الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مكي عزيز.. في مقهى الزهاوي

وديع العبيدي

2011 / 11 / 14
سيرة ذاتية



كان الاستاذ الشاعر المخضرم مكي عزيز (البرزنجي) أحد رواد مقهى الزهاوي البغدادية في بداية شارع الرشيد المطلة على ساحة الميدان. كان يحضر للمقهى صباحا ويبقى حتى منتصف الظهيرة أي الثانية عشرة أو ما يضاهيها قبل أن تشتدّ حرارة القيظ فيقوم ويعود إلى بيبت أخيه في المأمون حيث كان يقيم منذ عودته من منفاه، حيث لم يكن له بيت أو زوجة أو عائلة خاصة.
كان الاستاذ مكي عزيز في أواخر الثمانينيات وأول تسعينيات القرن العشرين هزيل القوام ضعيف البنية يقارب طوله (1.75سم)، ذا شعر خفيف وجحوظ في عينيه. كان جميل المنظر حسن الهندام، حنطيّ اللون، ذا وقار ومهابة، قليل الكلام والحركة، خفيض الصوت، حتى يكاد لا يسمع. وكان على الدوام يهتمّ بأناقة مظهره، حسب الهندام التقليدي الرسمي، يرتدي بدلة أنيقة من قطعتين، يميل لونها للأزرق الفاتح. لا يضع نظارة على عينيه في العادة. وكان مجلسه المعتاد إلى جانب الاستاذ الشاعر المحامي محمد حسين فرج الله والأستاذ المترجم سليم طه التكريتي. وكان مجلس هؤلاء في زاوية المقهى المقابلة لمدخل (الأوجاغ) حيث تصطف ثلاث (قنفات) تحتلان أول الواجهة الزجاجية التي تربطها بمدخل شارع الرشيد. (قنفتان) تصطفان مع الجدار الخلفي والثالثة تقابلهما. وفي تلك الزاوية كان يجتمع على الدوام جملة من عينة أدباء العراق وأعلامه المخضرَمين، منهم الدكتور الشاعر محمد عزة العبيدي والأستاذ المحامي الشاعر أنور عبد الحميد السامرائي والأستاذ الشاعر صاحب ياسين والأستاذ الأديب عبد الرزاق السيد أحمد السامرائي والأستاذ يعقوب شعبان الفلسطيني وأسماء أخرى عديدة أرجو أن تحضر الذهن مع الاستطراد في الموضوع.
ذات يوم دار حوار داخل المجموعة حول تقدير عمر الأستاذ مكي عزيز، وقدّره البعض ما بين السبعين والثمانين والبعض قدّره في حدود التسعين، واستشهد أحدهم بكتاب معجم شعراء العراق الذي أورده ضمن مواليد (1912). ينحدر أصل عائلته من منطقة برزنجة التي يرجع نسبها إلى أحد أئمة الشيعة الأثني عشرية، المتعارف عليهم في الأوساط الشعبية بـ(السادة). ويبدو أن شعوره بهذا الانتماء الديني الاجتماعي طبع شعره بميسم خاص، فوقف شعره في مجال التصوف ومديح بني هاشم. وعلى الصعيد السياسي انعكس هذا في تأييد الحكم الهاشمي الملكي، قريبا من الفكر السعيدي السياسي. ولكنه بالمقابل لم يشغل أية وظيفة رسمية في الدولة، منصرفا للعمل الصحفي السياسي عبر جريدتين أصدرهما على التوالي هما (النذير) و (الأمة). وقد عانى إسوة بغيره جراء تضييق الحريات وقرارات تجميد أو اغلاق الصحف في كلّ من جريدتيه فكان يلجأ لتغيير اسمها عند إتاحة الحريات التعبيرية، ضمن اضطرابات الحياة السياسية العراقية.
وعند سقوط النظام الملكي وقيام الجمهورية كان يجلس في مقهى الزهاوي يراقب حمام الاضطرابات، ويومها بدأت حملة ملاحقات للمحسوبين على الحكم الملكي، فسرّب إليه أحد رجال الأمن من معارفه ورود اسمه ضمن القوائم السوداء.. يروي الأستاذ مكي عزيز وهو في مقهى الزهاوي.. "فاستوقفت سيارة تاكسي من هنا (من أمام المقهى) ودفعت له ثمانين ديناراً (في أواخر الخميسنيات) لينقلني إلى العاصمة عمّان". وقد أقام في العاصمة الأردنية في ضيافة البلاط الملكي.
أعتقد أنه ذكر أنه أحد أربعة أخوة في عائلته. واحد من أخوته عمل لاحقا في التجارة وارتبط بعلاقة عمل مع خيرالله طلفاح الذي كانت له أعمال تجارية واسعة، فطلب هذا منه دعوة أخيه للعودة للوطن. وقد تكررت زيارة أخيه له في عمان محملا بدعوات وضمانات، للعودة إلى الوطن، ناهيك عن ظروف التقدم في السنّ. وقد رضخ أخيراً وعاد. ولكنه على عكس الضمانات والتعهدات، وبعد وصوله إلى بغداد. اقتيد إلى دهاليز الأمن وتعرض لصنوف وحشية من التعذيب والارهاب وهو في شيخوخته، بما فيها استخدام الكهرباء وقلع الأظافر، وبعد ستة أشهر من ذلك لم يطلق سراحه إلا بعد توقيع تعهد بعدم التكلم ومنعه من التعبير عن الرأي أو النشر، رغم كونه صحفيا وأديبا شاعرا.
ورغم كون رواد مقهى الزهاوي من جيل المتقاعدين وكبار السنّ ممن انقطعت علاقتهم بعالم الوظيفة والحياة الثقافية، حيث البعض يطلق عليهم (جسيل المغضوب عليهم)، لم تكن المقهى عموما – أسوة بسواها- تخلو من وكلاء الأمن وآذانهم الصاغية لكل شاردة وواردة. ولكن ذلك لم يمنع فرصة همسات مشفرة أو تبادل إشارات رمزية مؤطرة بنكات عامة. وفي ظلّ تلك الظروف الخانقة، سيما مع التباسات النظام في أواخر حرب الثمانينيات، جرت حوارات وتبادل رأي في موضوعات فكرية وسياسية راهنية. وفي إطار علاقتي مع الأستاذ الشاعر مكي عزيز تمكنت من الحصول على قصاصات ورق صغيرة تتضمن بضعة أبيات شعرية من باب التأملات أو نقد الأوضاع، وذلك بأساليب وطرق سرّية، وذلك في إطار مشروعي لدراسة رواد الفكر والثقافة العراقية في القرن العشرين*. وفي الذهن من تلك القصاصات النادرة والعزيزة جدا هذان البيتان للأستاذ الراحل مكي عزيز (1912- 1997)..
كرهْتُ بغدادَ وَأمجادَها .. كما كرهْتُ اليومَ عبَّادَها
لو كانَ للمنصورِ علمٌ بأنْ .. يحكمَها الأنذالُ ما شادَها
وللشاعر مكي عزيز عديد مجاميع شعرية يمكن تقسيمها تحت ثلاثة عناوين رئيسة:
- مديح نبوي اسلامي
- مديح البيت الهاشمي في العراق
- مديح البيت الهاشمي في الأردن
ينضوي كل نتاج الشاعر في باب الشعر الموزون التقليدي الذي يعنى بالفكرة أساسا، وهو شاعر مطبوع شعره جزل الألفاظ حسن الصنعة. ويمكن قراءة الموضوع السياسي والخطاب الراهن في ثنيات شعره التصوفي الذي يصوّر موقفا في الحياة والوجود والفكر. فالموضوع لديه ليس معنيا بذاته بقدر ما هو كناية فكرية تترجم موقفه وفلسفته الحياتية. فالبيت النبوي وامتداه في المثال الهاشمي تجسيد لنوع من أفلاطونية دينية تتلخص فيها الفضيلة والنبل والسمو في الغاية والوسيلة. والاستاذ مكي عزيز في شخصه وشخصيته اليومية لا يقدم صورة شائعة لفكرة التدين، بقدر ما يقدم صورة الحكيم الفيلسوف الأكثر انحيازا لمنظومة قيمية سامية. وقد أتاحت له حياته في مجال التأليف والنشر الارتفاع عن المعاملات السوقية الشائعة في اليوميات. وقد نذر حياته للوحدة والعزوبية والتأليف رغم تجاوزه الثمانين وقسوة تكاليف الحياة، مما يساعد في تكوين صورة بورتريه الشاعر وفهم أبعاد عالمه الفكري.
لندن
الرابع عشر من نوفمبر 2011
وديع العبيدي
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
• صدر من مشروعي في دراسة رواد الفكر والثقافة العراقية كتاب واحد عن الدكتور الشاعر يوسف عزالدين.. حياته وشعره، الذي وضعته قبل مغادرة العراق عام (1991) وتعثر اكمال بقية المشروع حتى اليوم وكان يضم نخبة طيبة من الأدباء والأعلام، -مع شديد أسفي!-.
• كان مقهى الزهاوي ملتقى ثقافيا عصاميا، أحاول استذكار بعض رموزه في هذه المحاولة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقهى ألزهاوي
طلال الربيعي ( 2011 / 11 / 14 - 16:07 )
عزبزي ألأستاذ وديع ألعبيدي
شكرا جزيلا على هذا ألمقال ألممتاز وألممتع أيضا.
وأرجو أن تسارع بكتابة ألحلقات ألقادمة بخصوص أعلام مقهى ألزهاوي, وألذي كان بمثابة مؤسسة ثقافية نحتاج ألى ألى ألمزيد من ألمثيل منها.
مع وافر أحترامي وتحياتي


2 - هذي الفروع من تلك الأصول
وديع العبيدي ( 2011 / 11 / 14 - 19:45 )
أشكرك سيدي العزيز على اهتمامك وتشجيعك ومحبتك..
أتمنى ذلك أيضا وأشعر بعبء أخلاقي منذ تركت بلدي أن أفي بالقليل لألئك الرائعين
نحن مدينين لهم.. ونحتاج لكثير من الوفاء والالتزام لنكن صنوا لذلك
محبة خاصة لك صديقي طلال الربيعي وللجميع


3 - مباركة
مهند الشاوي العراق ( 2012 / 1 / 6 - 11:18 )
دمت بكتاباتكم التي تعنى بكل الذين كان لهم دور مهم في الحياة الثقافية والادبية والفنية والسياسية.
لقد عشت مع الشاعر مكي البرزنجي (12) عاما رائعة، كان فيها مثال العم والخال لي. منحني من وقته الكثير، وكان يوجهني فيما اكتب من كتاباتي في الشعر.
له رقي في الخلق والسلوك منقطع النظير، وله دفأ ما احسسته في غيره.
لك الجنة سيدي مكي البرزنجي.

ولي ملاحظة كانت زوجتي السيدة منى على البرزنجي قد اشارت اليها وهي ان الشاعر مكي البرزنجي (عم السيدة منى) لم يكن من بين اربعة اخوة، بل من ثلاثة، كان رحمه الله اكبرهم..
مهند الشاوي فنان وشاعر هاو...


4 - تصحيح معلومة
انمار صلاح ( 2012 / 2 / 2 - 12:42 )
الشاعر هو عم والدتي السيدة بشرى البرزنجي وهي تقول فعلا ان له 4 اخوه هم السادة مكي ، نوري ، زكي ،علي . رحمهم الله وادخلهم فسيح جناته والف شكر لك يااستاذ وديع العبيدي


5 - تصحيح معلومة
انمار صلاح ( 2012 / 2 / 2 - 13:00 )
شكرا للاستاذ وديع حفظك الله

اخر الافلام

.. ا?غرب وا?طرف الخناقات بين ا?شهر الكوبلز على السوشيال ميديا


.. عاجل | غارات إسرائيلية جديدة بالقرب من مطار رفيق الحريري الد




.. نقل جريحتين من موقع الهجوم على المحطة المركزية في بئر السبع


.. سياق | الانقسام السياسي الإسرائيلي بعد حرب 7 أكتوبر




.. تونس.. بدء التصويت لاختيار رئيس الدولة