الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عزازيل - سيرة ذاتية 1

أحمد عفيفى

2011 / 11 / 2
الادب والفن


تُلامس قدمى اليمنى صورة القمر المكتمل، المستلقى على صفحة الماء، أتذكر سيدنا إبراهيم وهو يرضى بالقمر ربا ثم يصبأ، أتذكره أكثر وهو يجادل الله لكى يطمئن قلبه، خليل الله لا يطمئن قلبه؛ فأنى لى أنا الطفل الأخضر أن يطمئن قلبى. تتسع حلقات الماء من تلامس أصبع قدمى اليمنى الأكبر وصفحه الماء الهادئة، تتسع وتتسع؛ ليغرق القمر، وتبقى دائرتي الكبيرة السوداء، صامتة؛ ليخترقها زائرى العتيد، يرتفع ويرتفع، ويتلوى عنقه الطويل الضخم ليباعد بين جسده ورأسه، ويتخذ وضعا مناسبا للانقضاض، وينقض، وأمام وجهى تماما؛ يتجمد، بنفس التشفى فى عينيه، ونفس الابتسامة الساخرة المنحوتة على شفتيه والكلمة الوحيدة المعلقة دائما فى صمت: "لن يظهر". يحتضن حاجبىّ بعضهما غضباً، وألملم عناد مشتت في عينى، وأردّ في تحدّ دون أن أنطق أنا الآخر: "سوف يظهر"، يتشتت عنادي وغضبى ويحل في قلبى بردا وسلاما وصوت أمى يحتضن أذنى:
- "أنت هنا".
ألتفت إليها، تلك الجميلة، التي أحس دائما أنها تشبه السيدة العذراء بشعرها الأسود الناعم الطويل وبشرتها البيضاء المشربة بحمرة ملائكية، وبرائتها التي تجعلها أقرب للعذراوات من أُمّ، وكأن أبي لم يمسّها ، تبتسم؛ فتمتد ابتسامتها إلى آخر الكون، تجلس بجانبى وتحتضن رأسي في صدرها الطيب الدافىء، وتخبرنى من بين بسمتها وصوتها الشهى:
- لن يظهر الله لمجرد انتظارك له، هو سبحانه لا يتجلى للبشر.
- أنا أرغب برؤيته، هو يستطيع ذلك، هو الله.
ولماذا ترغب برؤية الله؟
لأطلب منه أن يأخذ الفقر والظلم و يخفف عن أبى عناء العمل واللهاث وراء أسباب الرزق، أن يجعل منزلنا يسعنا كلنا، أن يعفيك من ضرورة العمل بجانب والدى حتى تطعمونا، أن يأخذ من مال الأغنياء ويعطى الفقراء.
تبتسم وتخبرنى:
لا يجب أن تفكر هكذا ويجب أن تتأدب عندما تطلب شيئا من الله، فهو سبحانه أعطانا الحياة وأعطانى إياك وإخوتك وقبلكم أباك، ووهب لنا السمع والبصر والفؤاد.
أنظر إلى عينيها السوداوين اللامعتين وأتعجب من دفء الإيمان الحميم الصلب داخلها وأضع رأسي على قدمها اليسرى وتجفل عيناى؛ فتضع أصابعها الصغيرة البضة فى حلقات شعرى وتحررها برفق وتعبث برأسي كما أحبها أن تفعل وتربت بيدها الأخرى على كتفي؛ فيتسلل إيمانها الدافىء الحميم إلى قلبى ويختلط بالبرد والسلام اللذان أحلتهما ببدنى، وأحس أنها إلاهة وليست أم وأنها حواء أُمّ البشر وأن الأرض تجسدت بها وأننى آدم وأول من خلق.

تركل قدمى الصغيرة حجرا صغيرا مثلها، يئن من ركلتها ويعاقب حذاءها بالقطع، أبتسم ولا أبإلى؛ فأنا شرير أحب ركل الحصى والأحجار، وأنا استمتع بالمطر المتساقط على رأسى وكتفي، أرفع وجهى لسماء ترسل حبات كريستالية تسقط بلا انتظام على جبهتى وشفتي، أفتح فمى لأتذوق طعمها فلا أجد طعما. تسقط قطرة في عينى؛ أغضب، وأجفل، ثم أستعد للانقضاضة التالية وانتقامى القادم. أفتح جفنى وأثبت بؤبؤ عينى، وأستقبل القطرة المقبلة في ثبات وتحد كصائد غزلان، تقترب القطرة وتقترب، وأراها يزداد حجمها ويكبر مثل كوكب، وأرى فمها الفاغر عن صرخه محتضر؛ فأدرك أن عينى مقبرة وأن القطرة ضحية، وأخجل من تحفزي ورغبتى في الثأر وأرثى لحالها تلك المسكينة هي وأخواتها، وأغلق عينى، فعينى ليست مقبرة، تسقط أخرى في أذنى خلسة وتهمس: "لا تخجل، نحن لا نموت، أختى فقط تخاف وتخشي السقوط، لا أحد منا يموت، نحن فقط نتحول إلى ماء فى بحر أو نهر أو نسكن تربة أو نسقى زرعا، تلك هى سنة الحياة: التغير والتجدد، تلك هى حكمة الله". أفرح عندما أدرك حكمة الله، وتنفرج أساريرى وأفرد ذراعىّ عن أخرهما، أستقبل كل المطر المتساقط وأركض لأمرح مع باقى القطرات، أحاول أن أستقبلها كلها علَّها تحل بى، وتجددنى، علَّنى استقبل حكمة الله، فتأنس لى وتسكن بى.

تتجرد من ثيابها، قطعة قطعة، على الملأ، الشاخص ببصره، في بله أو شبق، تسير دون وعى؛ فتجحظ عيون الرجال المارة ويتوقفون، لا هم يبتعدون لحالهم، ولا هم يسترون لحمها العارى، تشخص أبصارهم بكل جاهلية الغباء الذكورى إلى العبيطة التي فقدت عقلها وتجردت من ثيابها، يجيلون البصر فى أعضائها وتتسمر عيونهم الجاحظة عند مناطق عفتها، بدلا من أن يستروها، أو يزيحوا أعينهم الغبية الشبقة عنها، وكأن الدين والأخلاق اختفوا أوانتفوا.

تشهق أمى الطيبة لمرآها، وترتطم يدها اليمنى بأعلى صدرها تعبيرا عن الهلع والصدمة كعادة النساء فى الأحياء البسيطة، وتنزع عنها جلبابا إضافيا، كعادة النساء أيضا فى الأحياء البسيطة بلبس جلبابين تحريا للحشمة ودرءا للنظرات ، لتدارى به سوءة الفتاة الفاقدة العقل "العبيطة"، كما يطلق عليها العامة والأطفال في الشارع الأقرب لحيوان وحيد الخلية. تستقبل الفتاة جلباب المرأة الطيبة دون مقاومة أو امتنان، تشخص ببصرها في وجه الأطفال الأشقياء ولا تفهم هتافهم: "العبيطة اهي .. العبيطة اهى".

"هدى العبيطة"، هكذا كانو يطلقون عليها، تلك السمراء الصغيرة التي لم تحظَ بعقل، أو التي ذهب عقلها مع حبيب ذهب لزيارة الموت ولم يعد، حسب إشاعات تتردد على ألسنة الدهماء. أقف كالأبله وسط العامة والغوغاء، تتحجر مقلتاى على مشهد الفتاة ولا أصدق ما يحدث، رغم أنه يحدث.

من رواية " ثالوث " للكاتب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب


.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في


.. حفيد طه حسين في حوار خاص يكشف أسرار جديدة في حياة عميد الأد




.. فنان إيطالي يقف دقيقة صمت خلال حفله دعما لفلسطين