الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضابط ابن ناس

إكرام يوسف

2011 / 11 / 6
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


جاءني صوته عبر الهاتف.. هادئا، مهذبا، توقعت أن يكون صديقا لأحد ولديَّ يبحث عنه وفشل في الاتصال به.. لكنه عرف نفسه بأنه الرائد محمد عبد الهادي، من العلاقات العامة والإعلام بوزارة الداخلية.. ولا أملك ـ بالطبع ـ التحقق من دقة المعلومة..فلم يكن أمامي إلا تقبل التعريف.. وإن لم أمنع نفسي من وضع احتمال أن يكون منتحلا للصفة؛ فأسلوبه الدمث في الحديث، وقدرته على الاستماع باحترام .. وبلا غطرسة أو حتى تأفف.. لم تعد من السمات المعتادة لضباط الشرطة في بلدنا منذ سنوات طويلة.
بدأ حديثه بداية تدفعك لاحترامه: "نحن نتقبل النقد ونستفيد منه" ثم استطرد مشيرا إلى مقالات كتبتها مؤخرًا، انتقدت فيها ممارسات ضباط الشرطة؛ موضحا أن الحالات التي تحدثت عنها في مقالي الأخير ـ عصام عطا قتيل سجن طرة، ومعتز سليمان قتيل الشيخ زايد، وإطلاق أمين الشرطة الرصاص على شخصين وإصابتهما في شارع القصر العيني ـ ليست سوى حالات فردية، من الخطأ تعميمها كممارسات لكامل الجهاز!
شجعني أسلوبه المهذب، على مواصلة الحديث معه على أساس هويته التي عرف نفسه بها.. فأقر بأن جهاز الشرطة يحوي فاسدين، مثلما هو الحال في جميع القطاعات، ولكن هناك آخرين محترمين، و شهداء من أبناء الشرطة سقطوا في مواجهات مع مجرمين. أكدت له اقتناعي بخطأ تعميم صفة ما على أي مجتمع.. لكن ممارسات الداخلية على مدى عشرات السنين، تركت أثرا أليما لدى المواطنين.. فمن يشاهد ضابطا ينهال على مواطن ـ اضعف منه ـ ضربا وركلا وهو يسبه بأقذع الشتائم بالأب والأم، ربما يخاف هذا الضابط لكنه لن يحترمه، كما سينسحب عدم الاحترام على البيئة التي تربى فيها الضابط.. فمن تربى على احترام أبيه وأمه لن يسب آباء وأمهات الآخرين بمجرد أن يمتلك سلطة قهرهم!.. لذلك، عندما تحين الفرصة لمواطن كي ينتقم من ضابط شرطة، لن تجد تعاطفا من المواطنين في أغلب الأحوال..وسألته في محاولة للتبسط "انت متجوز؟" فرد بالإيجاب. قلت له " نفدت! غالبية الأسر الآن لاتقبل تزويج بناتها من ضباط الشرطة". قال إن هذا الحال بعد الثورة.. فأكدت إن هذا الاتجاه سائد منذ سنوات.. وأنني كتبت قبل سنوات مقالاً بعنوان "الباشا عريس!".. حكيت فيه أن زميلا طلب تدخلي لدى زميلة شابة ،لأقنعها بمجرد قبول زيارة قريب له ضابط شرطة، طالبا يدها.. موضحًا لي أن الأسر بمجرد أن تعرف مهنته، ترفض حتى قبول الزيارة.. مؤكدًا إنهم لو سمحوا له ـ فقط ـ بالجلوس معهم في الصالون، سوف يكتشفون كم هو ابن ناس ومهذب!
وأوضحت لمحدثي الشاب أنني ـ شخصيا ـ لو كان لدي بنت، لن أقبل أن أزوجها ضابط شرطة: "إيه اللي يخليني أرمي بنتي لواحد، لو اختلف معاها ممكن يعذبها، ويعذب أهلها، ويعذب الجيران كمان!"..
قلت له أيضًا أن الوضع صار خطيرًا بالفعل.. وأن شرخا كبيرا حدث بين الشرطة والشعب.. وبالطبع لم يكن الشعب هو المتسبب فيه.. وأن "المسألة وصلت للدم"..وجرح المواطنين المكلومين بفقد أبنائهم مازال مفتوحًا..وهناك مماطلة في عقاب القتلة.. فقال إن الأدلة ربما لاتكون غير كافية، ولا تعاقب المحكمة المتهمين من الضباط، فهل يعقل أن نفصلهم؟ فأكدت إن هذا بالفعل هو التصرف المطلوب.. إظهار الاحترام لمشاعر هذا الشعب.. حتى لو لم تكن هناك أدلة كافية لإقناع المحكمة، على الداخلية أن تطهر صفوفها، لتبرد قلوب أهالي الشهداء، وتلقن بقية الضباط درسا في احترام كرامة أهلهم مواطني مصر..وليعلم كل ضابط أن كرامة المصري خط أحمر، تعمد بدم شهداء.. ولينته العصر الذي كان فيه الأشقاء في بلاد أخرى يعايروننا بما يتم مع المصريين في سجون وأقسام مصر.
قلت له إن أي محب لهذا الوطن لا يرضى بهذا الوضع.. وإننا كنا نتمنى أن يكون اخوتنا وأبناؤنا في الشرطة ظهرا وسندا لنا، يحمون أرواحنا وممتلكاتنا ويصونون كرامتنا.. لكن عقودا من ممارسات اقتصرت على حماية الفاسدين والتستر عليهم، مع ملاحقة الشرفاء والتنكيل بهم، تحتاج جهدًا كبيرًا للمعالجة.. واقترحت عليه أن تكون البداية بيانا رسميا صريحا من وزارة الداخلية.. يعترف صراحة بأن الجهاز تورطت في السنوات السابقة في أخطاء "جسيمة".. ويتعهد بعدم تكرارها، وأن يكون همه الأول هو الحفاظ على كرامة المصريين قبل أرواحهم وممتلكاتهم.. بيان يتبرأ من جرائم ضباط فاسدين كانوا "خدما" عند اللصوص وناهبي ثروات الشعب، بينما يعلنون أنفسهم "أسيادًا" على المواطنين!.. على ألا يكون في البيان أي محاولة تبرير..وإنما نقد ذاتي صريح.. فالأمر بالفعل يتجه نحو مسار لا نتمناه جميعا.. وصبر المصريين المعهود نفد بالفعل.. وما كانوا يتحملونه من قبل، لم يعد من الممكن احتماله بعدما سال دم! الوضع قبل سقوط شهداء في شوارع المدن وميادينها شيء، وبعد نزف الدم شيء آخر.. على العقلاء أن يتفهموا الوضع على حقيقته. وليتذكروا أن الشعب المصري أطيب شعوب الأرض وأكثرها صبرا.. لكن كرامته صارت خطا أحمر مصبوغا بدماء أبنائه الأطهار، وأي مساس بها بعد ذلك لن يمر بسهولة.. والاعتذار كما شهدنا في مناسابات سابقة لا يقلل من هيبة صاحبه، بل يرفع المعتذر في عيون الناس، ويخفف الاحتقان.. ولنتذكر استقبال المصريين لتحية أرواح الشهداء التي أداها اللواء الفنجري.. ولنقارنها برد فعلهم عندما لوح بإصبعه في وجوههم!.. ولنتذكر أيضا موقف المصريين من بيان اعتذار المجلس العسكري، وعبارة "رصيدنا لديكم يسمح".. ثم نقارن ماحدث بعد ذلك ورد فعل المصريين تجاهه.
على الداخلية التعهد بمعاقبة الجناة حتى لو كانت الأدلة الرسمية والمستندات غير كافية لإدانتهم قضائيا..فالمواطنون يعلمون قتلة أبنائهم.. ويعلمون أن قياداتهم وزملاءهم يعرفونهم.. ولا يصح استفزاز المكلومين بدعوى أنهم لم يستطيعوا إثبات الجرم على قتلة فلذات أكبادهم.. حتى لا يشعروا بالتقصير، فيحاولون القصاص بأيديهم..على الداخلية أن تتعهد في بيانها بالضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه مس كرامة مواطن مصري.. فلم يعد المصريون يقبلون أي تبرير.. أو تهوين من مثل هذه الجرائم، أو الزعم بأنها فردية.. الوضع صار خطيرا بالفعل. وصار الناس يتندرون على أن الشرطة "تتشطر" على النشطاء السياسيين، وتعجز أمام البلطجية!
ولو تحلى جميع ضباط الشرطة بدماثة أخلاق الرائد محمد عبد الهادي وتهذيبه في الحديث لتأكد المواطنون أن ضباط الشرطة اخوتهم وأبناؤهم بالفعل، فأسلوبه يؤكد أن بين أفراد الشرطة من هم "أبناء ناس" حقًا! وعلى هؤلاء أن يبادروا بإعادة هكيلة جهازهم، ليستعيدوا ثقة ومحبة المواطنين.. نتمنى أن يأتي اليوم الذي يبتسم فيه المواطن ـ بحب ـ عندما يشاهد ضابطا أمامه ويبادله التحية؛ لأنه يشعر بالاطمئنان في وجوده، لا أن يخشاه وهو يضمر له الكراهية وعدم الاحترام، ويتطلع إلى يوم يستطيع الانتقام منه.. على افراد الشرطة أن يثبتوا للشعب أنهم أبناؤه ليسوا "أسياده".. وهي مسئوليتهم الأولى، فإن من بدأ المأساة ينهيها..ومن أشعل النيران يطفيها، كما قال نزار قباني.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رجاءاً كنِ حِذرة
سامى غطاس ( 2011 / 11 / 6 - 20:27 )
السيدة الفاضلة إكرام
أنصحك بقرأة مقال للسيدة هويدا طه العاملة بقناة الجزيرة الفضائية وهو موجود على موقعها الفرعى هنا على الحوار المٌتمدن و تتحدث فيه عن ضٌباط مباحث أمن الدولة فى عهد المخلوع مبارك عندما كانت تحت إستجوابهم و كيف كانوا فى قمه الأدب و اللباقة فى التعامل معها أثناء التحقيق وهو ما أثار إندهاشها .
ولكن لم تظل كثيراً على حالة الإندهاش تلك لتكتشف إن هولأء مدربين على هذا الإسلوب ليس أدباَ و خلقاً مٌتأصل فهم بقدر ما هو عِلم النفس الذى يدرسونه و يطبقونه جيداً مع حالة كحالة الأستاذة إكرام يوسف

رجاءاً كنِ حِذرة

اخر الافلام

.. متداول.. أجزاء من الرصيف الأميركي العائم تصل شاطئا في تل أبي


.. قطاع الطاقة الأوكراني.. هدف بديل تسعى روسيا لتكثيف استهدافه




.. أجزاء من الرصيف الأمريكي الذي نُصب قبالة غزة تظهر على شاطئ ت


.. حاملة طائرات أمريكية تصل إلى كوريا الجنوبية للمشاركة في تدري




.. طلاب فرنسيون يحتجون من أجل غزة بمتحف اللوفر في فرنسا