الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكعكة - قصة قصيرة

جمال القواسمي

2011 / 11 / 3
الادب والفن


في هذا البيت الغائر في عمق الأرض، بلا منافذ او تهوية، بلا منظر اطلُّ عليه من الباب، بلا سطح أقف عليه ذات صباح لأرى فتيات خجلات ونساءً شهيَّات ينشرن الملابس المغسولة تحت سياط الشمس، وجدتُ إنني اسكن، اسكن، اسكن. لا اعرف لماذا آل سكني إلى ذلك القبو الحقير الذي يتكوَّن من غرفة واحدة! ربما الفقر؟ نعم، ربما الفقر جعلني أعيش وحدي، في الظلمة، في الرطوبة، في الهواء الفاسد الراكد.
ذات فجرٍ ما، أيقظتني من النوم خرفشة في غرفتي. أشعلت الضوء. لا احد. صمت. أطفأته. الخرفشة حتَّـت اعصابي وجعلت عظامي تسرك مرة أخرى، كأنني صخر جيري سهل التفتُّت. أشعلت الضوء. لا شيء. أطفأته ثم أشعلته بسرعة فـلمحتُ عندئذٍ صرصوراً بني اللون يزحف ثم حالاً توقف عند إحدى الزوايا كأنَّه يتظاهر بأنَّه ميت ليضلَّلني.
إذن، أنا أعيش مع الصراصير. نهضتُ من الفراش، وانتعلتُ حذائي العتيق المهترئ، وهرستُ الصرصور تحت قدمي. ثمة صرصور آخر مرق كالبرق الخاطف من جانب قدمي؛ حاولتُ أن الحق به، وفشلت. ولاحظتُ انَّ الصرصور الذي هرسته قد انتصب على اقدامه الشعيرية وخبَّ بعيداً عني، وسرعان ما تبعه صرصور آخر، فآخر. بل أن كلَّ صرصور كنت اهرسه تحت قدميَّ كان ينتصب واقفاً ويزحف في طريقه دون أن يعيرني ادني اهتمام.
كلُّ المبيدات الحشرية لم تنفع. لا بُدَّ أن الصراصير لديها مناعة من كل هذه المبيدات التي تُباع بثمن زهيد في الحارة التي أعيش فيها. ثم اهتديتُ الى إبقاء المصابيح مضاءَةً أربع وعشرين ساعة متواصلة، لكي اضلِّل الصراصير وأبقيها في جحورها.
بعد ثمانية أيام كانت عيناي قد تورَّمتا على نحو مخيف أشعرني وأنا انظر إلى وجهي في المرآة بأنني ميت. ثم عدتُ وأطفأت المصابيح الكهربائية طمعاً في النوم والراحة، وخوفاً من ارتفاع فاتورة الكهرباء. لاعترف بالحقيقة، حربي مع الصراصير لم تُجدِني شيئاً. حتى إنني صرتُ أعاني من أرق مزمن.
اللعنة، أريد أن أنام، أرجوكم، دعوني أنام، هكذا كنتُ اصرخ في الصراصير طوال الليل، وأنا، كالجثمان المتورِّم الذي لم يُدفن منذ عدة أيام، منهمد على سريري المتهدل، لا استطيع أن ارفع رأسي او يدي، ثم لم يعد بوسعي أن اصرخ، فصرتُ اهمس، بينما كانت الصراصير مشغولةً ببناء مدينة لها، وكلها تمرق او تمشي على مهل على أرضية الغرفة وجدرانها. بل وشنَّت الصراصير حرباً مضادة عليَّ. فقد لاحظتُ لاحقاً إنها بَـنَـتْ، من كثرة عددها وتقاطع اتجاهات سيرها، إشارات ضوئية في أرجاء بيتي. العمى، ما الذي يحدث؟ ثمة آلاف النوَّاسات الخضراء الصغيرة كانت منثورة في أرجاء البيت، كأنَّ البيت كله كان كعكة تعجُّ عليها شموع لا حصر لها بمناسبة عيد ميلاد شخص عمره ألف سنة.
أهو أنا؟ لكن البيت كان حقَّـاً كعكة طرية. وكان أمراً جميلاً أن أتخيل بأنَّ ثمة كائناً خرافياً كان يهدم بيتي بسكين خفي ويقسِّمه ويلتهمه قطعةً قطعة، حجارةً جيرية، وتراباً مخلوطاً بالقشِّ والرمل، ومواسير مياه صدئة، ومجرى قميئاً متآكلاً للحفرة الامتصاصية، وبلاطاً ملوناً مرقَّشاً بأشكال هندسية بهتت ألوانها وغاب رونقها، وأنا؟ اللعنة، ماذا أكون أنا في هذا البيت الكعكة؟! أتراني حبة كمثرى او كرز حلوة المذاق ذبلى تغطِّيها التجاعيد؟ هه هه هه.
كان كثيراً ما يحلو لي أن ارتمي على السرير وأفكر كثيراً جداً على نحو جاد، هكذا. وكم تمنيتُ أن أحادث الصراصير. اسألها ماذا تفعل في الليل في بيتي العتيق؟ وماذا تبني؟ ولماذا إشاراتها الضوئية (التي أصبحت بمثابة نوَّاسات بالنسبة لي) خضراء فقط؟ وهل أشادت إشاراتها الضوئية الخضراء لتمعن في إطالة أرقي وحرماني من النوم؟ لكنني لاحظتُ ذات ليلة ما أن الإشارات الضوئية المبثوثة هنا وهناك على أرضية بيتي وجدرانه كانت حمراء اللون، حمراء كأنَّها جروح صغيرة او بثور برصية دامية، وكانت الصراصير كلها بلا استثناء واقفةً بلا حِراك.
أنذاك لم يكن بوسعي أن أتحرك على سريري، كأنني كنتُ احلم. شعرتُ أن كل شيء كان حلماً واحداً طويلاً. فهل كان بيتي ذو الطراز الهندسي العتيق حلماً؟ هل كانت الصراصير حلماً؟ هل كانت إشاراتها الضوئية حلماً؟ وأنا أيضا، هل كنتُ حلماً؟
ورغم ذلك، كان بوسعي أن أرى الصراصير لا تزال واقفة؛ أتراها أعلنت الحداد دقيقة واحدة على شخص ميت. كانت تلك الدقيقة طويلة كالأبد. الصراصير تماثيل. إشارتها الضوئية، (نوَّاساتي الحمراء،) تتقد كالجمرات لتحرق من يجرؤ على الاقتراب. أهي تقف عن الحركة متظاهرةً بالموت لأنَّ ثمة كائناً اكبر مني يحاول أن يسحقها جميعاً ويسحقني معها تحت قدمه؟! أهو، إذن، ذلك الكائن الخرافي الذي يقطِّع بيتي-الكعكة بسكينه الخفي ويتلذَّذ بطعم الشيد المتساقط والتراب الجيري العطن والرطوبة المُشبعة برائحة العناكب؟
ها هي دقيقة الحداد تتمطى ألف عام. ها أنا مرتمٍ على سريري الصدئ انتظر نهضتي من غفوتي الطويلة وتعبي المزمن. ها هي ثمة ذراع فولاذية صفراء كالمغرفة تقتلع إحدى جدران قبوي. اللعنة، لماذا أصبحت الإشارات الضوئية التي بنتها الصراصير تبثُّ ضوءً اصفر؟ كلُّ شيء أصبح عصفريَّاً. وأين رفاقي الصراصير؟ أين قبوي؟ أينني عني؟ وأين اكون؟ وأين يكون قبري؟
إخوتي الصراصير، أهيلوا عليَّ التراب الممزوج بالرمل والقش. احملوني. تعالوا معي، لا تقفوا هكذا دون حراك، امشوا. هل احشد، في عضلات جسدي، حشرجات قوتي كي أقف على قدمي للمرة الأخيرة وأكون شرطي سير لأنظِّم حركتكم؟ أتراكم توفيتم؟ تعالوا معي؛ لا بُدَّ أن ثمة حديقة فيها متسع لي ولكم. أنا متعب. دعوني أنام بينكم. دعوني ارتاح قليلاً. اللعنة، متى سأفيق من نومي العميق وتعبي المزمن وأصبح كرزةً حمراء، حلوةَ المذاق، ذبلى، مكتملةَ التجاعيد، مغروزةً في كعكة "بايتة،" مهزومةً إلى درجة الإنعتاق؟
وداعاً، وداعاً يا إخوتي الصراصير. ها هو الفجر قد بزغ وأنا استيقظ مرة أخرى؛ ها هي الشموع الصفراء الباهتة ذابت وانطفأت نيرانها الكهرمانية، ها هي كعكة عيد ميلادي الألفي أُكِلت، ها أنا أبدأ وحدي نهاراً جديداً. سأترككم وحدكم، فاعتنوا ببيتي جيداً، واعتنوا بسريري المتهدل. وداعاً، وداعاً يا إخوتي الصراصير.
11-9-1997

جمال القواسمي قاص فلسطيني يعيش في القدس، من مواليد 1966، عمل سابقاً في الترجمة والتعليم؛ له ثلاث مجموعات قصصية: جاي معك 1990، شامة في السماء 1997، هزائم صغيرة، 1998.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثل الباكستاني إحسان خان يدعم فلسطين بفعالية للأزياء


.. كلمة أخيرة - سامي مغاوري يروي ذكرياته وبداياته الفنية | اللق




.. -مندوب الليل-..حياة الليل في الرياض كما لم تظهر من قبل على ش


.. -إيقاعات الحرية-.. احتفال عالمي بموسيقى الجاز




.. موسيقى الجاز.. جسر لنشر السلام وتقريب الثقافات بين الشعوب