الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوبرا الحياة والموت

رياض خليل

2011 / 11 / 7
القضية الفلسطينية




الأديب يوسف جاد الحق
أوبرا الحياة والموت
" السوبر" قصة ، والقصة /الفعل
المونتاج القصصي والتشكيل الإبداعي : " الأرض ترفض الجثث" و " قادم غدا" ... نموذجا
بقلم : رياض خليل

عندما يستوقفك العمل الأدبي ، ويشد انتباهك ، ويثير فيك التساؤلات ، فهذا يعني أنه عمل جيد .. ناجح .. وموفق في سياقه ونتائجه ، معطاء في جمالياته ، هذا ماتفعله بك المجموعة القصصية الرائعة للأديب الفلسطيني المعروف يوسف جاد الحق ، الكاتب والقاص المرموق ، وعضو اتحاد الكتاب العرب ، وعضو اتحاد الكتاب الفلسطيني .
بدءا من عنوانها التعبيري الأسطوري : " الأرض ترفض الجثث " تغريك المجموعة القصصية .. حتى أنك لاتملك إلا أن تندفع لاستطلاعها ، والتماس عوالمها ، وماإن تخطو خطوتك الأولى .. حتى تعجز عن التوقف ، وكأنك تفقد خط الرجعة ، حيث الطريق دائما في الاتجاه الذي اتخذته بداية . وماإن تفرغ من قراءة القصص ، حتى تجد نفسك أمام عالم مفتوح ، عالم يمكن معايشته ، والاستمتاع به ، ولكنك لاتستطيع القبض عليه .
جاد الحق هنا .. يختلف عنه فيما قدمه سابقا ، يتضح هذا عندما نقارن بين قصص إحدى مجموعاته القديمة : ( قا دم غدا ) وبين مجموعته الجديدة ( الأرض ترفض الجثث ) . وفي هذه الأخيرة يتخلص جاد الحق من أصفاد المألوف الفني ، ليطلع علينا بإنجازات إبداعية راقية .. خصبة .. وقوية . إنه يتحول من عنصر في " الأوركسترا " إلى " مايسترو" : قائد بارع لعناصرها كافة . ومع ذلك لاتمحي السمة الرئيسية لنتاجه .. ألا وهي الالتزام بلا حدود بالقضية الفلسطينية ، ويبدو وكأنه لايرى وجودا خارج وجودها يستحق أن يكون مادة للقص . لقد توحدت " أناه " بالذات الفلسطينية العامة .. حيث ذابت وانصهرت فيها ، فصار همه من همومها ، وهمومها همه .. وهاجسه الوحيد ، الذي يؤسس منه وعليه عوالمه القصصية ، لتتحول إلى مايشبه الملحمة المتواصلة المعبرة عن الواقع الفلسطيني ، وسياق حركته التاريخية ، خلال مايزيد عن ثلاثة عقود من الزمن .
حقا إن قصص جاد الحق ماهي إلا شاهد من " بانوراما " الملحمة الفلسطينية المتنامية ، التي تعج بمتناقضات المأساة ، ومفارقاتها المؤلمة ، وترسم إحداثيات السبيل إلى النصر والمستقبل والصباحات القادمة .
لابد إذن من المقارنة لتلمس الجديد في " الأرض ترفض الجثث" . من أجل هذا اخترت مجموعته :" قادم غدا " للمقارنة ، ففي هذه الأخيرة ثمة إرهاصات إبداعية متناثرة بدرجات متفاوتة بين قصة وأخرى ، والطابع الغالب عليها هو فيزيائية التعبير الأدبي ، فيستمد الأديب في مجموعته ( قادم غدا ) مادته من وقائع حياتية فعلية : ( الانفجار ، الجثث والكلاب ، قادم غدا ، اللعبة ، عائد آخر ، التيه ... وغيرها من قصص المجموعة ) ثم يقوم الكاتب بعملية مونتاج أدبي ، وصولا إلى إخراجها في زي قصصي متميز .
أما في مجموعته الجديدة ، فقد تفوق جاد الحق على نفسه ، وقدم لنا نموذجا للابتكار والتجدد والتجديد في قصص المجموعة كافة ، ولاسيما منها : ( السماء تمطر دما ) ، ( عودة الروح إلى الجسد ) ، و( أم ياسر تنتظر ) .
باستثناء بعض القصص في ( قادم غدا ) تقدم لنا قصص المجموعة حركية دلالية خلفية ، كما في قصص ( الانفجار) ، ( الغد) ـ و( عائد آخر) على سبيل المثال . فالحدث يحتمل التأويل ، ويحتوي على شحنة إيمائية ، يتخطى حجمها الحجم المعطى للقصة . أما بقية قصص ( قادم غدا) التي تحفل بإمكانات تعبيرية ، فقد عابها إلى حد ما استخدام الرمز الواضح بعض الشيء ، بيد أن أسلوب الكاتب وخصوصيته وأصالة موهبته .. مكنته من إضفاء نوع من التوهج على الرموز إياها ، فالكاتب يلجأ مثلا إلى استخدام رموز الطبيعة :" وتبقى الشجرة خضراء " الشجرة الرمز هنا تعني الحياة في علاقتها الوثيقة بالأرض / الموطن . وهي حياة فلسطين دونما ريب ، والتي ستجد دوما من يرويها ، ويعتني بها ، فلو مضى وقضى " أبو معروف " فهناك من سيحمل عنه سقايتها . هنالك مالا يحصى من أمثال أبي معروف ، ليس في جيل حاضر أو سالف وحسب ، بل وفي كل جيل يأتي . أبو معروف : عاشق هذه الشجرة ، الذي يستخف بأية مخاطر في سبيلها ، هو كل فلسطيني يهب حياته قضيته ، ولئن غاب أبو معروف .. فإن الفعل المنبثق عنه يستمر . هنا يرتقي الكاتب إبداعيا ، حين لايرى حاجة لتحديد الفاعل الذي يواصل فعل أبي معروف : هيامه بالشجرة ، وتوحده بها ، وهكذا يتحول غيابه الفردي إلى حضور جماهيري عام ودائم .
القصة الرائعة هي التي تستوقفنا بخصبها وجمالياتها ، فتقيم معنا ضربا من العلاقة الحميمة . إنها تسكننا ، وتستولي على مكان ما في ذاكرتنا ونفوسنا . ولكل كاتب وقاص خط بياني أدبي معين . يهبط تارة ، ويعلو أخرى ، ومن المفترض أن تكون المحصلة خطا مستقيما صاعدا ، هو بمثابة مؤشر التطور الفني الإبداعي .
جاد الحق نجح في رسم معدل إبداعي صاعد ، يدل على موهبة وخبرة وأصالة أدبية .
أما في مجموعته : " الأرض ترفض الجثث " عموما ، فقد ارتفعت خطه البياني إلى مستوى لافت للنظر ، يفوق في مقاييسه كل ماسبقه .
وفي بعض قصص المجموعة .. يتجاوز الكاتب كل المقاييس الإبداعية لقصصه الأخرى ، ويفجر بؤرة فنية إبداعية ، لانملك حيالها إلا التصفيق الطويل .
يحدث الانعطاف هذا على وجه الخصوص في قصتيه : ( السماء تمطر دما ) و ( عودة الروح إلى الجسد ) ، حيث يرتقي القاص إلى درجة الريادة حقا .
وبينما كان القاص يتخذ مكانه وراء الحدث فيما مضى .. يقفز الآن ليتخذ مكانه أمام الحدث والواقع . بمعنى آخر يتحول الكاتب من حوذي تقوده العربة ، إلى قائد يرسم لها اتجاهها .. وخط سيرها . كما ينطبق هذا التقييم على عدد من قصص المجموعة ، بل وإلى حد كبير عليها كلها ، ويطبعها بطابعه . وتشذ قصة :" أم ياسر تنتظر" وتتمرد على أية تقنية سوى تلك التي تلبستها واتخذتها ، لأن قوة الحدث وتأثيره تفوق أية إمكانية إبداعية وتشكيلية فنية . الحدث هنا يملك القاص والمتلقي معا . ويستعصي على أي ترويض فني أدبي . إنك لاتستطيع أن تملك أعصابك وأنت تتابع تلك القصة التراجيدية ، ولسوف ترغم عينيك على أن تذرفا الدموع ، وفمك أن يصرخ محتجا رافضا .
ياسر ..الطفل الفلسطيني البريء ذو العشر سنوات يتعرض للضرب والتعذيب . ثم الشنق بدم بارد .. وقلوب قاسية .. على جذع شجرة زيتون , على أيدي عصابة من السفاحين الصهاينة . فلا يرجع الغلام من مدرسته في ذلك اليوم تاركا أمه تنتظر .... وتنتظر .. إلى مالانهاية .
وفي قصته :" المنزل القديم " يتابع الكاتب ماحدث للطفل الذي هدم الإسرائيليون منزل ذويه قبل عشرين سنة . وهو ماورد في قصته :" اللعبة " من مجموعة " قادم غدا" . هذا الطفل يغدو رجلا .. يحمل ميراثا . يكتشف مخرجا وآفاقا للنضال : فمنزله المهدم يتحول إلى قاعدة أو محطة للعمل الفدائي . والعمل الفدائي يفضي إلى تعمير البيت ، ليتحول إلى بناء شامخ في المستقبل المرتقب . والمنزل الشخصي للطفل يتخذ هنا معنى مختلفا : إنه المنزل الوطن ، منزل الفلسطيني الرافض الثائر المقاوم ، وفعل المقاومة هو فعل البناء ، وإعمار البيت/الوطن .
قصته:" شروق .. ووكالات الأنباء " .. لايمكن تصنيفها إلا في السياق القصصي السابق ، إنها وحيدة المعنى ، أحادية الدلالة ، لذا فهي تعتبر استثناء للقاعدة التي اتخذها الكاتب في قصص المجموعة " الأرض ترفض الجثث" . وهي بذلك تشترك مع قصة " أم ياسر تنتظر " فيما آل إليه مصير الطفلة (شروق) التي يصرعها رصاص العدو وهي عائدة إلى دارها .
" ليل المخيم " و" الصبح موعدنا " .. قصتان واضحتان من حيث الدلالات والترميز ، إنهما صورتان من صور المعاناة ا لمأساة الفلسطينية المألوفة .
من القصص التي تسجل أرقاما قياسية إبداعية في المجموعة الجديدة .. ثلاث قصص هي : ( الأرض ترفض الجثث ) وقد جعل القاص من عنوانها هذا عنوانا للمجموعة . والقصتان ( السماء تمطر دما ) و ( عودة الروح إلى الجسد ) . في هذه القصص الثلاث يبلغ التوليد الفني ذروته ، حيث تختفي العناصر الأولية التي يصوغ منها الكاتب عمارته القصصية ، وتبرز معالم البناء الجديد بروعته وجمالياته الأخاذة ، التي لاتدع لنا مجالا للتفكير في الأصول والمصادر ، بل في المنجز منها وبها . ونحن لم نعد أمام الحدث الجواب .. بل أمام الحدث السؤال ، الذي يغري المتلقي ، ويحرض فضوله ورغبته في خوض المغامرة الاستكشافية ، ومحاولة اختراق النص المزدحم بالأسرار والإثارة وغرائبية التشكيل : وتلك هي ال" سوبر قصة " والقصة ا لفعل !
في قصته :" عودة الروح إلى الجسد" .. يمتطي الكاتب حصان ال" ميتافيزيق" سعيا لتأمل واستكشاف الواقع ال" فيزيقي" ، والإيحاء بمداراته الحقيقية غير المرئية . يجري هذا في سياق فراق مؤقت بين كل من الروح والجسد ، إثر تعرض بطل القصة لرصاص الإسرائيليين . وفي المشفى تجري عملية إنقاذه ، ومحاولة بعث الحياة التي خبت في جسده . خلال هذه الفترة : مابين الحياة والموت .. تهيم الروح في فضاءات العالم الآخر . وتلتقي بملاك ، تحاوره ويحاورها .. حول مايجري على الأرض من صراعات بين البشر ، بين الخير والشر ، وحول مفاهيم الحياة الدنيا ، التي لامكان لها في العالم الآخر . في هذه القصة محاولة فلسفية لتعليل المسارات الراهنة ، وما يقبع خلفها من احتمالات وإمكانات .. وصولا إلى تأكيد حقيقة التغيير المحتوم : سنة التطور والكون التي لامرد لها . الملاك يطلب إليه أن يعود ثانية إلى الحياة .. لإكمال مهمته في قتال الأعداء ( الصهاينة ) ، وتعود إليه الحياة من جديد . الكاتب هنا يراهن على المستقبل من خلال الحاضر والماضي معا ، ومن خلال إيمان راسخ بالناموس الكوني ، أي قدر الفلسطينيين وانتصارهم في النهاية ، نعم النصر هو قدر الثورة الفلسطينية مهما طال الزمن ، ولن يموت الحق الفلسطيني مادام الشعب الفلسطيني حيا .
وفي قصة " الأرض ترفض الجثث " .. رؤيا غرائبية أسطورية لشهيد يلتحق بقافلة الشهداء ، ويرى بعد موته مالم يستطع فهمه ورؤيته خلال حياته الدنيا . من ذلك رؤيته لأرض فلسطين وهي تلفظ من جوفها جثث الغرباء من الصهاينة .. ترمي بهم غربا و" الأحياء من الخواجات والجنود يفرون .. يتسابقون باتجاه الغرب ، ويختلط الحابل بالنابل في اللحظة التي يلمح فيها الشهيد وجه جده ( المتوفى قديما ) في الأفق .. وهو يبتسم ويقول له :" أرأيت ؟ هذا ماسيحدث ذات يوم " . في هذه القصة يلجأ الكاتب وللمرة الثانية إلى الميتافيزيق ، لينطلق منه إلى بناء مقولاته وبنيانه القصصي ، وصولا إلى عقل ووجدان الآخر .. الآخر الذي يعني الكثير للقاص كما هو واضح في سائر قصصه .
بقي علينا أن نتوقف عند قصته :" السماء تمطر دما " ، وإنها لوقفة مهما طالت تظل قصيرة وقاصرة عن امتلاك ناصية آفاقها الإبداعية . تلك القصة الجموح التي تستعصي على الترويض النقدي ، لكنها تملك قانونها الخاص والاستثنائي والمتمرد . فيها يتفوق القاص على نفسه أيضا ، ويخترق المألوف الفني عبر عاصفة إبداعية تهز أعماقنا ، وتستنفر حواسنا . فالمطر .. ذلك الرمز الذي طالما استخدمه الشعراء والأدباء .. يتخذ أبعادا جديدة ، ويرتدي وجوها مختلفة ، إنه ، أي المطر ، يحيي ويميت ، يتزيّا بلون الدم ، يهطل وابلا .. عنيفا ليغير عناصر اللوحة ، وتناسباتها الطارئة .. المطر ينهمر .. يلقح الأرض .. يوقظ الموتى ، فتدب الحياة في ألسنتهم دهشة واضطرابا وخوفا وسعيا وراء دور ، وراء مساحة ما داخل الملحمة الأسطورية المتصاعدة .. ملحمة الانتفاضة الفلسطينية ، فيما القذائف والرصاص يواجهها سدى .. عاجزا عن صد المطر الدامي .. واغتياله .. عاجز عن وقف انهماره العنيف . المطر غاضب ، ثائر ومصمم على الاستمرار حتى يغرق الغزاة والعملاء .. ويجرف قبور الموتى من الأحياء ، يحول التراب إلى وحول حمراء ، يغوص فيها المحتلون حتى أنوفهم ، بينما تندلع السنابل من الأرض .. حاملة أسماء الشهداء ، وتنبلج الورود والأزهار حاملة على أوراقها أسماء عربية نسائية .. إنها لحظة القيامة ، تتعانق فيها السماء والأرض ، ويهدر عرس الدم صاخبا معلنا إفلاس الجحيم ، وهزيمة الأسلحة . إنها النبوءة بحجم ا لحقيقة ، وإنها الحقيقة بحجم القدر .. القدر الذي لا يملك العالم الوقوف أمام زحفه .
" السماء تمطر دما " إنها " أوبرا " الموت والحياة ، يتقمصها الكاتب ، ويجسدها مشهدا دراميا " بانوراميا " مكثفا وفريدا .. يتسع لحياة وتاريخ الأنتفاضة الفلسطينية الباسلة . ويكفي جاد الحق فخرا أنه كتب لنا مثل هذه القصة ، وتكفي هذه القصة لتكريس اسمه قاصا مبدعا متميزا وأصيلا .. إنها القصة / الرؤيا كما سبق وقلت ، أو " السوبر " قصة بكليتها وتفاصيلها ومكوناتها .
بقي لنا أن نقول : إن يوسف جاد الحق قاص قدير ومتمرس ومتمكن من فنه عموما ، لكنه وعبر مجموعته هذه ، وخصوصا " السماء تمطر دما " يقدم لنا آية إبداعية .. هي بمثابة الطفرة التي قلما تتكرر لدى كاتب آخر .












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قتيل وجرحى في انهيار مبنى بمدينة إسطنبول التركية


.. مبادرة شابة فلسطينية لتعليم أطفال غزة في مدرسة متنقلة




.. ماذا بعد وصول مسيرات حزب الله إلى نهاريا في إسرائيل؟


.. بمشاركة نائب فرنسي.. مظاهرة حاشدة في مرسيليا الفرنسية نصرة ل




.. الدكتور خليل العناني: بايدن يعاني وما يحركه هي الحسابات الان