الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من الأمة إلى الدولة الافتراضية، تفكيكات على وتر الهوية...

إسماعيل مهنانة

2011 / 11 / 7
مواضيع وابحاث سياسية



من الأمة إلى الدولة الافتراضية
تفكيكات على وتر الهوية...


تقوم الدولة الوطنية الحديثة على عامل "الأرض" والشعب المتحد في هوية لغوية أو عرقية، وتهدف إلى التوسع في القوة والهيمنة بمختلف أنواعها، ولهذا كانت الإمبراطورية كفضاء جغرافي/ديمغرافي هي الشكل المتطرف لهذا التوسع في الأرض والشعب للدولة، وكما يعبّر مفهوم "المجال الحيوي"(النازي) عن إفلاس الجغرافيا الامبريالية، تعبر تجارة الرق عن إفلاس الديموغرافيا، وإذا كانت الدول الحديثة تستمد عظمتها، من اتساع رقعتها وكثرة شعوبها، فإن عصرنا يشهد أفول هذه المقاييس، وظهور أشكال جديدة للقوة السياسية والتأثير الدولي تتجاوز المقومات التقليدية للعظمة السياسية.
ففي عالم معولم، لم يعد الفاعلون في السياسة بحاجة إلى الجغرافيا الشاسعة، أو الأكثرية الشعبية لتأسيس دولة مؤثرة وقوية تلعب الدور الأساسي في إقليمها، بل كل ما يحتاج السياسي ما بعد-الحداثي هو الأموال وإعلام قوي، وآلة تكنوقراطية ضخمة، فالأموال تشترى كل شيء في اقتصاد السوق، من أسهم الشركات المتعددة الجنسيات، إلى ذمم نجوم الرياضة والفن، وحتى الشخصيات السياسية والاقتصادية الفاعلة نفسها، وبالإعلام تستطيع الترويج لأي كيان سياسي-اقتصادي مهما كان مغمورا جغرافيا وديموغرافيا، لكن الأموال الضخمة والإعلام القوي تحتاج إلى آلة إدارية تسييرية جد دقيقة وفعّالة، إلى آلة تكنوقراطية، أصبح سوق الهجرات والدياسبورا يوفّرها في زمننا أكثر من أي زمن مضى.
وإذا كانت معظم الدول الوطنية الحديثة قامت بالتفاف الشعوب حول زعماء أقوياء لا يزال التاريخ يحتفظ بأسمائهم (بسمارك، غاريبالدي، نابليون، عبد الناصر، بورقيبة، بومدين)، فإن الدول ما بعد الحداثة لا تحتاج إلى زعماء بقدر ما تحتاج إلى تقنيين سياسيين، وهي لا تقوم على سياسيين بقدر ما تعتمد على علماء سياسة(des politologues) ، علماء محاطين بهيئة خبراء متخصصين، لا تخضع صناعة القرار عندهم لأي انفعال أو ارتجال، بل يصدر كل قرار بشكل شبه آلي، كما أن الاقتصاد ما بعد الحداثي لم يعد بيد الاقتصاديين بل يحكمه الصيارفة ومضاربي البورصات،
لا يمكن فصل الدولة ما بعد الحداثية عن "الظاهرة الأمريكية" أو الأمركة، إن انتقال مراكز القوة السياسية والاقتصادية من الغرب الأوروبي إلى شرق آسيا وبعض دول الخليج العربي، ناتج عن السياسة الأمريكية إبان الحرب الباردة، وهي المراحل الأولى من أمركة العالم التي كانت تتطلب جهدا جبارا من الولايات المتحدة نفسها، أما الأمركة حاليا فقد انفصلت تدريجيا عن الإرادة السياسية الأمركية، خاصة في دول مؤمركة بالكامل مثل اليابان، كوريا الجنوبية، سنغافورة وبعض دول الخليج العربي، في حين أضحت الأرادة السياسية لأمريكا تتجلّى أكثر على سطح الدول التي فشلت في السباق العالمي نحو النموذج الأمريكي، وهي الدول تقهقرت حتى عن مكاسب وتحديات الدولة التقليدية أي السيطرة على الإقليم والديموغرافيا، ويمكن مشاهدة النتيجة الحتمية لهذا التجلي في خضوع هذه الدول إلى مشاريع التقسيم/الانقسام، الدول التي تقع على خط "مدار البرزخ": العراق اليمن، الصومال، السودان، ليبيا وربما مالي، النيجر وموريتانيا، والكثير من الدول الإفريقية التي فشلت في بناء الدولة والسيطرة على الأرض والسكان، ستتبلقن معظم هذه الدول إلى دويلات أحادية الإثنية أو الديانة أو اللغة والإقليم، ونماذج هذه الدولة موجودة واكتملت حاليا: أرمينيا، صربيا، كوسوفو، الجبل الأسود، وهي دويلات تجد نفسها بحكم حجمها مرغمة على التبعية السياسية والعسكرية للدول الكبرى، وفاقدة للاستقلال والسيادة بالمفهوم التقليدي للكلمتين، إنها دول ما قبل الأمة وما تحت الوعي القومي Sub consciousness nation.
إن فشل الدول مابعد الكولنيالية، والتي كانت في معظمها استنساخا مشوّها عن الدولة القومية الأوروبية الحديثة، قد أدى بالوصاية الغربية عن العولمة؛ إلى مراجعة تلك الحدود المستقيمة التي خطّتها في "ساكس بيكو" وغيرها من إتفاقيات ميلاد الدول المستقلة بعد الحرب الكونية الثاني، وإذ كانت تلك الحدود قد تم رسمها على أساس الجغرافيا، وفي محيط متسرّع جدا بسبب الحرب الباردة، فإن الحدود الجديدة ستبنى على تخوم الديمغرافيا والهويات الإثنية واللغوية الصغيرة: "ذلك أن العجز عن إنهاء حرب الهويات الخارجية، كدروع ثقافوية لماهيات ميتافيزيقية، قد يعكس اتجاه الصراع نحو الداخل؛ يفرقع ذات الهوي عينه، إلى أضعف أو أضيق متحداته العنصرية أو المتعنصرة" .
في مقابل ذلك تسوق الأمركة نماذج ناجحة من الدولة الافتراضية، في أمثلة قطر، إسرائيل وسنغافورة، مثلما تفتح عوالم الاتصال الجديدة، هويات معولمة بديلة، لمن ضاقت به دساتير الدول القومية، خاصة أفراد الاقليات التي تعيش عزلة رمزية، داخل أوطان تتحول تدريجيا إلى منفى، الأقليات هي حصان طروادة التي تبسط من خلالها الأمركة فضاءها الإمبراطوري الجديد، وتؤسس لـ"حساسية هووية" جديدة، تخلق أنطولوجيا الـ"من" الإمبراطورية الجديدة، لقد وصفها المفكّر فتحي المسكيني في قوله: "إن "من" الجديدة هي "من" الإنسان الأخير، ذلك الفرد الامبراطوري الذي فارق نطاق الدولة/الأمة لكنه لم ينجح في اكتشاف "العالم"، إن مواطنته لنفسه لم تصبح بعد مواطنة عالمية إلا كمثال أعلى صار ينوء بكلكله أكثر من أي وقت" ، إن الكينونة السياسية الجديدة، هي كينونة اللامنتمي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الهوية والمنعرج الإيتيقي لمابعد الدولة -الأمة
الناصر عبداللاوي ( 2011 / 11 / 7 - 20:35 )
إن الهوية لم تعد تنطوي على مقولات منطقية جاهزة كما رسم ملامحها الإرث الميتافيزيقي الذي اختزلها في البعد الهووي –التأملي ، وهذا ما يفسر حضورها في العالم المعاصر . وهو ما يبرر لنا منزلة الهوية قد تتأكد من خلال الإعتراف بالآخر ككيان موجود بالفعل تخضع لبنية حوارية ، إذ أن الالتزام بمبدأ الحوار يؤدي إلى الالتزام بشروط التعايش الديمقراطي الذي تكون فيه نظرية المناقشة كفعل حواري يهدف إلى نحت -هوية جماعية ذات بعد كوني تتجسد من خلال جماعة سياسية تظل مفتوحة لاندماج كل المواطنين بمختلف أصولها - فهي تتخذ صيغة الإنفتاح خيارا فلسفيا يؤمّن لها التواصل داخل صيرورة وحركة جدلية ،الاختلاف والتنوع هما سمتين لتأصيل الهوية ضمن وحدة إنسانية يقول ريكور في هذا المستوى-احترام الآخر ليس من طبيعة مختلفة عن الاحترام الذي أبديه نحو الآخر لأن الإنسانية هي ما أحترمها في الآخر وفي ذاتي -
إذ تسمح الهوية في طابعها الكوني بإعادة النظر إليها كإشكال راهن لدى هابرماس من منطلق رؤيته النقدية التي اقترنت أساسا بالحداثة وفلسفة الأنوار .ولذلك قد ربط هابرماس مسالة الهوية بالخطاب الألسني المعاصر الذي يدور رحاه حول فلسفة اللغة

اخر الافلام

.. أزمات إنسانية متفاقمة وسط منع وصول المساعدات في السودان


.. جدل في وسائل الإعلام الإسرائيلية بشأن الخلافات العلنية داخل




.. أهالي جنود إسرائيليين: الحكومة تعيد أبناءنا إلى نفس الأحياء


.. الصين وروسيا تتفقان على تعميق الشراكة الاستراتيجية




.. حصيلة يوم دام في كاليدونيا الجديدة مع تواصل العنف بين الكانا