبابة الإسرائيلية بحجارته وصدره العاري، 55 طن من الفولاذ تمثل خلاصة التكنولوجيا الإسرائيلية، وتحمل ذخيرة تكفي لإبادة حي كامل، سخِرَ منها "فارس" وأوقف زحفها، ومرّغ كرامتها بالوحل، لم يحفل بكل هذه الشهرة، لأنه ببساطة لا يقرأ الصحف الغربية وهو بالكاد يقرأ دروسه غصبا، فالدرس الوحيد الذي حفظه عن ظهر قلب قصيدة لفدوى طوقان عنوانها "لن أبكي"، كانت كافية لتملأ قلبه بالحب، لكن دبابة "الميركافا" كانت كافية لتفجر في كل خلية منه بركان غضب.

في ذلك الصباح المشمس خرج "فارس" مبكرا من منـزله، وكان على غير عادته معطرا مبتسما، يحمل بيده حقيبته المدرسية، وقد خبأ بداخلها مقلاعا، وإكليلا من الزهور، كان يريد التوجه إلى "المنطار" .. فذهب بعيدا خلف السياج ووراء المدى .. حيث لا صدى للصوت، ولا ظل للأشياء، وأوغل في الغياب، لم يعد لبيته كما وعد أمه، لم يحتمل الجنود إهانة "فارس" فانتظروه تسعة أيام فقط، وعندما كرر رقصته أمام "الميركافا" أطلقوا عليه رصاصة من عيار 500 ملم فتّتت صدره وأجزاءً من رقبته، ولكن يديه الصغيرتين لم يمْسَسْهُما سوء. ترجّل الفارس بعد أن سجل للتاريخ صورة الفتى الذي تحدى بعظامه ولحمه الطري دبابة الاحتلال.

لم تنتهي قصة فارس في ذلك اليوم الخريفي الحزين، فقد ظلت أمه ترتّب خزانته كل صباح، وظل أخوته الستة يخصصون له صحنا كلما حمّرت لهم أمهم دجاجة، أو أعدت طبقاً من الملوخية، وظلت باقة زهور تحتل مقعده في الصف، يُرفّعها أقرانه صفا صفاً .. وهي الآن جاهزة للتخرج من الجامعة.

لم يكن "فارس" أول فتيان فلسطين ولا آخرهم، لكنه سيظل جرحا مفتوحا في خاصرة الكرامة العربية، ووجعا يدمي قلوبنا، ودمعا ساخنا في عيوننا، وحشرجة تخنقنا كلما رددنا أنشودته المحببة، ونيشانا حقيقيا على صدر الجيوش التي أراد لها أصحابها أن تظل وهمية.

بعد رحيله بعام، كان الجيش يجتاح رام الله، ويفرض عليها حظرا للتجول، مرت "ميركافا" أخرى من أمام منـزلنا، كان هديرها يهز البناية، وقفت على الشباك أرقب المشهد، فرأيت طفلا يتربص بها، اتخذ من "الحاوية" كمينا لها، وقد أعد أمامه كومة حجارة، وبدأ يرشق الدبابة، فأطل الجندي من جوفها وأطلق عليه صلية رشاش، ولكنها لم تصبه، ثم أطل الفتى برأسه ورماها بحجر، فأطلق عليه الجنود صلية أخرى، لسبب ما لم يكونوا يريدون قتله، ولكنهم حتما توقعوا منه أن يخاف ويهرب، ولكنه ظل في مكمنه مصمما على إصابة الدبابة بحجر، استشاط الجنود غضبا، وصرخوا عليه بمكبر الصوت، لم يستمع لهم، واستمر في رشق الحجارة، أطلقوا قنبلة صوتية قلبت الحاوية من شدة صوتها، ولكنه لم يهرب، فما كان من الجنود إلا أن انسحبوا، والحيرة تعلو على وجوههم، لم أره بعدها ولم أعرف اسمه، ولكنه حتما واحد ممن أنبتهم الأرض التي ارتوت بدم فارس.

قال عنه شاعرنا الكبير سميح القاسم:
"تعطيك قنبلة الغار إيقاع رقصتك القادمة
إمض في اللحظة الحاسمة
أشد من الماء حزنا
وأقوى من الخاتمة ..."


سلامٌ عليك أيها الشهيد البطل ..
سلامٌ عليك وأنت تنتزع استقلال فلسطين بأظافرك الصغيرة ..
سلام عليك وأنت تنـزع الخوف من قلوب الكبار ..
وسلام عليك يوم ولدت.. ويوم استشهدت .. ويوم تبعث طفلا فلسطينيا


استشهد فارس عوده وهو يواجه بجسده الغض الدبابات الإسرائيلية في معبر المنطار شرقي غزة يوم 8 – 11 – 2000 م








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غموض يحيط بمصير هاشم صفي الدين بعد غارة بيروت.. ما هو السينا


.. مصادر طبية: 29 شهيدا في يوم واحد جراء القصف الإسرائيلي على ق




.. خليل العناني: المنطقة العربية في حالة اشتعال بسبب الإدارة ال


.. وزير لبناني يخشى -غزة ثانية- بعد القصف الإسرائيلي العنيف




.. بايدن يحضّ إسرائيل على عدم ضرب المنشآت النفطية الإيرانية