الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإيديولوجيا في الثورات العربية والشمال إفريقية

محمد بودواهي

2011 / 11 / 12
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي


تثير بعض النقاشات اليوم القول بأن الثورات العربية قامت بلا أيديولوجيا، وإن هذا زمن "نهاية الأيديولوجيا" وبداية الأعمال ، وإن ما حدث من ثورات عربية كان هبة عامة على الاستبداد والفساد والحكم الجائر ، وليس وراء ذلك أفكار أو أيديولوجيا . وأن الأيديولوجيا اختفت أو تراجعت حيث يجب أن تنتصر مصلحة الشعب العليا على مصالح الأحزاب والتنظيمات وبغض الفئات ، بعد إزاحة الطبقات الحاكمة المستبدة بالحكم والظالمة لشعوبها والعميلة لأسيادها الإمبرياليين ولشركاتهم المتعددة الاستيطان ، وفي هذه الحالة يجب أن تغيب السياسة الحزبية والأفكار الإيديولوجية ، وتعلو فكرة واحدة ورؤية شاملة تساعد الجميع على الصمود والوحدة لحسم المعركة مع المحتل الداخلي وأسياده الخارجيين . فلم تكن الثورات عبارة عن وصفات تفصيلية تقدمها بعض المدارس السياسية لتعلم الشعوب كيف تتحرك ولا كيف تتدبر أمورها ، فارتقت الأمة في زمن المحنة لتتجاوز عقبة المذهبيات والنظريات ، ومارست الواجب في تحييد العقائد والولاء للرايات السياسية التنظيمية الجزئية في القضايا المصيرية الكبرى ، في أمل عودة كل فريق وكل مجموعة إلى إديولوجيتها المعهودة يوم يبدأ التمييز بين المنتصرين ويحتدم الصراع بين محتويات جداول الأعمال المتنوعة الرؤى والأهداف لتقسيم الغنائم السياسية بشكل ديموقراطي ، وهو ما يمثل تحدٍّيا جديدا وحقيقيا .
فبعد قراءة مقالات وكتابات لكتاب محترمين أصروا على غياب الأيديولوجيا عن الثورات العربية ، وجدت نفسي مضطرا للقول إن هذه الثورات حصاد ثقافي سياسي فكري ضخم وبناء حقوقي طويل ، ونتاج عمل أحزاب وتنظيمات ونقابات ومنظمات ومؤسسات وحركات وإطارات وصحفيين وسياسيين ومثقفين وعدد هائل من المحتجين والطلاب والتلميد والعمال والفلاحين والمعطلين وعامة الناس الدين يدوقون مرارة الاستبداد والاقصاء والتهيش والفقر والفساد والبطالة ، إلى أن أصبح المجتمع جاهزا للعمل والنضال .
فالأنظمة المستبدة تحاول أن تجعل من تبعيتها وعنجهيتها إيديولوجية في وجه إيديولوجيات حقيقية أو متخيلة : (ماركسية ويسارية وإسلامية وقومية ووطنية وثقافية ...) وشعارات المستبدين تردد وتقول وتكرر: "لا قومجية، ولا إسلاموية ولا ماركسية متطرفة ولا ثقافوية ضيقة ولا ..ولا ..."، إد هي شعارات مستوردة لتشويه الخصوصيات المحلية وتبرير الإلحاق ، والقبول بسيادة مصالح الآخرين ، أو تصوير المنافع الذاتية للمستبدين بأنها مصالح وطنية وهم حُماتها.
فالمستبدون التبعيون يحرصون أيما حرص على أن يقدموا أنفسهم على أنهم حماة الخيروالمصلحة في حرب ضد دعاة الشر والفساد ، وكان من نجاح الثورات ذكاؤها في حسن التعامل مع سلاح الأعداء السياسيين بالتخلص من السلاح المدّعى أنها وحدها لها الحق في أن تحمله ، قائلة لهم ها نحن نثور ضدكم ، ليس فقط مجردين من السلاح المادي الذي تتمنون أن نستعمله ، بل حتى من دون السلاح الأيديولوجي الذي تخيفون الناس منه، إلا حقوق إنسانية مشتركة يسلّم بها كل العالم، ولا تجعلهم في خلاف مع خصم في الخارج ولا في الداخل إلا استعماركم الجديد من خلال إدانته بفساده واستبداده وطغيانه الدائع الصيت .
فهذه الإستراتيجية نجحت تماما لأنها كانت صحيحة ، وربما لم ينفق أصحابها وقتا طويلا لتأملها لأنها كانت عفوية إلى حد كبير، وهذه حالة من الأحوال الأيديولوجية فقط إد هي تحرص أحيانا على الاختباء وراء أحداث وحقائق كحرصها على العلن والتأثير في أحوال ومواقف أخرى، فالأفكار والأحزاب والنقابات والإطارات المتعددة النظريات والتوجهات كانت على مدى عقود طويلة تعمل في الوعي العربي والإسلامي وفي اللاوعي، وتصوغ أفكارا ومواقف من العدو بشتى أنواعه وأساليب مواجهته ، ومن الدين والشريعة رفضا وتطبيقا واعتناق الإيمان أو التمرد عليه واللغة والقومية والسياسة وأنظمة الحكم ...
والحقيقة أن الأيديولوجيا حاجة بشرية . فكل عمل يحتاج لفلسفة تقنع الفرد الممارس له، ثم بمقدار نفوذه وعلاقاته يحاول أن يشرحه لغيره ، حتى يجعله عقيدة عامة، وكلما استسلم عدد أكبر من الناس لهذه العقيدة بسط الفرد هيمنته، فيتجاوز إرادته أو رضاه عن صحتها وفائدتها، فيستعبده انصاره حتى عندما يخطئ.

وهذا ما جعل ويجعل كثيرا من صناع الأيديولوجيات يتبرؤون ويخافون من إتباع الناس لهم، إما بدافع التواضع أو بدافع الطيبوبة المغروسة في أنفس بعض صناع الأفكار، أو لأنهم يرون أن الناس سيعرفون ضعفهم في تسخير الناس لفكرة كانت يوما حقا وتبين خطؤها، ولم يملك صاحبها الشجاعة للتمرد على قوله ومذهبه ذات يوم، وهذا أشبه بموقف التجرد للحق. ونماذج هذه النزاهة الفكرية عديدة جدا في ثقافتنا وعند غيرنا، ولعل من أمثلتها أولئك الذين منعوا الكتابة عنهم، ومنعوا تقليدهم، وأيدوا نقض أقوالهم بأنفسهم أو من قبل غيرهم.
إن الذين خرجوا من شتى الأطياف كان لكل منهم قضيته، ولكل أيديولوجيته الخاصة، غير أنه كانت لهم قضية واحدة جامعة، فاستطاعوا تأخير الخلافات وتقديم الأولويات، والأولوية في المجتمع العربي مواجهة السم الذي يفري في القلوب والعقول والاقتصاد والسياسة والكرامة وهو "الاستبداد"، ولهذا كان على درجة من الوضوح والقبح بحيث لا يقدم أحد على شرّه شرا، فكان مَجمع الخبائث وسر التعثر، وعين الأفراد والأفكار عليه لا تخطئه، وكان التركيز عليه أساس النجاح.
فشعار "الإسلام هو الحل" خفت في ميادين الاحتجاج، و"ثورة الخبز" توارت، و"تحرير فلسطين" لم يتاجر به أحد، وتعالى خطاب الحرية والكرامة والديمقراطية، ربما لأن هذا الخطاب الشمولي يخدم الخصوصيات الأيديولوجية الفرعية.
فثقافة المجتمع تشبعت بكل الخطابات الإسلامية والقومية واليسارية والماركسية ، وثمرتها خطاب التحرر والديمقراطية ، فقامت تنادي بحصاد ذلك، وحاجتها الإنسانية مصنوعة في قالب لا يدين لفكرة ولا مدرسة محددة ، إلا فكرة خلاص الإنسان المقموع الغائب الذي لم يسمح له أن يشارك من قبل في شيء ليقول: "أنا هنا، سأحوز كل شيء، بعد أن حرمني المستبد من كل شيء". إنه موقف شمولي يستعيد كل ثمرة الأفكار، ولا يسخر نفسه للأفكار ولا للمدارس ولا للأحزاب، بل ينفذ خير غاياتها.

ولذا، فلم تغب الأيديولوجيات عن الثورات العربية ، لا بل نضجت الأيديولوجيات فوصلت لغايتها من المرحلة الأولى ، وعقلت فأزاحت أطرافها المتصارعة ، واجتمعت على الاهتمامات الكبرى ، فالعمل السياسي يقتضي التعاون للإنجاز الذي لا يتم إلا بتجاوز الاختلافات الحادة ، ولهذا كان من أول واجبات الفئة الإصلاحية والثورية تجميد الاختلافات الايديولوجية ولو إلى حين .
إنها ثورات أحسنت هضم قصة الأيديولوجيا، وأحسنت وعي الأفكار والتصرف بها، فقيمة الفكرة العظمى هي في تنفيذها في الحياة اليومية وفي السلوك الشخصي، وإلا فما هي إلا متعة ذهنية تعبر ببعض العقول.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 5.4 مليار دولار تكلفة السيطرة العسكرية الإسرائيلية على غزة


.. تصاعد الانقسامات السياسية.. حرب غزة لم تنجح في توحيد الصف ال




.. طفلان يختبئان داخل تنورة والدتهما من البرد في غزة


.. كتائب القسام تعلن أن مقاتليها قطعوا إمداد قوات الاحتلال شرق




.. الترجي التونسي يستضيف الأهلي المصري في ذهاب الدور النهائي|#ه