الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حين يكونُ الفنُّ محرِّضاً فاعلاً

خالد جمعة
شاعر ـ كاتب للأطفال

(Khaled Juma)

2011 / 11 / 11
الادب والفن


دائماً أدهشني أولئك الذين ينكرونَ على الفنِّ دورَهُ في مسيرة الحضارات، وغالباً ما يكونُ هؤلاء مغلقي العقول والأرواح، يرون العالم بلون واحد، وبالتالي يعيشون عزلة داخل أيديولوجيا تفسر لهم العالم كما يراه صاحبها، وهم بهذا مجرد مرايا نسيَتْ ذاكرتها.

فيما أنا أشاهد الفصل الأخير من مسرحية سكة السلامة التي قدمها محمد صبحي في بداية الألفية الجديدة، وهي إعادة لمسرحية بنفس العنوان قدمها المسرح القومي في الستينات في مصر، تنتهي المسرحية بمشهد لمحمد صبحي وهو يخرج من الحفرة التي صنعها لكي يدفن رجلا مات في الصحراء حيث تاهت العربة التي يستقلها مجموعة من الركاب في طريقهم إلى شرم الشيخ، ويكتشف محمد صبحي أن الحفرة مليئة بالهياكل العظمية، التي كانت مقيدة الأيدي بالسلاسل خلف الظهر، وهذه الحادثة حقيقية تماما، حيث قامت إسرائيل بقتل 250 جنديا من الأسرى المصريين عام 1967، بعد اعتقالهم وتقييدهم، وهذه الحادثة ما زالت جرحاً مفتوحاً في الذاكرة الجمعية المصرية، تزداد نزفا يوما بعد يوم، حيث شكلت سببا من الأسباب الرئيسة مع مذبحة أطفال مدرسة بحر البقر التي ارتكبتها الطائرات الحربية الإسرائيلية في عدم تمكن الشعب المصري من "بلع" العلاقة مع إسرائيل إلى اليوم، وربما إلى الأبد.

هنا يكمن الفن في "الذُّرَةْ"، يضحكنا نعم، يبكينا نعم، يسلينا نعم، يثقفنا نعم، لكنه في النهاية، يعبؤنا، يجعلنا نرى الأشياء من منظار مختلف، يثبت ذكرياتنا الجميلة، ويجعلنا ثائرين على تلك التي سببت لنا الأزمة هنا أو هناك.

حين يتحول الفن إلى محرض فاعل، وأشد فاعلية مما يبدو عليه للوهلة الأولى، فليس بالضرورة أن يكون فناً من النوع الخطابي الذي يطرح القضايا بشكلها البشع الذي ينفر الناس من القضية وطريقة تقديمها، بل ويجبر المتلقي "حتى لو كان مثلي لا يحب محمد صبحي كثيرا" على احترام هذه الواقعية العالية التي تقدم الرسالة دون كثير ضجيج، تقدمها عبر موقف يقول للعالم إننا ما زلنا أحياء، وليس ذلك فقط، بل ما زلنا نذكر شهداءنا المغدورين، ونذكر أرضنا التي احتلت، ونساءنا وأطفالنا في السجون، ونذكر كل التفاصيل التي جاد بها الفن علينا دون أن ندري، من ظريف الطول ودلعونة إلى كتابات محمود درويش وغسان كنفاني وأمثالهم كثيرون، إلى أغنيات فرقة العاشقين وفرقة صابرين وفرقة الفنون الشعبية في رام الله، حين ربانا الفن دون أن ندري أنه يقدم لنا دروساً في التربية، وربما دون أن يعي هو نفسه ما يفعله بنا، إنه ببساطة يحوِّلُنا.

هذا هو الفن، بغض النظر عن الاعتراضات هنا وهناك، ولكني أذكر جملة شهيرة كان يقولها الزعيم عبد الناصر لعبد الحليم حافظ: أنت تقول في ثلاث دقائق ما أقوله في ثلاث ساعات في خطابي، مع فرق أن الناس يحفظون ما تقول ولا يحفظون خطاباتي.

هذا هو الفن، حين يقوم من نوم المتعة المصطنعة، وحين يوقف الروح على أقدامها، وحين يتوِّجُ الحدث ويحترمُه ويدخِلُهُ في سياقه الصحيح ضمن الوعي اللامتناهي للبشرية، ويدخُلُهُ كفاتحٍ عظيم، وعلى كل حال تبقى الإلياذة والأوديسا لهوميروس والإنياذة لفرجيل والحمار الذهبي للوكيوس أبوليوس ومسخ الكائنات لأوفيد، كتب تقول بقوة مقولتها الحضارية، أن أية حضارة مهما كانت قوتها فإنها حين تنتهي، لا يبقى وراءها إلا شيء واحد: الفن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد


.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد




.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا


.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس




.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام