الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جميل النوري

ثامر إبراهيم الجهماني

2011 / 11 / 11
الادب والفن


كان صاحبنا يقطع الطريق شارداً، ساهما ، عما حوله ... ومن البعيد تطل شمس الصباح ، ترسل اشعتها الدافئة ، تشق الكساد ، وتخترق الأشجار الباسقة ، أما صاحبنا فكان يمشي الهوينة قرب السور الخفيض ، وينشب إظفاره في أرنبة انفه ، يبحث عن شيء يتسلى به ، ويمسك بيده الأخرى رغيف يقضمه بلهفة .
صاحبنا اسمه "جميل النوري" اشتهر بهذا الاسم ، الكل يعرفه ، ولا يوجد أحد في المدينة إلا وسمع عنه ، أو رآه أو تندر بتصرفاته ... هو بحد ذاته لغز .... أو لنقل أن عقول الناس وأذهانهم حاكت حوله الاساطير والحكايات التي تثير المتعة والدهشة . فتارة تحمل احاديثهم بين طياتها المغامرة والبطولة .... وتارة أخرى تروى عنه الحوادث بلغة بهيجة مترعة بالعاطفة . ولم يسلم جميل من ألسنة الأطفال اللاذعة .
جميل النوري بكل بساطة رجل في العقد الرابع من عمره حسب التقديرات ، قصير القامة ، مدور الوجه صغيره ، يعتمر رداءً طويلاً من الصوف ، صيفاً شتاءً .......لم يكن أحد يعرف من أين جاء ، ومن يكون ، إلا أنه كان يسكن في الوادي ، داخل كوخ حقير ، جدرانه بقايا التنك الصدئ .
كنا نشاهده كل يوم يقف متأملاً ...... يضغط أعصابه كي لا ينفجر من الحسرة ....... وبالرغم من الوساخة البادية عليه ، إلا أن قسماته تدل على الانشراح والحبور ، فجأة يقف ، يرفع يده اليمنى في الهواء ، ويأخذ بالصراخ بفوضوية غريبة ، كزعقات الصافرة . وحين أنظر ظلال صوته تنساب الى أذني ، وتقع نظراته الملتهبة على صفحة وجهي .. لاأفهم منه شيئاً سوى الصراخ .
سألنا رجال الحي ، ونسائه كثيرا عن جميل النوري ..... أصله فصله ... ابن من هو ؟ وكيف جن ؟ . هل حدث له طارئ ؟ أم ولد على هذه الحال؟ فتأتي الاجابات متضارية .لا ندرك أي الاجابات أقرب للصواب . واليكم بعض منها :
-قال ابو سعيد العجوز ، أكبر رجال الحي:
إن جميل النوري كان مقاتلاً من الطراز الأول ، ضابطاً في الجيش ، وأثناء الحرب أخذه الأعداء أسيراً وأخضعوه لجهاز مسح الدماغ - الذي نسمع عنه بالروايات فقط - لكشف الأسرار والتي يعرفها وكشف الكذب كذلك .. لكنه ولحسه الوطني رفض الانصياع لهم وشد حبال الجهاز ، فلسعته الكهرباء ، كأفعى صحراوية ، بتوتر عالٍ ففقد أعصابه وعقله... فأطلقوا سراحه في تبادل للأسرى .
- أما الحاجّة خيرية حين سألناها عن جميل تأوهت وقالت :يا ولداه كان جميل زينة شباب الحي ! وأذكاهم ، أحب فتاة غاية في الجمال ..... وفي إحدى ليالي السمر ، ذات حميمية خالصة ، غمرته رائحتها ، وأغمض عينيه لما مالت اليه ، واستسلم لقبلاتها واجماً ، حين فاجأه شخص بلكمات وركلات ، وأخذت الدماء تسيل من كل مكان . صاحبنا ملحمة عشق لا تنتهي .
- أما أكثر الأراء اعتدالاً ، فكان رأي خالد الصادق موظف البلدية ، فقد أكد أن جميل النوري من أسرة فقيرة أصلاً لكنه عامل ماهر ، وتاجر موهوب . مات أهله ولم يبقي له الدهر إلا أخته جميلة ، التي اشتهرت بجمالها . فقط كانت الدم الجديد الذي يخترق شرايين الشباب كلما تخمرت .
- المهم أن جميل كان مجداً بعمله ، فخلال سنوات قليلة استطاع اقتناء بيت جميل وتكوين رأس مال محترم .
-لكن عقله طار منه حين خدعته أخته وباعت كل شيء وتنكّرت له وهربت مع عشيقها .
الرأي الأخير كان لشخص ليس من أهالي الحي أصلاً . إنه الطبيب الذي انتقل من القرية إلى المدينة ، منذ عقد من الزمن ، فهو يقول : إن جميل النوري هو إبن سفاح بين الأقارب ، فكان ثمرة خطيئة ألقيت في الطريق .
جميل النوري لم نعد نراه ، لا في الوادي ولا في أزقة الحي .
عدت من السفر ، فقالوا لي :
مات ... دهسته شاحنة مجهولة ،
وقالوا أيضاً :
إن جنازته كانت كبيرة ، وحضرها فقراء المدينة ، وأرباب المهن الحقيرة ، وكل متسولي المدينة وكان أحد المجانين المعروفين يصيح بأعلى صوته كما قالوا: "ياحبيبي جميل ، قد تتكسر أمواج البحر وتموت أمواج أخرى ، لكن البحر جامد وحي لا يموت .... لكنه يفرّخ آلاف الأمواج "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنانة الراحلة ذكرى تعود من جديد بتقنية -اله


.. مواجهة وتلاسن بكلمات نابية بين الممثل روبرتو دي نيرو وأنصار




.. المختصة في علم النفس جيهان مرابط: العنف في الأفلام والدراما


.. منزل فيلم home alone الشهير معروض للبيع بـ 5.25 مليون دولار




.. إقبال كبير على تعلم اللغة العربية في الجامعات الصينية | #مرا