الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لا شىء مراوغ ... أكثر من حقيقة واضحة

أحمد عفيفى

2011 / 11 / 3
الادب والفن


كنت صغيرا لحوحاً كثير التساؤلات، تلوح لى دائما فكرة أن أبي قد يكون هو الله، بلحيتة البيضاء المهيبة وبنيانه القوي المتين وورعه وطيبته، وحب الناس الشديد له وحفظه للقرآن وإمامته لهم في الصلاة. يضحك ضحكته الصافية ويخبرنى إنه ليس هو الله وليس لبشر أن يكون. ألتف حول ظهره المقابل للقبلة وهو مسبل جفنية فى خشوع يتمتم بآيات مأثورات يختم بها صلاته، أبحث عن الله في تلك الكوة المقعرة في جوف المسجد ، أنظر إليها فى انبهار كمن تكشف له سر الأسرار، وأتوقع أن يكون الله في تلك القبلة التي يتجمع حولها المصلون، سوف يظهر الآن، ويبتسم. يبتسم أبى ويحيطنى بيديه ويربت على رأسي ويقبلها ويهمس في أذنى: "هو موجود، لكن لن تراه، هو فقط يراك"، أتعجب من حقيقة الكشف وتستدير عيناىَ الواسعتان ليملئهما أبى، وتملؤنى رهبة ورغبة أن يكون أبى هو الله ولا يرغب أن يخبرنى، يقرأ ما في عقلي على مرآة براءتى وشفافية بصيرته؛ فيحملنى ويضعنى فوق قدميه ويقبلنى ثانية ويواصل تسبيحه. أستسلم للتسبيح والتحميد. ولا أرى سوى وجهه ولا أسمع سوى دقات قلبة المطمئنة، وهو يحملنى كريشه بجلبابى الأبيض وأنا أسقط فى النعاس كما تعود وكما أحب.

أنتفض لصلاة الفجر وأنتظر. يقولون إن الله يقترب من الأرض في الثلث الأخير من الليل، أصلي وأخشع وأدعو وأنظر إلى السماء الصافية وأنتظره، تلفح النسمات الباردة وجهي بريح طيبة أجهل مصدرها، يقترب أبى. أتشمم رائحة المسك في يديه، بعدما زالت الريح الطيبة عنى، يمد أبى لي يده المتماسكة القوية ويردف:
هيا يا شيخ!
أتعجب من اللقب وأتحسس ذقنى الصغير وأبحث عن لحيتى، فلابد للشيخ من لحية ولا أجد. أتتبع منابت الشعر في ذقنى وأتعجلها؛ ربما لو أصبحت شيخا أرى الله.

"الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض"، تنزل تمتمات أبى على قلبى بردا وسلاما، وآنس بحديث الله وصوته، وأكمل بصوتى الطفولى "يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم"، أنظر بين أيدينا أنا وأبي، وأنظر خلفنا وكأننا المعنيون بالأمر؛ فلا أجد شيئا، أنظر لوجه أبى الذى تخرج التمتمات من ثغره الباسم وتقترب خطواته حتى تلاحقها خطواتى الصغيرة المتسكعة في حضرته التي أحب التواجد دوما بها.

بعدما مات أبى، كنت أذهب إلى تلك الحفرة التي دفن بها، أتعجب، كيف لأبى أن يرقد فى حفرة مثل تلك، وماذا يحدث له الأن، وماذا سوف يحدث له بعد ذلك، وإلى متى سوف ينتظر فى ذلك المكان الكئيب البارد، ألِأجلٍ غير مسمى، أبى، أبى أنا، ذلك الرجل الطيب القوى المؤمن، الذي كنت أعتقد أنه الله، يموت هكذا ببساطة، ويرقد فى حفرة مقبضة مظلمة، ويغلق عليه باباً، ويصير وحيدا، بعد أن كان يملأ الدنيا علينا بحضوره ووجوده وحديثه واهتمامه. أبى يسكن تلك القبور المقفرة التي ترتع بها أشباح وتُقبض فيها أرواح.

كنت أحب الذهاب إلى قبره، أزوره وأستجدى أياما خلت كان موجودا بها، كنت أجالسه وأؤانِسُه فربما إحتاجنى أو أحتاج شيئا، وربما لم يمت واستيقظ ينادى عليّ كعادته؛ فأهرع إليه، أخرجه من تلك الحفرة البغيضة المقبضة مجهولة المصير، كنت لا أعبأ بالليل والخوف، أنا لم أكن أخاف، خاصة فى حضرته، هو كان قويا، لا يصدق ولا تقنعه أو ترهبه قصص الأشباح والأرواح، حتى لو تجلت له، كنت أجلس أمام باب قبره، أكلمه كما لو كان حيا، أخبره بكل شىء حدث، أكلمه عن حالنا وحياتنا، أستشيره وأستفتيه .. وأنتظر رده، كنت أطرق باب الحفرة الغبية التي تحتضن جسدة الطيب، علّه يعرف أننى بالخارج .. أنتظره؛ فيجيب. كنت لا أَملّ من زيارته والحديث معه، علَّه يشفق على ويصحو، كنت أتكلم وأضحك وأبكى وأحيانا أنام وكأننى أنام فى صدره، كنت مخلصا فى كل ما أفعل، موقنا أن إيمانى بأبى سوف يعيده إلى، راجيا أن تعيده إلى السماء ، فحاجتى إليه على الأرض، أكبر من حاجة السماء اليه، لن تنقص السماء بدونه، ولن يختل ناموس الكون بعودته، سوف ينتظم ناموسى أنا إذا عاد وعاش، لم يستجب القبر لندائى، ولم ترق السماء لدعائى، وكأنما كانت سماءً صماء لدعاء لا يستجاب. وصمتت السماء وعاد الدعاء ولم يعد أبى.

من رواية " ثالوث " للكاتب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الى الحائر ..احييى الضمائر ..وأنر البصائر
شاهر الشرقاوى ( 2011 / 11 / 4 - 13:57 )
اسلوبك القصصى رائع جدا ومؤثر

احييك عليه
لديك حس وجدانى رائع

اما بخصوص الفكر والفهم لمعانى الايمان ...فأسمح لى ان اخالفك .. 180 درجة
كنت مثلك ...وكان ابى مثل ابيك
وتوفى ودفن مثل والدك
واشتقت اليه كما اشتقت لابيك
ولمت الله والسماء
ليه يا رب؟
وبعد عدة سنوات ..من الضياع والاستهزاء بكل ما فى الكون ... تنبهت
تذكرت
فهمت ...فعدت للايمان ..وايقنت عرفت ماذا يريد الله منك يا انسان
لم يخلقنا الله ليكون عبدا عندنا يا اخى الفاضل
لم يخلقنا ليشتغل عندنا ويحقق رجاءنا ويلبى دعواتنا ...ونحن جالسين ..قاعدين ..كسالى ..لا هم لنا سوى انتظار ما يلقيه لنا القضاء والقدر .ورب القضاء والقدر

نظرت حولى ..فوجدت الطيور والحيوانات الغير عاقلة بل الحشرات ..تسعى لتنال رزقها ...بشتى الطرق والوسائل
سألت نفسى مستنكرا
كيف تكونا لحيوانات والحشرات والطيور اكثر حرية منى انا الانسان؟
انها لا تجلس فى اوكارها ولا جحورها ولا ثقوبها
بل تسعى
فكيف انا الانسان اريد ان اجلس ولا اعمل ..ولا اشعر بوجودى واحقق ذاتى وعندى ما ليس عندها
عندى عقل وصفات وحرية اختيارات
اذا المولى يريدك مثله
افضل خلقه
تستمتع بالخلق والايجاد
بتحقيق الذات


2 - السيد شاهر الشرقاوى
أحمد عفيفى ( 2011 / 11 / 4 - 15:16 )
ردك رائع ومؤثر
تحياتى لإيمانك
وشكرى لمرورك

اخر الافلام

.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-


.. فعاليات المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية في الجزاي?ر




.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب


.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في